جايير بولسونارو اقترب من رئاسة البرازيل... تحت رايات الشعبوية اليمينية

رصيده الأقوى تحالف الإنجيليين والجيش وفضائح الساسة اليساريين

جايير بولسونارو اقترب من رئاسة البرازيل... تحت رايات الشعبوية اليمينية
TT

جايير بولسونارو اقترب من رئاسة البرازيل... تحت رايات الشعبوية اليمينية

جايير بولسونارو اقترب من رئاسة البرازيل... تحت رايات الشعبوية اليمينية

عندما بدأت الحملة الانتخابية لرئاسة البرازيل منتصف أغسطس (آب) الماضي، لم يكن أحد يراهن على وصول المرشح اليميني المتطرف جايير بولسونارو إلى الجولة الثانية المقررة في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، حاصداً أصوات 46 في المائة من الناخبين الذين يبلغ عددهم 147 مليوناً كبرى دول أميركا اللاتينية والخامسة على مستوى العالم.
مسافة ضئيلة تفصل هذا المرشح اليميني اليوم عن النصر النهائي بعد أسبوعين، غير أن اجتيازها لن يكون سهلاً بقدر ما سيكون من الصعب على منافسه مرشّح حزب العمّال اليساري فرناندو حدّاد أن يحقق الفوز بعدما حصل على 29.2 في المائة من التأييد في الجولة الأولى.

قد يبدو جايير بولسونارو مستجدّاً على المشهد السياسي البرازيلي الذي لم يألف مثل خطابه المتطرف والعنصري المشحون بالانتقادات اللاذعة والحقد المكشوف على الأقليات العرقية والجنسية والمهاجرين، والسخط على الطبقة السياسية الحاكمة، وفي طليعتها حزب العمّال. ذلك الحزب اليساري الذي يمرّ في أحرج المراحل بعد فضائح الفساد التي عصفت به ودفعت بزعيمه التاريخي لويس «لولا» دا سيلفا – رئيس الجمهورية الأسبق – إلى السجن وحرمته من الترشّح للانتخابات.
إلا أن هذا المرشح الشعبوي واليميني والمتطرف، الذي بات قاب قوسين من الرئاسة البرازيلية، مضى على دخوله البرلمان أكثر من ثلاثين سنة. وتنقّل خلال هذه الفترة بين تسعة أحزاب مختلفة لكنه ظلّ مغموراً، إلى أن بدأ يتصدّر عناوين الصحف والنشرات الإخبارية منذ سنتين بفعل مواقفه الراديكالية وتصريحاته الاستفزازية المثيرة للجدل والهواجس.

من هو بولسونارو؟
وُلد جايير بولسونارو في ساو باولو، «العاصمة الاقتصادية» للبرازيل. وفيها تلقّى علومه الابتدائية والثانوية، قبل أن يلتحق بالمدرسة الحربية التي تخرّج منها برتبة ضابط في العام 1977. إلا أنه أُحيل إلى الاحتياط القسري بسبب سلوكه عام 1985 عندما كان لا يزال برتبة نقيب. وبعدها، دخل المعترك السياسي متنقلا بين مجلسي الشيوخ والنواب عن مقاطعة ريو دي جانيرو.
إبان وجود بولسونارو في البرلمان شارك في عضويّة لجان الدفاع والخارجية والشؤون الاجتماعية، ولم يعرف له أي نشاط بارز في أي منها. وفي مطلع العام الماضي، بعدما تراكمت فضائح الفساد المالي في مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية التقليدية، واتسعت دائرة النقمة الشعبية على وقع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وموجة العنف المستشري، قرّر فجأة أن الساعة قد أزفت لإطلاق مشروعه السياسي نحو رئاسة الجمهورية. وجاء هذا القرار المفصلي بينما كانت شعبية حزب العمّال، الذي سيطر على المشهد السياسي البرازيلي طوال عشرين سنة، تتراجع إلى مستويات غير مسبوقة وتتفكك أوصال قواعده ويرتفع منسوب النقمة على زعمائه.
الخطوة الأولى في هذا السبيل التي أقدم عليها بولسونارو، الذي يفتقد إلى قاعدة حزبية وبرلمانية، كانت استعادة خطاب الحنين إلى الحكم العسكري الديكتاتوري الذي سبق أن استقطب تأييداً شعبياً ملحوظاً في مطالع الستينات... ومهّد للانقلاب العسكري الذي جاء مدعوماً بارتياح ظاهر في الأوساط المدنية عام 1965. أما خطوته الثانية، التي يجمع المراقبون والمحللون البرازيليون على أنها كانت حاسمة في صعوده السريع والمفاجئ، فكانت الاقتراب من الكنيسة الانجيلية المتنامية النفوذ في الأوساط الشعبية والفقيرة، والتي تملك شبكة تنظيمية واسعة وموارد مالية وإعلامية ضخمة.

دونالد ترمب... البرازيلي
قصة نجاح بولسونارو وصعوده السياسي السريع لا تختلف كثيراً عن قصة نجاح دونالد ترمب في الولايات المتحدة، والتيّار الشعبوي المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أو فوز حركة النجوم الخمس وماتّيو سالفيني في إيطاليا، ونمو التيارات الراديكالية والعنصرية والمناوئة للهجرة والمهاجرين في أوروبا.
إنها باختصار، قصة العزف على وتر الغرائز والمشاعر القوية، كالخوف والحقد، التي تحرّك الجماهير وتجذبها أكثر من أي برنامج أو مشروع سياسي. قصة السخط غير المسبوق على الطبقة الحاكمة التي - في أوروبا مثلاً - يكاد يكون هناك إجماع حول مسؤوليتها عن الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة وتدهور مستوى حياة شرائح واسعة في المجتمع، أو في أميركا اللاتينية حيث توجّه إليها أصابع الاتهام بإفساد المؤسسات واستغلالها لمصلحتها الخاصة.
يكفي لهذه الأوساط الواسعة أن تسمع خطاباً صريحاً ومباشرا يدعو إلى محاربة هذه الطبقة ومحاسبتها، حتى تتهافت على تأييده غير مكترثة بما إذا كان هذا الخطاب الشعبوي متطرفاً أو متحاملاً أو مؤيداً للديكتاتورية.
ثم إن الأساليب والأدوات التي سخّرها بولسونارو لحملته أيضا متشابهة مع تلك التي استخدمتها الأحزاب والحركات الشعبوية لتحقيق انتصاراتها غير المنتظرة. وهي تتجسّد بانتقادات لاذعة متكررة وهجوم عنيف لا يتوقف على وسائل الإعلام التقليدية، وبراعة في استخدام منصّات التواصل الاجتماعي، ومواظبة على استقطاب عناوين الأخبار أيّاً كانت المناسبة أو الوسيلة.

تصريحات ومواقف
كل التصريحات الصاعقة التي صدرت عن بولسونارو خلال الفترة الأخيرة، التي يفترض أن يكفي واحد منها لهبوط شعبية أي مرشح أو خروجه من السباق، لم تقف حائلا دون صعود شعبيته. إذ أن يقول مثلا إن المرأة لا يجب أن تتقاضى أجراً مساوياً لأجر الرجل... أو أنه يفضّل أن يموت ابنه في حادث سير إذا كان مثليّاً... أو أن ابنته أنجبها في لحظة ضعف... وأن الشرطي الذي لا يقتل ليس شرطيّاً.
كل هذه التصريحات لم تمنع بولسونارو من أن يصبح «نجم السياسة البرازيلية» بلا منازع. وعندما كان يدافع عن الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل من 1065 إلى 1985. وعن التعذيب الذي كانت تمارسه ضد المعارضين السياسيين، كان يدرك أن ما سيحضر في أذهان جمهوره هي أعمال العنف وتجارة المخدرات والاغتيالات التي أوقعت أكثر من 63 ألف قتيل في العام الماضي. وأنه عندما يستهزئ بالنساء فيقول لزميلة له في البرلمان إنه لن يغتصبها لأنها لا تستحق ذلك (!)... فلأنه كان يعرف في قراراته أن المجتمع البرازيلي «ذكوري» بامتياز، وأن مثل هذه التصريحات المستفزّة لا يمكن إلا أن تعزّز صورته عند قطاع من الجمهور كقائد حازم.

استغلال واقع مأزوم
كان بولسونارو يعرف أيضاً أن البرازيليين، الذين يقاسون أصعب أزمة اقتصادية في تاريخهم، ويعانون من أعلى معدلات العنف الاجتماعي في العالم، ناقمون بشدة على الطبقة الحاكمة التي فقدوا كل ثقتهم فيها... ومن ثم، فهم يريدون حلولا سريعة لمشاكلهم خارج الأطر التقليدية للبرامج السياسية. لكنه كان يدرك أيضا أن صعوده ما كان ناشئاً عن السخط الشعبي الذي كان يعبّر عنه فحسب، بل لأنه بتصريحاته الناريّة كان أيضا يدغدغ العنصرية الكامنة في نفوس كثيرين من البرازيليين البيض الذين لا يتجاوز عددهم نصف السكان.
لقد كان ينظر حوله ويرى كيف أن البلد الذي كان مرشّحاً - بفضل ثرواته الطبيعية الهائلة وموارده البشرية - لتصدّر معدلات النمو في العالم، ينهار اقتصاده وتتفشّى فيه آفات الفقر والعنف والبطالة، وتغرق مؤسساته في الفساد... بدءا بمجلسي الشيوخ والنواب... وصولاً إلى أجهزة القضاء والمراقبة والمحكمة الاتحادية (الفيدرالية) العليا. وكان يراقب كيف تتسع دائرة الخيبة من السياسة والسياسيين الذين يدخلون السجون بتهم الفساد أو يُعزلون من مناصبهم مثل الرئيسة السابقة ديلما روسّيف... أو كيف أن الرئيس الأسبق «لولا» الذي بلغت شعبيته في نهاية ولايته الثانية 90 في المائة بين مواطنيه، يقبع في زنزانة لن يخرج منها قبل 12 سنة.
بالمختصر المفيد، أدرك بولسونارو أن البرازيل بحاجة ماسّة إلى «منقذ»، ورأى أنه الرجل المناسب ليتقمّص هذا الدور الراسخ بعمق في الثقافة السياسية والاجتماعية في أميركا اللاتينية. وبما أن «المنقذ» في هذه المنطقة من العالم لا يأتي إلا من طينة العسكر والمؤسسة الدينية، جهّز خطابه بهذه العدّة وفتح أبواب مشروعه على الكنيسة الإنجيلية التي سخّرت قدراتها التنظيمية والمالية والإعلامية لدعمه، وعلى المؤسسة العسكرية التي ترشّح نحو 200 من القدامى في صفوفها للانتخابات البرلمانية. وبالفعل، اختار بولسونارو معه مرشحاً لمنصب نائب الرئيس الجنرال المتقاعد هاملتون موراو، الذي افتتح حملته بتصريح أكّد فيه أن «الدستور قابل للتعديل من غير الرجوع إلى الشعب»، وأنه «بإمكان الحكومة أن تنقلب على ذاتها وتسلّم الأمن للقوات المسلحة».

تحالف الجيش والإنجيليين

التفاف المؤسسة العسكرية حول ترشيح بولسونارو، وإن بشكل غير معلن، لم يكن إنجازاً له صعب المنال وذلك نظراً لتاريخه ومواقفه الإيجابية المعلنة من الديكتاتورية بيد أن هويّته «الكاثوليكية» كانت تقف حاجزاً لإشكال في وجه حصوله على دعم تأييد الكنيسة الإنجيلية (البروتستانتية المتشددة) التي تركّز معظم جهودها لاستمالة المسيحيين من أتباع الفاتيكان. لكنه في العام 2016 توجّه مع أولاده إلى الأردن برفقة كاهن إنجيلي قام بتعميدهم في مياه النهر، ومن ثم، تحوّل من كاثوليكي يميني متطرف إلى إنجيلي متعصّب يضمن تأييد 28 في المائة من مواطنيه الذين يتبعون المذهب البروتستانتي الإنجيلي.
هذا ما يفسّر حصول بولسونارو على 46 في المائة من الأصوات في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة بعد أن كانت آخر الاستطلاعات تتوقع حصوله على 35 في المائة. في أفضل الأحوال. ويرجّح المراقبون أن تكون الكنيسة الإنجيلية البرازيلية، مدعومة بامتداداتها العالمية (الأميركية، بالذات)، قد لعبت دوراً في دفع المؤسسات المالية المحلية والأجنبية إلى سحب اعتراضاتها على ترشحه، لا بل إلى الترحيب به، خاصة بعدما صمدت شعبيته وارتفعت في أعقاب المظاهرات النسائية الحاشدة التي خرجت في أوّل الشهر احتجاجا على تصريحاته المهينة للمرأة.

أسواق المال مرتاحة
وحقاً، ما أن ظهرت نتائج الجولة الأولى التي كادت تحسم لمصلحته المعركة باكراً، حتى سارعت أسواق المال إلى الاحتفاء به والتنويه ببرنامجه المالي. كيف لا وهو الذي عهد به إلى مستشار متخرّج من «مدرسة شيكاغو الاقتصادية» – أي التوجهات الفكرية الاقتصادية الليبرالية اليمينية التي ارتبطت ببعض كبار المنظرين والأكاديميين في جامعة شيكاغو، منهم البروفسور ميلتون فريدمان – يروّج منذ أسابيع لخصخصة المؤسسات العامة، واستغلال الأراضي الزراعية التي كان «لولا» قد خصّصها للسكان الأصليين ولإقامة محميات طبيعية حفاظاً على البيئة في البلد... الذي ينتج 10 في المائة من الأكسجين في العالم.
وبينما كان سعر صرف الدولار الأميركي يتراجع لأول مرة منذ أربع سنوات، وبورصة ريّو دي جانيرو تسجّل ارتفاعاً لم تعرفه منذ العام 2016. كانت الجبهة الزراعية في البرلمان التي تضمّ الأحزاب الريفية القوية تعلن تأييدها لبولسونارو، وعقبتها الكتلة الإنجيلية الواسعة النفوذ في المدن الكبرى.
وفي هذه الأثناء كان بولسونارو، الذي امتنع عن إجراء مقابلات صحافية خلال الحملة الانتخابية، يُكثر من الأحاديث والتصريحات الهادئة والمطمئنة لتبديد الصورة التي ارتسمت عنه بعد مواقفه العنصرية والمتطرفة. حتى أنه لم يتردد في انتقاد مرشحه لمنصب نائب الرئيس على ما قاله بشأن تعديل الدستور والانقلاب الذاتي، مدعياً أنه يلتزم أحكام الدستور ويحترم المرأة والأقليات... وما شابه ذلك.
أيام حاسمة
أخيراً، قبل أسبوعين من الجولة الأولى للانتخابات قال جايير بولسونارو إنه لن يقبل بالنتيجة ما لم يكن هو الفائز. يومها لم يكن يتوقع أنه في الجولة الأولى سيلامس النصر لأول مرة في تاريخ انتخابات الرئاسة البرازيلية منذ العام 1998 عندما فاز بالرئاسة فرناندو كاردوزو.
لم يكن في حساب بولسونارو هذا العدد الهائل من البرازيليين المستعدّين لإضرام النار في الهشيم السياسي على أمل أن يقوم نظام جديد من الرماد. إلا أن المسافة التي تفصله الآن عن الفوز في الجولة الثانية بنهاية هذا الشهر تبدو قصيرة جداً. نعم، قصيرة جداً بالمقارنة مع تلك التي على منافسه اليساري حداد أن يجتازها للوصول إلى الرئاسة.
مع هذا، ينتظر حلم بولسونارو عقبات عدة، ليس أقلها ضمانه كل الأصوات التي أيدته في الجولة الأولى.


مقالات ذات صلة

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة

حصاد الأسبوع تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة للعاصمة الموزمبيقية مابوتو (رويترز)

موزمبيق و«فريليمو»... لمحة تاريخية وجيو ـــ سياسية

منذ ما يقرب من خمسين سنة يتربع حزب «فريليمو»، أو «جبهة تحرير موزمبيق»، على سدة الحكم في موزمبيق، مرسّخاً نظام الحزب الواحد، مع أن دستور البلاد المعدل عام 1992

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 يناير

راغدة بهنام (برلين)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.