إرث «ليمان براذرز» بين الأمل والألم

الشركات أكبر المستفيدين... والحكومات في «منطقة مجهولة»

بعد عشر سنوات لا تزال ظلال الأزمة التي بدأت بانهيار بنك «ليمان براذرز» تهيمن على العالم
بعد عشر سنوات لا تزال ظلال الأزمة التي بدأت بانهيار بنك «ليمان براذرز» تهيمن على العالم
TT

إرث «ليمان براذرز» بين الأمل والألم

بعد عشر سنوات لا تزال ظلال الأزمة التي بدأت بانهيار بنك «ليمان براذرز» تهيمن على العالم
بعد عشر سنوات لا تزال ظلال الأزمة التي بدأت بانهيار بنك «ليمان براذرز» تهيمن على العالم

«الجشع يضر أكثر»، هذا هو الدرس الأول الذي تعلمه العالم بعد مرور عقد من الزمن منذ انهيار بنك «ليمان براذرز»، حيث فقد الجميع كثيراً، بدءاً من راهن بيت صغير في الريف أو أحد الأحياء الفقيرة في الولايات المتحدة، إلى عمالقة «وول ستريت». وشهد على ذلك كلٌّ «جالسي المقعد الأمامي» في عام 2007، من مسؤولين ومؤسسات مالية وصناع قرارات، حين فقد العالم ملايين الوظائف وتبخرت تريليونات الدولارات بين ليلة وضحاها، ولم تعد أسواق الائتمان من أثينا إلى نيويورك نفسها، مع ارتفاع الديون الحكومية.
في حين أن العديد من المراقبين يقولون إن «انهيار عام 2008 أدى إلى ما نواجهه في عصرنا الحالي من عدم اليقين والاضطراب السياسي، والذي فرض سياسات نقدية ومالية متحفظة، ولكن لن نذهب مجدداً إلى هذا الحد؛ فالمؤكد أن الانهيار تسبب في نهاية الكثير من الوظائف وصناديق التعاقد، لكن اتجاهات العولمة الاقتصادية في حد ذاتها أدت إلى تقلص العمالة في الشركات قبل اندفاع (وول ستريت) الصعودي بفترة طويلة».
وبعد عشر سنوات، لا تزال ظلال «ليمان براذرز» تخيّم على الاقتصاد العالمي، فظهرت مؤشرات النمو مختلطة. فبينما تتراكم ضغوط الأسواق الناشئة؛ كانت الأسواق المتقدمة مليئة بالأخبار الجيدة، لتُظهر سوق العمل الأميركية المزيد من علامات التقدم، وربما يكون «المركزي الأوروبي» قد خفض توقعاته للنمو لكنه قال إن اقتصاد اليورو قويّ بما يكفي للتعامل مع المخاطر العالمية، وسجل الاقتصاد البريطاني أسرع توسع له خلال عام تقريباً، وحققت اليابان أفضل نمو في عامين تقريباً، وتحسنت الأجور في جميع الاقتصادات.
وفعلياً، دفع الركود العالمي الأعمق منذ الكساد العظيم، البنوك المركزية إلى تقديم حوافز غير تقليدية، في حين أن الحكومات إما خففت السياسة المالية وإما آثرت التقشف تبعاً للوضع الاقتصادي للبلد. وبعد أن خفضت أسعار الفائدة إلى الصفر تقريباً، وحتى أقل في بعض الحالات، بدأت البنوك المركزية بشراء السندات كمحاولة لإعادة إشعال الروح مرة أخرى بين الشركات والمستهلكين، وكانت النتيجة تضخماً في الميزانيات العمومية للشركات، الأمر الذي يراه خبراء أنه سيؤدي إلى أزمة لا يمكن السيطرة عليها.
وعلى الرغم من كل الحديث عن التقشف، فإن الديون الحكومية في معظم أنحاء العالم هي أكبر مما كانت عليه في عام 2007، وهو ما قد يشكل خطراً على الاقتصادات في المستقبل مع تشديد محافظي البنوك المركزية السياسة النقدية.
فالحكومات مسؤولة إلى حد كبير عن «الشراهة» في الاقتراض، حيث ينمو دَينها؛ ليس فقط من الناحية الاسمية، ولكن كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي أيضاً. وانهار الاقتصاد العالمي في أعمق ركود له منذ الحرب العالمية الثانية في أعقاب الأزمة، ومع ذلك بعد الارتداد المبدئي أظهر معظم الاقتصادات نمواً معتدلاً لمعظم العقد الماضي، وأصبح هناك ما يقرب من 25 مليون شخص عاطل عن العمل خلال العقد حتى مع انخفاض معدل البطالة في الولايات المتحدة، وما يلفت الانتباه بشكل خاص هو معدل بطالة الشباب في بلدان مثل اليونان، حيث انخفض عن 60% في عام 2013، ولا يزال يحوم عند 40% الآن.
ويتجلى الانتعاش الباهت بشكل أفضل من خلال تراجع حدة ضغوط الأجور في معظم أنحاء العالم مع زيادة التوظيف.

قطاع الشركات أكبر الفائزين

وإذا كان هناك فائز فعلي في السنوات العشر الماضية، فهو قطاع الشركات الذي شهد عصر المال السهل وارتفاعاً غير مسبوق في الأصول وأسعار الأسهم، ما أثّر على الأرباح إيجابياً فارتفعت بالتبعية، فليس الجميع يتكبدون الديون... فبفضل الأنظمة التي تلت الأزمة، أصبحت المؤسسات المالية خاصةً أكثر صحة وأكثر قدرة على الصمود أمام صدمات أخرى، وعلى مدار العقد الماضي زادت ديونهم بمقدار 3 تريليونات دولار فقط، تاركةً نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي منخفضة، مثلما كانت في الذاكرة الاقتصادية الحديثة.
وعلى الجانب الآخر، فإن الشركات الأخرى التي طالها هذا الركود، استفادت أيضاً من أسعار الفائدة المنخفضة لتتغلب على كميات كبيرة من الأموال المطلوبة لتخطي الأزمة، ولتزيد من أرباحها... ومع أن تلك الشركات كانت لديها ديون أقل من المؤسسات المالية في ذلك الحين، فبعد اقتراض 27 تريليون دولار، فإن الالتزامات تكاد تكون كبيرة حالياً.

وضع الأسر

تعافت أسعار المنازل الآن في معظم أنحاء العالم، مما أدى إلى تفاقم الفجوة بين حائزي تلك الأصول وفاقديها، ويبدو أن الأسر في جميع أنحاء العالم في وضع أقرب ما يكون لما كانت عليه قبل عشر سنوات، كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، فإن الديون بالكاد تغيرت -بالطبع تبعاً للمكان الذي تنظر إليه- ومن حيث القيمة الاسمية انخفضت ديون الأسر في الأسواق المتقدمة مثل ألمانيا واليابان والمملكة المتحدة والصين، ووصل إجمالي ديون الأسر عالمياً 6.5 تريليون دولار، مقارنةً مع 757 مليار دولار في 2008.
وعلى جانب آخر، انتصرت الشعوبية في معظم مناطق العالم، بدءاً من تصويت انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي، إلى فوز دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية، كنتيجة للإحباط الذي شعر به الناخبون بسبب تراجع وتيرة الوظائف وانخفاض الأجور واللامساواة. وعدّلت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني، توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي للعام الجاري في أغسطس (آب) الماضي بنسبة 0.1% إلى 3.4%، مقارنةً بنحو 3.3% العام الماضي. وأفادت «فيتش» بأنه رغم التوقعات الاقتصادية العالمية القوية، فإن المخاطر على الاقتصاد العالمي تستمر في الارتفاع.
وذكرت «فيتش» أن المخاطر التجارية أحد الأسباب الرئيسية، وتوقعت ارتفاعاً مستمراً في المخاطر التجارية عالمياً، فضلاً عن نوبة أخرى من الإجهاد المالي على الأسواق الناشئة في أقل من أربعة أشهر تحفز خروج التدفقات النقدية من الأسواق الناشئة.
وعدّلت «فيتش» توقعاتها لنمو الاقتصاد الصيني إلى 6.7 و6.5% في 2018 و2019 على التوالي، ويُعزى النمو الإيجابي بشكل جزئي إلى النشاط الاقتصادي الأفضل من المتوقع، ولكن الأهم انعكاس إجراءات التحفيز الأخيرة التي تم اتخاذها لمواجهة الاقتصاد الضعيف في البلاد وفقاً لما رأته «فيتش»، حيث خفض بنك الشعب الصيني (المركزي الصيني)، معدل متطلبات الاحتياطي البنكي عدة مرات هذا العام في محاولة لدعم السيولة للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، كما ساعد ضعف اليوان الصيني الخاضع للسيطرة والاعتماد على الصادرات في تعويض الكثير من التأثير الفوري لعدم اليقين التجاري على الاقتصاد الصيني.

الأسهم الأميركية تواصل الصعود

وفي الجانب الغربي من العالم، لا تزال الأسهم الأميركية في اتجاه صعودي واسع النطاق وترى «فيتش» أن الخلفية داعمة للأسهم في الفترة المقبلة، حيث سجل مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» ارتفاعاً جديداً، مما يشير إلى أن التقلبات الناشئة عن الضغوط في جميع أنحاء الأسواق الناشئة وتركيا على وجه الخصوص تظل محصورة في تلك البلدان، ومن المثير للاهتمام أن السندات الأميركية ارتفعت أيضاً خلال هذه الفترة، لكن على العكس تتوقع «فيتش» هبوطاً كبيراً على السندات الحكومية، حيث تواجه العائدات ضغوطاً متزايدة من توقعات التضخم المرتفعة وتوقع تشديد السياسة النقدية في المستقبل بعد فترة طويلة من العائدات المنخفضة أو السلبية، وتوقعت «فيتش» أن تشهد سندات الأسواق الناشئة تفوقاً في الأداء مدعومةً بالعوائد الحقيقية الأكثر إيجابية.

الثقة الاقتصادية... إلى أين؟

وخلال الشهر الماضي، أظهرت المؤشرات انهيار الثقة الاقتصادية العالمية وفقاً لمقياس «سنتكس» إلى أدنى مستوى منذ عام 2012.
ففي الشهرين الماضيين، كان المستثمرون يأملون أن يكون التباطؤ الاقتصادي قصير الأجل، لكن فُقد هذا الأمل إلى حد كبير في بداية الشهر الجاري، من منظور ألف مستثمر شملهم استطلاع «الشرق الأوسط» بين منطقة اليورو والولايات المتحدة، وعبّروا عن أن السماء الاقتصادية أصبحت مظلمة بشكل كبير خصوصاً بالنسبة إلى الأسواق الناشئة، وهذا أيضاً له تأثير على الأسواق المتقدمة.
والآن بعد مرور 10 سنوات على انهيار «ليمان براذرز»، نشهد نتائج أكبر تجربة للبنك المركزي الأميركي في التاريخ، حيث يؤكد الكثيرون أن «المهمة أُنجزت» وفقاً لفينس كريغ محلل اقتصادي في مجموعة «صن» الأميركية في تعليقه لـ«الشرق الأوسط»، إذ وصل معدل البطالة إلى أدنى مستوى له منذ 48 عاماً، ووصل مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» مؤخراً إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، وأصبح المستهلكون أكثر ثقة، «لكن إذا تعمقنا سنجد أن الطريق ممهد بالديون؛ والمزيد من الديون... وهذا الطريق في اتجاه واحد»، وفقاً لكريغ.
وفي غضون ذلك، فإن الحكومات السيادية في منطقة «مجهولة»، فلا أحد يعرف ما الذي سيحدث عندما تصل قوة عالمية كبرى مثل اليابان إلى نسبة 224% كنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، في حين تجاوزت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا مستوى 100%.
وفي مواجهة شيخوخة السكان والوعود بشبكات الأمان الاجتماعي، فعلياً، لا يوجد حل سهل لمواجهة هذا الاتجاه، خصوصاً مع الركود الذي دام تسع سنوات، كما «أن هذا هو الوقت المناسب لسداد الديون لا إضافتها»، حسب ما أشار إليه كريغ لـ«الشرق الأوسط».
وهذا هو تراث ما بعد بنك «ليمان براذرز»، هناك من يراه باعثاً للأمل وهناك من يراه منذراً بالألم.



هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».