لا صعوبة في فهم مسوغات تقسيم دليل مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي للعروض المشاركة في يوبيله الفضي إلى: مصرية وأجنبية وعربية، لكن تقسيم العروض العربية إلى ثلاثة أقسام، يحتاج إلى بعض الجهد في إدراك دوافعه، فإدارة المهرجان قسمت العروض العربية إلى ثلاثة، يحمل أولهم عنوان «المسرح تحت دوي القنابل»، والثاني بعنوان «عروض الإنتاج المشترك»، والثالث حمل العنوان العام «العروض العربية». وقد اختارت اللجان 25 عرضاً مسرحياً، منها 11 عرضاً أجنبياً، تمثل 9 دول و9 عروض عربية من 8 دول.
عن العنوان الأول خصص المهرجان ندوة من بين محاوره النظرية الثلاثة، وإن كانت الحرب وتداعياتها تمثل الملمح الأبرز في مجمل العروض العربية، وهي جميعاً تبدو مفارقة للغاية للعروض المصرية التي بدت وكأنها تنحو باتجاه إبراز مصر فضاءً منبت الصلة تماماً عن محيطه. وفي النظر لمجمل العروض العربية يبدو هذا التقسيم الثلاثي خارجياً، إجرائياً فقط؛ إذ هي جميعاً تتناول وقائع معاشة تركت الحرب ظلالها القاتمة عليها.
فبتعثر مشاركة فرقة المسرح القومي السوري عبر عرضها «هُنّ»، تأليف وإخراج آنا عكاش؛ نتيجة سوء تفاهم بينها وبين إدارة المهرجان، أصبح قسم «الحرب تحت دوي القنابل» يتضمن عرضين فقط، «رائحة حرب»، من إنتاج الفرقة الوطنية للتمثيل التابعة للمسرح الوطني ببغداد، و«مروح ع فلسطين» (مسرح الحرية - فلسطين). قد يكفي أن يعرف المشاهد والقارئ الجهة المنتجة ليفهم مسوغات العنوان، لكن عروض قسم الإنتاج المشترك الثلاثة هي الأخرى بدورها تتناول الحرب وتداعياتها؛ إذ إنها تعرض للهجرة واللجوء كنتيجة مباشرة للحرب، ففي عرض «حضرة حرة»؛ وهو إنتاج سوري - ألماني، تترك الحرب ظلالها وأشباحها وشماً على جسد وروح لاجئ سوري، وفي «الشقف»؛ وهو إنتاج تونسي - كندي، نجد خليطاً من العرب - بينهم بالتأكيد السورية واللبنانية - والأفارقة يصارعون الأمواج في البحر المتوسط فراراً من واقع الحرب، والفقر، والتطرف، وعرض «الحارقون»؛ وهو إنتاج جزائري - فرنسي، تنويعة أخرى على الهجرة «غير الشرعية» عبر المتوسط أيضاً. العروض الخمسة إذن تتناول وقائع معاشة آنية، قد تكون حاضرة منذ فترة؛ قصرت أو طالت، لكنها اكتسبت في السنوات السبع الأخيرة زخماً وإيقاعاً ودوياً أعنف وأشد حدة.
فى موضوع «الهجرة واللجوء» تتنوع الأساليب الدرامية، إذ ينحو «الحارقون» باتجاه أسلوب المسرح الوثائقي نسبياً، وهو لا يضع الذات بمفردها أمام أسئلة الواقع؛ إذ يطرح أسئلة «الآخر» أيضاً، وكأن المسكوت عنه هو القابع وراء الشاطئ الآخر، يحاول أن يمنع ذلك السيل البشري الهائج، فبينما تحمل القوارب البدائية الفارين، لا يأتي الموت فقط من الأمواج، بل ربما من تلك المقولة: «بحرنا»، التي رفعتها القوة البحرية الإيطالية (2015)، حيث عملت على منع تدفق اللاجئين، وهي بذلك تستعيد ذلك الشعار الذي كان عنوان السيطرة المطلقة للإمبراطورية الرومانية على البحر المتوسط كله، والذي حاولت إيطاليا موسوليني استعادته، وهنا يبدو الإنتاج المشترك: كندا، فرنسا، ألمانيا، مفارقا.
اللجوء والاغتراب كتداعٍ مباشر للحرب نجده أيضاً في عرض «صدى الصمت» (فرقة المسرح الكويتي).
وفى الإجمال، تدور كل العروض العربية حول وقائع آنية تمثل الحرب والتطرف والعنف محورها الرئيس، وإن ابتعدت قليلاً فسنجدها تتناول واقعاً اجتماعياً مأزوماً وخانقاً يكبل الفرد ويقمع حريته وفردانيته. بعض المعالجات كانت زاعقة، ميلودرامية، أشبه بمنشور سياسي صاخب، ونمذجة فجة تريد تنميط الواقع وتبسيطه في مفردات أحادية مصمتة. وهي في أغلبها تعاملت مع الحرب وتداعياتها من الخارج، عاملتها كأنها قدر مسلط طاغٍ، كما تعاملت مع وقائع التطرف والفقر والعنف كسر مبهم سرمدي.
عرضان فقط سعيا إلى الاشتغال على تفاصيل الوقائع ومساءلتها: «الخادمتان» و«العنف». فجواد الأسدي يعود لمسرحية جان جينيه مع فرقة «دوز تمسرح» المغربية، وقد استبعد حضور السيدة على خشبة المسرح، فقط الخادمتان تشغلان فضاء الفعل الدرامي، وهو باستبعاده الحضور الجسدي للسيدة لا يسعى لنفي تأثرها وهمينتها وتسلطها، لكنه يسعى حثيثاً للكشف عن المدى الذي وصله ذلك التأثير والتسلط على الخادمتين، إنهما إذ تنشغلان بلعبة التماهي الظاهري مع شخصية السيدة عبر استخدامهما لما تحتويه خزانة السيدة من ملابسها وإكسسواراتها؛ وبخاصة أحذيتها ذات الكعب العالي، لتدخلا في التماهي مع عنفها وتسلطها عليهما، تنجرفان في تعرية ذواتهما والنبش في دواخلهما، وهما بذلك التماهي - اللعب تصلان إلى ذروة الكشف عن المدى الذي وصلتا إليه من الانسحاق وسلب الإرادة. هنا وكأن الأسدي يشير - فقط يشير - إلى المدى الذي وصله التفسخ والانحطاط الاجتماعي في مجتمعاتنا العربية، حيث الذات تستهلك نفسها، وتقتلها في صراعها الذاتي، والذات هنا ليست الطبقة الاجتماعية (الخادمة، الفقراء) فقط، ربما الذات بمعانيها الأوسع، قد يكون حاضراً في ذهن المشاهد: الحروب الأهلية، والطائفية، والمذهبية، حروب الهوية في معناها الأوسع.
العروض العربية في «المسرح التجريبي» تطارد الحرب والتطرف والعنف
«مروح ع فلسطين» و«الشقف» و«حضرة حرة» الأبرز
العروض العربية في «المسرح التجريبي» تطارد الحرب والتطرف والعنف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة