الشخصية العراقية... رافدينية؟ عربية ـ إسلامية؟ بدوية؟

الحيدري يواصل مشروعه في دراسة سماتها وتغيراتها

جانب من  المتحف العراقي  - غلاف الكتاب
جانب من المتحف العراقي - غلاف الكتاب
TT

الشخصية العراقية... رافدينية؟ عربية ـ إسلامية؟ بدوية؟

جانب من  المتحف العراقي  - غلاف الكتاب
جانب من المتحف العراقي - غلاف الكتاب

كثيرون هم الذين كتبوا عن «الشخصية العراقية»؛ أبرزهم علي الوردي، وحنّا بطاطو، وعبد الجليل الطاهر، وقيس النوري، وقاسم حسين صالح... وسواهم من المختصين بعلم الاجتماع وفروعه المتعددة، ولكن قليلون منهم مَنْ أكملوا هذا المشروع، ووضعوا اللمسات الأخيرة عليه.
ويبدو أن الدكتور إبراهيم الحيدري هو أول عالم اجتماع تُتاح له فرصة دراسة «الشخصية العراقية» وتتبّع سماتها الثابتة والمتغيّرة في جميع المراحل التاريخية حتى الوقت الحاضر. وإذا كان الراحل علي الوردي قد توقف عن دراسة هذا المشروع لأسباب سياسية قاهرة ولم يشبعه رصداً وبحثاً وتحليلاً، فإن إبراهيم الحيدري قد أخذ على عاتقه إكمال مشروع دراسة الشخصية العراقية، فبعد أن أصدر الجزء الأول من ثلاثية «الشخصية العراقية»، ها هو يصدر الجزء الثاني الذي يحمل عنوان: «الثابت والمتحوّل في الشخصية العراقية» الذي صدر عن «دار ومكتبة عدنان» ببغداد، وسوف يصدر في القريب العاجل الجزء الثالث الذي رصد فيه تشوّه الشخصية العراقية غِبّ الاحتلال الأميركي للعراق.
يتضمّن الكتاب مقدمة، وثلاثة فصول رئيسية، وخُلاصة، إضافة إلى ثبت بالمصادر والمراجع العربية والأجنبية. يمكن تشخيص المهيمنة الفكرية التي يشتغل عليها الباحث بسهولة، وهي أنّ الشخصية العراقية منقسمة على ذاتها، «واحدة تسلّطية قامعة، والثانية نكوصية خاضعة» فكيف السبيل إلى بناء شخصية عراقية وطنية متوازنة تتخلّص من كل ترسبات الماضي السحيق، وتستشرف المستقبل، لتنفتح في خاتمة المطاف على الذات والآخر ما دام أنها تعيش في مجتمع فسيفسائي متعدد القوميات والأديان والمذاهب واللغات؟
يرصد الباحث في الفصل الأول إشكالية الثقافة وعلاقتها الجدلية بالشخصية، ثم يقدم لنا تعريفات متعددة للثقافة ودروها في التنشئة الاجتماعية، وتشكيل الذهنية العراقية بشقيها الفردي والجماعي. ثم يتوسع في دراسة العلاقة بين الثقافة والسلطة الشمولية التي تتلاشى فيها الحريات ومنظومة القيم الديمقراطية.
وفي ما يتعلق بمفهوم الشخصية، فقد قدّم الحيدري تعريفات متعددة لها مستعيناً بالنظريات الاجتماعية والنفسية الحديثة لسيغموند فرويد، ويونغ، وأدلر، وأدورنو، وأريش فروم... وغيرهم؛ حيث أكد فرويد على وجود نمطين للشخصية؛ هما «المُنبسِط» الذي ينفتح على الآخرين، و«المُنطوي» الذي يتقوقع على ذاته. أما ألفريد أدلر فقد حدّد الشخصية بثلاثة أنماط؛ هي «العُدوانية» و«الانطوائية» و«المُنبسطة»، وركز في أبحاثه على عقدتي النقص والتفوق والكمال، فيما ذهب أريش فروم إلى تقسيم الشخصية إلى نمطين؛ هما «الشخصية السوية» و«الشخصية غير السوية»، وانتقد فرويد باعتباره سجيناً لأخلاقيته البرجوازية، وقيمه الأبوية.
تتبع الحيدري آراء عدد من المختصين العراقيين والعرب بالشخصية العراقية؛ وأولهم علي الوردي بفرضياته الثلاث المعروفة، وهي «ازدواجية الشخصية، والصراع بين قيم البداوة والحضارة، والتناشز الاجتماعي». أما المؤرخ الفلسطيني حنّا بطاطو فقد وصف الشخصية العراقية «بالمراهقة السياسية، والفرديّة، وحُب الذات، والانفعال، وعدم تحمّل المسؤولية». كما عدّها الدكتور عبد الجليل الطاهر «قلقة ومتقوقعة» ولم تستطع توحيد نفسها وصهرها بالآخر الذي يتعايش معها منذ آلاف السنين. فيما وصف الدكتور قيس النوري المواطن العراقي بأنه «عفيف من الخارج، وماجِن من الداخل».
يتمحور الفصل الثاني حول سمات وخصائص الشخصية العراقية، ويعتقد الحيدري أن الإنسان العراقي يحمل في أعماقه ترسبات ماضيه البعيد والقريب؛ فهو يحمل بقايا خصائص رافدينية، وسمات عربية - إسلامية، ورواسب من القيم البدوية، إضافة إلى مظاهر الشخصية العراقية الحديثة. وعلى الرغم من موروثه الحضاري السومري والبابلي والآشوري والأكدي، فإن العراق يقع على حافة منبع فيّاض للبداوة يجتاحه بين حين وآخر ليرسّخ فيه قيم الغزو، والتغالب، والعصبية القبلية.
يؤكد الحيدري أنّ علاقة الفرد العراقي بالسلطة علاقة مُلتبِسة دائماً، لأن الأفراد ينظرون إلى السلطة كأخطبوط يحاول ابتلاعهم. فالحكومات العراقية الاستبدادية على مرّ التاريخ كانت تمارس العنف والإذلال ضد أبنائها؛ بحيث بات القهر كأنه حق للسلطة، والخضوع كأنه واجب على الرعايا، وهذا هو منشأ كراهية العراقيين لكل حكومة. ونتيجة لذلك، فإن الشخصية المتسلطة كثيراً ما تظهر في المجتمعات الشمولية التي تفتقر كلياً إلى الفضاء الديمقراطي.
ويستعين الباحث برأي فروم القائل إن «الساديّة تدفع إلى التسلّط، والمازوشية تدفع إلى الخضوع». إنّ شيوع ظاهرة القهر هو الذي دفع الإنسان العراقي إلى التعلّق بالبطل الشعبي أو الإيمان المُفرط بالأئمة والشيوخ والأولياء الصالحين ذلك لأنه يتطلع إلى منقذ يخلّصه من المحن والرزايا التي تحاصره من كل حدب وصوب.
يناقش الحيدري فكرة «تأليه القائد» ويرى أنّ الحرب العراقية - الإيرانية قد ساعدت على تكريس «عبادة الشخصية»، فقد وُصِف الديكتاتور بشجاعة الإمام علي، وبعدالة الخليفة عمر، وبحكمة النبي سليمان، كما شُبِّه بشخصية الملك نبوخذ نصر، وهي صورة مماثلة لما قام به الروس أيام ستالين، والألمان أيام هتلر، آخذين بنظر الاعتبار أن طريق الديمقراطية التي نتغنّى بها دائماً طريق مختلفة تماماً لأنها تقف ضد الأبوية والتأليهية.
يدعو الحيدري إلى محاكمة أنفسنا ومجتمعنا وثقافتنا التي أنتجت هذه الظاهرة الصدامية غير الفريدة التي يمكن أن تُعيد إنتاج نفسها بوصفها أحد التمخّضات الشاذة للشخصية العراقية. ويتوصل الباحث إلى نتيجة مهمة مفادها أن الشخصية العراقية تعوزها الفردانية، والاستقلالية الذاتية، وينبغي عليها أن تتحرر من أسْر الذات، وأسْر النظام الأبوي الذكوري، وأسْر السلطة الاستبدادية.
وبما أن الشخصية تنهل من عقلية العراقي، فقد حدّد الباحث هذه العقلية بخمس خصائص، وهي كالتالي: «منكمشة، تغالبية، جدالية، انفعالية، ومُغتربة». ومن الآراء الطريفة التي استشهد بها الباحث رأي الكاتب الإنجليزي فريد هوليداي الذي يقول: «إن العراقي حتى لو تتفق معه، فهو يعارضك».
ويخلص الباحث إلى القول إنّ الشخصية العراقية «انبساطية لها قدرة على التكيّف والانسجام مع البيئة والمحيط الاجتماعي والطبيعي، ولكنها سرعان ما تُصبح انفعالية حين تحركها الدوافع وتثيرها العوامل الداخلية والخارجية». وقد يكون تشبيه الشخصية العراقية بـ«الحلفاء» هو الأدق، لأنها «سريعة الاشتعال وسريعة الانطفاء» في الوقت ذاته.
أما الفصل الثالث والأخير، فقد ناقش فيه الحيدري التغيرات البنيوية التي طرأت على الشخصية العراقية، ففي منتصف السبعينات من القرن الماضي كانت على وشك التكامل من حيث الاستقرار والثبات والتوازن في مكوناتها وعناصرها بسبب التقدم والتحديث الاجتماعي النسبي الذي واكب الطبقة المتوسطة؛ حيث أخذ الولاء العشائري والطائفي والمناطقي بالانكماش أمام الانتماء للهوية الوطنية الشاملة، لكن دولة «البعث» سرعان ما هيمنت على السلطة والثروة والمعرفة، وساهمت في عسكرة المجتمع، وزجّت به في حروب داخلية وخارجية طحنت الإنسان العراقي، ومزقت نسيجه الاجتماعي الذي كان متماسكاً، وتركته نهباً للاحتلال الأنغلو - أميركي الأخير الذي ألقى حجراً كبيراً في بِركة العراق، وهيّجت كل رواسبه المطمورة على مدى قرون كثيرة.
وإذا كانت الشخصية العراقية قد انقسمت على ذاتها؛ واحدة متسلطة قمعية، والثانية خاضعة نكوصية، فإنها أصبحت الآن مشوّهة لأنها فقدت كل صفاتها الأصلية.
وقد خلص الحيدري إلى أن بناء الشخصية النموذجية المتوازنة، في العراق وفي غيره من بلدان العالم، لا يمكن أن يتمّ إلا بإقامة دولة القانون والمجتمع المدني الذي تتحقق فيه فكرة المواطنة التي تتيح لنا القول بشكل صريح إن «الدين لله والوطن للجميع».


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم