تبعات «بريكست» الاقتصادية تهدّد مستقبل بريطانيا السياسي

خلافات المحافظين ترجّح سيناريو «الخروج دون اتفاق» وسط تحذيرات أوروبية ودولية

تبعات «بريكست» الاقتصادية تهدّد مستقبل بريطانيا السياسي
TT

تبعات «بريكست» الاقتصادية تهدّد مستقبل بريطانيا السياسي

تبعات «بريكست» الاقتصادية تهدّد مستقبل بريطانيا السياسي

إنه الأول من شهر أبريل (نيسان) 2019، الساعة تشير إلى الثانية فجراً، يتلقى قائد طائرة تجارية بريطانية متجهة إلى باريس اتصالاً من أحد موظفي برج المراقبة الفرنسي يدعوه إلى العودة من حيث أتى، ذلك «إنكم لا تتوفرون على رخصة صالحة للهبوط في هذا المدرج». وعلى بعد نحو ألف كلم من الأجواء الفرنسية، استيقظ بعض سكان مدينة دانموري بإقليم آيرلندا الشمالية ليكتشفوا أن شركات الكهرباء المتمركزة في آيرلندا المجاورة علّقت خدماتها؛ ما أدى إلى انقطاع عام للكهرباء في جزء كبير من شوارع مدن الإقليم التابع للندن.
سيناريو هو «الأسوأ والأبعد»، وفق وصف الحكومة البريطانية. لكنه قد يتحول إلى حقيقة تصدم البريطانيين بعد 29 مارس (آذار) المقبل الذي هو موعد خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي، إذا فشل الجانبان في التوصل إلى اتفاق يؤطّر العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية والاجتماعية بينهما.
تجديد تراخيص الطيران المدني لدى وكالة سلامة الطيران الأوروبية وضمان بقاء آيرلندا الشمالية طرفاً في «سوق الكهرباء الموحّدة» سيكونان بين مئات الإجراءات التي يتحتّم على القطاعين الحكومي والخاص في بريطانيا حسمها قبل انتهاء مهلة «بريكست». فما هي تداعيات هذا السيناريو على بريطانيا والاتحاد الأوروبي؟ وهل يمكن تفاديه خلال الأشهر الستة المقبلة؟

تنخرط الحكومة البريطانية وسلطات الاتحاد الأوروبي في بروكسل في مفاوضات مستمرة منذ الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي «بريكست» يوم 23 يونيو (حزيران) 2016. وبينما توحي معظم التقارير الإعلامية من الجانبين بأنهما لم يحرزا أي تقدّم يُذكر، فإنهما اتفقا على ثلاث قضايا عالقة على الأقل:
الأولى «فاتورة الطلاق»، أي الالتزامات المالية البريطانية التي وافقت لندن مسبقاً على تسديدها، سواءً تعلّقت بمساهمتها في الميزانية الأوروبية لعام 2019، أو بالمشروعات التي التزمت بالمساهمة في تمويلها. وبعد شهور من الجدال حول قيمة هذه الفاتورة، وتداول مبالغ تصل إلى 90 مليار جنيه إسترليني، اتفق الطرفان على 39 مليار جنيه (52 مليار دولار). والثانية، تتعلق بضمان حقوق المواطنين البريطانيين المقيمين في دول الاتحاد الأوروبي (1.22 مليون في 2017)، والأوروبيين المقيمين في بريطانيا (3.8 مليون). والثالثة، فتتّصل بفترة انتقالية تتيح لبريطانيا البقاء في السوق الموحّدة حتى ديسمبر (كانون الأول) 2020.
في المقابل، ما زال المفاوضون، من الجهتين، يحاولون التوصل إلى صيغة مُرضية حول العلاقة التجارية التي ستجمع لندن بالاتحاد بعد تخلّيها عن عضويته، فضلاً عن دور محكمة العدل الأوروبية. ولعلّ القضية التي تطرح التحدّي الأكبر في هذا الإطار هي تلك المتعلّقة بمصير الحدود الفاصلة بين آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا. ذلك أن الجانبين يريدان حدوداً مفتوحة، لكنهما يختلفان على كيفية تنفيذ ذلك.
الوثيقة السرية التي نشرتها صحيفة «الغارديان» البريطانية تسببت في إحياء المخاوف حول مستقبل آيرلندا الشمالية في فترة ما بعد «بريكست». إذ ذكرت، أن الإقليم قد يعاني من انقطاع في الكهرباء وارتفاع كبير في أسعارها إذا فشلت لندن وبروكسل في التوصل إلى اتفاق قبل 29 مارس المقبل. وتوضح الوثيقة، التي تداولها مسؤولون في الحكومة البريطانية، أن آيرلندا الشمالية ستفقد قدرتها على استخدام إمدادات الكهرباء من جمهورية آيرلندا. ويعود ذلك، وفق «الغارديان»، إلى أن آيرلندا الشمالية قد تفقد عضويتها في «سوق الكهرباء الموحّدة» التي تجمعها بآيرلندا منذ عقد من الزمن.
أما دور محكمة العدل الأوروبية، فإنه يطرح جدلاً من نوع آخر؛ إذ إن أساس الحملة البريطانية للخروج من الاتحاد قام على شعار «استعادة السيطرة» ورفض أي «تدخّل أوروبي في الشؤون البريطانية». لكن بقاء لندن جزءاً من الوكالة الأوروبية لسلامة الطيران أو الاتفاق الأوروبي على مذكرات التوقيف، أو حتى وكالة الأدوية الأوروبية، يحتّم عليها قبول سلطة المحكمة الموجودة في لوكسمبورغ.

تداعيات «الخروج دون اتفاق»

إذا فشلت المفاوضات الأوروبية - البريطانية خلال الأشهر المقبلة، فإن بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق في مارس 2019. أي أنها ستغادر السوق المشتركة وتوقف الاعتراف والعمل بالقوانين الأوروبية، بينما ستعامل الهيئات الأوروبية في بروكسل بريطانيا كأي دولة ثالثة لا تجمعها بها أي اتفاقيات من أي نوع. بمعنى آخر، فإن الاتحاد الأوروبي سيفرض رسوماً وإجراءات جمركية على السلع والخدمات البريطانية، فضلاً عن معاييره الصحية المعقدة. وستتسبب الحواجز الجمركية وغير الجمركية الجديدة في ازدحام وساعات انتظار طويلة في المطارات والموانئ، وقد تؤدي إلى تراكم السلع التي تصدّرها بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي بانتظار مراقبتها؛ ما سيضاعف كلفة التصدير والاستيراد لدى الجانبين.
أيضاً، في غياب اتفاق تجاري بعد «بريكست»، ستحل قواعد منظمة التجارة الدولية محل القواعد الأوروبية. وبالتالي، فإن المصدّرين البريطانيين سيتحمّلون رسوماً جمركية منخفضة في مجملها، لا تتجاوز 5 في المائة في معظم المجالات، باستثناء صناعة السيارات (10 في المائة) وفق تقرير لمركز الدراسات الجيوسياسية «ستراتفور» الأميركي. لكن، الأهم من هذه الصناعات هو قطاع الزراعة البريطاني، الذي سيواجه رسوماً مرتفعة تصل إلى 11 في المائة. في المقابل، قد تفرض بريطانيا بدورها رسوما على المصدّرين الأوروبيين، ما سيرفع سعر المنتجات المستوردة.
وفي حين يبحث رجال الأعمال والشركات الناشطة في مجال التصدير والاستيراد على سبل تخفيف الخسائر، تتّجه أعين الاقتصاديين إلى قطاع الخدمات البريطاني الذي يمثّل 80 في المائة من الاقتصاد وفق مكتب الإحصاءات الوطنية. ففي إطار الاتحاد الأوروبي، تستفيد بريطانيا من السوق الأوروبية الموحّدة للوصول إلى ملايين المستهلكين في 27 دولة، من دون طلب ترخيص من كل دولة على حدة. كما أن أبرز المستفيدين مما يسمى في عالم المال بـ«حقوق جواز السفر» Passporting Rights هو القطاع المصرفي الذي يمثّل نحو 6 في المائة من إجمالي الناتج المحلّي، وسيكون من بين أكثر القطاعات التي ستتأثر سلباً من «بريكست دون اتفاق».
ولا يقتصر اقتصاد الخدمات على القطاع المالي والمصرفي، بل يشمل الخدمات القانونية، والمحاسبة، والصناعات الإعلانية، والإعلام، والهندسة، والطيران، غيرها. كل هذه القطاعات قد تفقد قدرتها على الوصول إلى السوق الأوروبية، في غياب اتفاق بريطاني - أوروبي يسمح لها بالحفاظ عليه.
من جهة أخرى، ناقضت دراسة نشرت أول من أمس الخطاب السياسي الذي يدفع به داعمو «بريكست»، والمعتمد على أن لندن ستصبح مركزاً عالمياً للخدمات، وبالتالي، ستستطيع الانفتاح على الخارج من دون قيود بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. إذ يقول الاقتصاديان جوناثان إيتون وسامويل كورتن من جامعتي بنسلفانيا الحكومية وييل الأميركيتين، الحائزان جوائز في علم الاقتصاد، إن بريطانيا ستخفق في مساعيها للتحول إلى مركز عالمي للخدمات بعد «بريكست»؛ لأن «عامل القرب الجغرافي يؤثّر في تجارة الخدمات وتجارة البضائع بالقدر نفسه تقريباً». وأضافا، أن بريطانيا تتاجر في الخدمات مع إسبانيا 3 مرات أكثر من أستراليا على سبيل المثال، كما أشارا إلى أنه في الوقت الذي لا تؤثّر فيه أسعار النقل على الخدمات، إلا أن جزءاً كبيراً منها لا يزال يعتمد على التعامل وجهاً لوجه. واستنتج إيتون وكورتن، بناءً على دراسة شاملة حول تأثير المسافة على التجارة في البضائع والخدمات عبر العالم، أن «(بريكست) سيخلق عوائق إضافية أمام قطاع الخدمات البريطاني ويحرمه من فرص كثيرة». غير أن اقتصاديين مؤيدين لـ«بريكست» رفضوا هذه النتائج، معتبرين - وفقاً لصحيفة «فاينانشيال تايمز» - أن الدراسة المذكورة تعتمد على معايير دولية لا بريطانية.
جدير بالذكر، أن بريطانيا لن تكون الخاسر الوحيد من «بريكست دون اتفاق». ذلك أن خروج لندن يهدد فرص تسديدها مستحقاتها المالية المتبقية، التي تُقدّر بـ39 مليار جنيه. سيتسبب ذلك في نقص حاد في الميزانية الأوروبية، بينما ستستخدم بريطانيا هذا المبلغ لدعم نظام الصحة (أحد وعود حملة الخروج)، أو لدعم أكثر المتضررين من «بريكست»، مثل المزارعين. وفي هذه الأجواء، يُستبعد أن تصل لندن وبروكسل إلى اتفاق تجاري حتى على المدى الطويل؛ ما سيضاعف العواقب الاقتصادية على الجانبين، وبالتالي، قد يشجع الاتحاد الأوروبي على التنازل عن جزء من «فاتورة الطلاق»، وبريطانيا على الموافقة على تسديد مستحقاتها.

تحذير دولي وإجراءات بريطانية

لقد لخّص صندوق النقد الدولي، في تقريره السنوي حول الاقتصاد البريطاني، التداعيات الاقتصادية التي يتوقع أن تترتّب عن «بريكست»، التي قد يعاني منها كل من بريطانيا والاتحاد الأوروبي في حال الخروج بلا اتفاق. ويتوقع التقرير أن الدول الأوروبية ذات الاقتصادات القريبة من بريطانيا ستعاني من تباطؤ نموها الاقتصادي، مثل آيرلندا وبلجيكا والدنمارك وهولندا. ويتوقع الصندوق أن يتراجع النمو الاقتصادي في الدول الـ27 بنحو 1.5 في المائة بحلول 2030 في المتوسط. وفي المقابل، ستعاني بريطانيا من تباطؤ اقتصادي حاد قد يصل إلى 4 في المائة خلال السنوات العشر التي ستعقب «بريكست». واعتبر الصندوق في تقريره، الذي اتسم بلهجة تحذيرية واضحة، أن التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي «جوهري» لتخفيف أثر الحواجز الجمركية وغير الجمركية الجديدة، وبالتالي، حماية نمو الاقتصاد والرواتب في بريطانيا ودول الاتحاد على حد السواء.
أيضاً، كشف تقرير حكومي بريطاني مسرّب في يناير (كانون الثاني) الماضي، عن توقع انكماش الاقتصاد بنحو 8 في المائة في السنوات الـ15 بعد الخروج، في حال فشل الجانبان في التوصل إلى اتفاق. لكن في «سيناريو» توصّل لندن وبروكسل إلى اتفاق تجارة حرة، توقّع التقرير أن يتراجع الاقتصاد بـ5 في المائة، مقارنة مع 2 في المائة فقط إذا بقيت بريطانيا في السوق الأوروبية الموحدة.
في أي حال، لتفادي «سيناريو» قلق الأسواق وانهيار العملة البريطانية غداة «بريكست»، عيّنت الحكومة البريطانية آلاف الموظفين للمساعدة في التخطيط لانتقال سلس بعد انتهاء عضوية لندن في الاتحاد الأوروبي، كما خصصت مبلغ 3 مليارات دولار لتمويل تكاليف الخروج. وبدأ البرلمان البريطاني في نقل الإطار التشريعي الأوروبي إلى القانون البريطاني، بينما تبحث الحكومة عن سبل الحفاظ على التمويل الأوروبي لبعض المشروعات البريطانية، أو الاستعاضة عنه بتمويل بريطاني قبل انتهاء الفترة الانتقالية. إلا أن الأهم من ذلك هي الجهود التي تبذلها لندن لطمأنة قطاع الأعمال؛ إذ نشرت سلسلة مذكرات تفسيرية وتوجيهات للمؤسسات والشركات والأفراد لمواكبة التغييرات التي قد تطرأ بعد خروج دون اتفاق. لكن، رغم تحضيرات الحكومة البريطانية، فإن الأزمة السياسية التي تعاني منها النخبة السياسية الحاكمة تحول دون طمأنينة الأسواق.

رفض أوروبي «خطة تشيكرز»

من ناحية أخرى، في 6 يوليو (تموز) الماضي، خرجت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بخطّة أعلنت أنها ستؤطر «علاقتنا مع الاتحاد الأوروبي». واعتبرت أن الخطة التي صاغتها مع أعضاء من حكومتها في المقر الريفي لرئاسة الوزراء ببلدة تشيكرز، تحمي الوظائف البريطانية وتحترم نتيجة الاستفتاء. لكن سرعان ما تبيّن أن الخطة لم تلقَ قبولاً لدى أبرز المؤيدين والداعين لـ«بريكست» داخل حكومتها، ولدى قادة الدول الأوروبية الذين اعتبروها «انتقائية لصالح لندن». ودفعت الخطة التي حملت اسم «تشيكرز»، وزيري الخارجية بوريس جونسون وشؤون الخروج ديفيد ديفيس إلى الاستقالة من منصبيهما، وإطلاق حملة ضغوط قد تؤدّي إلى عزل ماي قبل «بريكست». أما قادة الاتحاد الأوروبي، فقد عبّروا عن رفضهم «خطة تشيكرز» خلال اجتماعهم في سالزبورغ بالنمسا الأسبوع الماضي، وطالبوا بإعداد اقتراح بديل في قمة بحلول منتصف أكتوبر (تشرين الأول).
تنص خطة ماي على أن تطبق بريطانيا قوانين الاتحاد الأوروبي على السلع، لكن ليس على الخدمات، مع الاحتفاظ بحرية إبرام اتفاقياتها التجارية مع دول من خارج الاتحاد. لكنها ترفض حرية التنقل بين بلادها ودول الاتحاد الأوروبي. وأكدت ماي، أن «ما من خطة أخرى» تحمي الوظائف وتحقق وعود انتخابات 2016 لـ«بريكست»، وتتجنب حدوداً فعلية بين آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا. وقالت ماي أيضاً، إنه بينما تضع بريطانيا حداً لحرية تنقل العمال من الاتحاد الأوروبي بعد الخروج، ستواصل السماح للشركات والجامعات «بأن تجذب من هم الأذكى والأفضل».
في المقابل، لم يُخف السياسيون الأوروبيون في سالزبورغ استياءهم من «الانتقائية البريطانية». وعبّر وزير المالية الفرنسي، برونو لومير، بأوضح العبارات عن الرفض الأوروبي لـ«خطة تشيكرز». وقال - وفق موقع «بلومبيرغ» الإخباري، إن خطة ماي تهدد بـ«نهاية أوروبا» إذا اعتُمدت. وأوضح أن «ما يهمّنا أكثر من مستقبل المملكة المتحدة هو مستقبل الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، فإننا لن نتخذ أي قرار قد يُضعف مستقبل الاتحاد». وأضاف لومير، أن مقترح تشيكرز ينتهك خطوطا حمراء كثيرة. نطالب باتفاق متكامل، وليس (خطة) حول البضائع فحسب». وبدأ أن لومير يتحدث من منطلق أن الموافقة على «خطة تشيكرز» قد تشكل سابقة مفادها أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تستطيع الخروج من الاتحاد والتخلي عن التزاماتها، دون فقدان أي من مميزات السوق الاقتصادية الموحدة.
بدورها، اعتبرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل هذا الأسبوع أن لندن لم تعبّر بعد عن موقف واضح يتعلق بمستقبل علاقاتها بالاتحاد الأوروبي بعد «بريكست». وأشارت إلى أن الفترة المتبقية ليست سوى «ستة إلى ثمانية أسابيع» للتوصل إلى اتفاق. وتابعت الزعيمة الألمانية في برلين «أمامنا ستة إلى ثمانية أسابيع من العمل الشاق جدا، وبعدها يتعين اتخاذ قرارات سياسية. وهذا رهن إلى حد كبير بما تريده بريطانيا فعلاً، وهذه النقطة ليست واضحة كثيراً». ثم أضافت «يتعين عليّ أيضاً أن أقولها: لا يمكننا الانتماء إلى جزء من السوق الموحدة وليس إلى ثلاثة أجزاء أخرى»، في تلميح لعرض ماي في خطتها إقامة منطقة للتبادل الحر للسلع الصناعية والمنتجات الزراعية، لكن ليس للخدمات والأشخاص.

«فراشة دبلوماسية»

في الأيام القليلة التي أعقبت قمّة سالزبورغ، أكّدت ماي ووزراؤها تمسّكهم بـ«خطة تشيكرز». وقالت في بيان متلفز من مقر الحكومة بـ«داوننغ ستريت»، إن المباحثات وصلت إلى «طريق مسدود» قبل ستة أشهر من موعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأسابيع فقط من الموعد الأقصى لإبرام اتفاق ينظم عملية الخروج، محملة بروكسل المسؤولية. وأردفت «طوال هذه العملية، تعاملت مع الاتحاد الأوروبي بكل احترام. لكن المملكة المتحدة تتوقع معاملة بالمثل. والتوصل إلى علاقات جيدة بنهاية هذه العملية يتوقف على ذلك». ومن جانبه، قال دومينيك راب، وزير الدولة لشؤون الخروج، إن بلاده لن «تنتقل من خطة إلى أخرى كفراشة دبلوماسية. سنتمسّك بخطتنا، ونضغط على الاتحاد الأوروبي لمعاملتنا باحترام».
في هذه الأثناء، اعتبرت الصحافة البريطانية أن ماي تعرضت «للإذلال» من قبل القادة الأوروبيين، قبل أيام من اجتماع لحزب المحافظين الحاكم، حيث يقود المشككون بالاتحاد الأوروبي حملة من أجل دفع ماي للتشدد في مفاوضات الخروج أو إسقاطها. وقالت ماي، إنه «ليس مقبولاً أن يتم ببساطة رفض مقترح الطرف الآخر من دون شرح مفصل ومقترحات مقابلة. نحتاج الآن إلى أن نسمع من الاتحاد الأوروبي ما هي المسائل الحقيقية، وما هي البدائل التي يقترحونها، حتى نتمكن من مناقشتها». وأضافت رئيسة الوزراء البريطانية «في انتظار ذلك، علينا أن نواصل العمل من أجل إعداد أنفسنا (لاحتمال) عدم التوصل إلى اتفاق».

بلد مفتوح للأعمال

هذا، وبينما ترسل التطورات السياسية مؤشرات ملتبسة إلى الأسواق، تعمل ماي على طمأنة مسؤولي قطاع الأعمال إلى أن بريطانيا ستكون «مراعية للشركات»، وسيكون لديها أدنى ضريبة على الشركات بين دول مجموعة العشرين. وقالت في تصريحات قبل أيام، إن «بريطانيا في مرحلة ما بعد (بريكست) ستكون بريطانيا مراعية للأعمال من دون شك»، مضيفة، أن على الشركات أن «تتطلع إلى عالم ما بعد (بريكست) بثقة». وأضافت «مهما كان نوع أعمالكم، فإن الاستثمار في بريطانيا ما بعد (بريكست) سيعطيكم أدنى نسبة ضرائب على الشركات بين مجموعة العشرين»، التي تضم 20 من أكبر الاقتصادات في العالم.

«الخيار الكندي المحسّن»

في غضون ذلك، برزت خطة موازية لـ«خطة تشيكرز»، يدعمها وزير الخروج السابق ديفيد ديفيس، والنائب المحافظ المثير للجدل جاكوب ريس موغ. وأصبحت الخطة البديلة تُعرف باسم «الخيار الكندي المحسن». وتنص الخطة، التي روّج لها النائبان البارزان هذا الأسبوع في لندن، على «اتفاق تجارة حرة محسّن» مع الاتحاد الأوروبي بعد «بريكست»، شبيه باتفاق كندا، وفق ما نقلته شبكة «سكاي نيوز». ويقوم اتفاق التجارة الحرة، المعروف بـ«الاتفاقية الاقتصادية والتجارية الشاملة»، الذي تفاوضت عليه أوتاوا مع بروكسل لمدة سبع سنوات، على إزاحة معظم الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع، وبعض المفروضة على الخدمات. ويستثني الاتفاق بعض المواد الغذائية «الحساسة»، على غرار البيض والدواجن. كما تطالب بروكسل كندا بالامتثال لمعاييرها دون المساهمة في صياغتها أو التصويت عليها، فضلاً عن توضيح مصدر تصنيع البضائع المصدرة؛ ما يعيق أو يؤخر عملية التصدير.
لكن تحت هذا الخيار، قد تواجه المصارف البريطانية عوائق للوصول إلى السوق الأوروبية. وسبق أن رفضت رئيسة الوزراء، في خطاب ألقته بفلورنسا في إيطاليا قبل أشهر هذا الخيار، معتبرة أن «بريطانيا قادرة على التوصل لاتفاق أحسن من ذلك». كذلك انتقدت ماي تداعيات هذه الخطة المحتملة على الحدود بين آيرلندا وآيرلندا الشمالية.

«بريكست» في أرقام

> 51.9%: نسبة البريطانيين الذين صوتوا لصالح «بريكست»
> 39 مليار جنيه (52 مليار دولار): القيمة المتوقعة لفاتورة الطلاق
> ديسمبر 2020: تاريخ انتهاء الفترة الانتقالية
> 2.9 مليون: عدد المواطنين الأوروبيين المقيمين في بريطانيا
> 1.2 مليون: عدد البريطانيين المقيمين في دول الاتحاد الأوروبي
> 45%: حجم الصادرات البريطانية إلى الاتحاد الأوروبي


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.