المعركة ضد الإرهاب العالمي لا تزال مشتعلة

بعد 17 عاماً من هجمات سبتمبر

قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين
قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين
TT

المعركة ضد الإرهاب العالمي لا تزال مشتعلة

قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين
قبل 17 عاما هزت هجمات سبتمبر أساسات الأمن والاستقرار العالميين

قبل سبع عشرة سنة هز الإرهاب الأسود أساسات الأمن والاستقرار العالميين، وذلك حين أقدم تنظيم القاعدة على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وضرب بجنون نيويورك وواشنطن. والشاهد أنه منذ ذلك التاريخ اشتعلت الحرب ضد الإرهاب، سواء من قبل الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص، أو من بقية دول العالم. ورغم أن واشنطن شنت حربين كبريين في أفغانستان والعراق، والكثير من العمليات السرية، ومع أن غالبية دول العالم قد بلورت خططا كثيرة للتحدي والتصدي، إلا أن طاعون القرن الحادي والعشرين، متمثلاً في العنف والقتل، بات متجاوزاً للأنساق التي عاشت في القرن الماضي، وتركت إرثاً سيئاً للذي يليه متخطيا الحدود.
هل يحق لنا والحال هذه التساؤل هل نجح العالم أم أخفق في مواجهة الإرهاب الصاعد والأصوليات الخبيثة في العقدين الماضيين؟
ليكن الجواب من خلال الحقائق الأحدث، وصولاً إلى التحليلات، وفي المقدمة من هذه وتلك ما نشره زعيم تنظيم القاعدة في الوقت الراهن أيمن الظواهري، على هامش ذكرى الحادي عشر من سبتمبر، من تسجيل مصور، يحث فيه أتباعه ومناصريه على شن هجمات أخرى على الولايات المتحدة الأميركية.
التسجيل الذي بلغت مدته 23 دقيقه، حث فيه الظواهري على إعلان حرب شاملة على أميركا، وتدمير اقتصادها وجيوشها، وواصفاً إياها بأنها «العدو الأول للمسلمين»، وخلال كلمته عدد الظواهري (14) نقطة عن الطريقة التي تخوض بها أميركا حروبها، في محاولة لتشجيع أتباعه على شن هجمات أخرى على واشنطن، ومضيفاً: «إخواني المسلمين، المعركة ضد أميركا أصبحت حتمية، فهي تضعنا أمام خيارين: إما شرف المواجهة بضراوة، أو الذل وقبول العار، ولن نقبل بحياة الذل بعون الله».
لم يتم سحق أو محق «القاعدة» بعد سبع عشرة سنة من الحرب الأميركية على عناصر تنظيمها في أفغانستان، وبقية دول العالم، فلا يزال الظواهري يتحدث وإن أعوزته كاريزما الخطاب الذي كان لبن لادن، فيما يشير أحد محللي شؤون الأمن القومي الأميركي «بيتر بيرغن»، والذي ينظر إليه كمرجعية في مطاردة الإرهاب، إلا أن «حمزة بن لادن»، في طريقه لأن يصبح زعيم الجيل القادم للقاعدة، ما يعني أن حلقات جديدة من الإرهاب في طريقها للظهور، ما يجعل العالم أقل أمناً وأماناً.
من رحم القاعدة المؤدلجة، خرج تنظيم أكثر توحشاً، في أعماله وأوسع رؤية في أهدافه، فكان تنظيم داعش، ورغم الهزائم الساحقة التي تعرض لها، إلا أنه في الأعم الأغلب، سيعود بشكل آخر... لماذا؟
هنا الكارثة وليست الحادثة، فلقد أصبح الإرهاب الجديد فكرة لها أجنحة تطير عبر وسائط الاتصال الحديثة، وتسخر التكنولوجيا المتقدمة لخدمتها، ولم يعد المشهد في حاجة لتراتبية تنظيمية، تستدعي إصدار بن لادن أوامره على سبيل المثال لخالد شيخ محمد، ومحمد عطا، لتنفيذ هجمات نيويورك وواشنطن.
نهار الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر الجاري كانت قناة «سي بي إس» الأميركية تستضيف مدير مكتب التحقيقات الاتحادية (إف بي آي) كريستوفر راي، والذي أقر بأن خطر الإرهاب أضحى يواجه العالم في كل مكان، ويمتد من الساحل إلى الساحل، ويخترق الكرة الأرضية من شرقها لغربها، ولم يعد مقتصراً على تهديد نيويورك فقط.
هل كان للحادي عشر من سبتمبر أن يتكرر من جديد خلال الأعوام الماضية؟ الثابت أنه كانت هناك محاولات دؤوبة ومستمرة من قبلي التنظيمات الإرهابية لتكرار الحدث، بل إن الخوف والرعب الأكثر هولا لدى الأجهزة الأمنية حول العالم، يتمثل في احتمالات حيازة تلك الجماعات أسلحة تدمير شاملة سواء نووية أو كيماوية، ورغم أن الكثير جداً من العمليات تم إبطالها إلا أن بعض المذابح البشرية، جرت بها المقادير، أميركياً، وأوروبياً، وعربياً.
وربما كان من الجائز أن يوقع الإرهاب ضحايا أكثر لولا الاكتشاف المسبق للكثير من العمليات الإرهابية، وإلقاء القبض على عدد وافر من الإرهابيين.
يشير كريستوفر راي، في حواره المتلفز المتقدم إلى أنه خلال العام الماضي وحده نفذ مكتب التحقيقات 120 حالة اعتقال تتعلق بالإرهاب، فضلاً عن إجراء الأجهزة الأمنية ما يقرب من خمسة آلاف تحقيق مع عدد من المتطرفين بينهم ألف من المواطنين المحليين.
لم يكن المشاهدون أميركياً وعالمياً يدرون بأن الحادي عشر من سبتمبر كاد أن يتكرر لسبب أو لآخر في الداخل الأميركي، فقد تم إحباط مخطط للهجوم على إحدى المناطق المكتظة بالأسواق في مدينة سان فرانسيسكو، بولاية كاليفورنيا، كان له أن يوقع عدة مئات من الضحايا، إضافة إلى مركز تسوق في مدينة ميامي السياحية بولاية فلوريدا.
أكثر من ذلك، فقد أدت يقظة الأجهزة الأمنية الأميركية إلى قطع الطريق على عمليات تجنيد وحشد كانت تقوم بها طالبة جامعية في ولاية مينيسوتا الأميركية، لحث زملائها في الصف الدراسي للالتحاق بتنظيم القاعدة، وحركة الشباب التي تتخذ من الصومال مقراً لها.
على أن القارعة التي يتحدث به الركبان هذه الأيام، هي الإرهاب الذي يمكن أن يضرب الفضاء السيبراني، ويوماً تلو الآخر تتكشف المجالات التي تعمل فيها الجماعات الإرهابية، عبر العالم الرقمي والإلكتروني، وبعيداً عن الوجوه المرئية، ما يعني إرهاب الأشباح، وهذا خطر أشد هولا، إذ يمكن للإرهابيين الولوج عبر الشبكات الإلكترونية والتلاعب بالبنى التحتية للدول، كشبكات الكهرباء والمياه، الطرق والمواصلات، الموانئ والمطارات، أما الكارثة فهي القدرة على اختراق الشبكات العسكرية، وقواعد الصواريخ، والمطارات الحربية، وأنظمة تسيير السفن والأساطيل، وجميعها اليوم باتت تتحكم فيها أجهزة استشعار لا سلكية وفضائية عن بعد.
هل يمكن القطع بأن إرهاب الحادي عشر من سبتمبر كان نسخة أولية غير مطورة عما هو حادث الآن حول العالم وبعد عقدين من الذكرى الأليمة تقريباً؟
الجواب يقتضي نظرة أكثر شمولية لكافة مناحي الحياة، والحقيقة تقتضي الإقرار بأن عقدين تغيرت فيهما أشكال الإرهاب المحتمل إلى الأخطر، في حين بقيت القوى المقاومة والمطاردة والولايات المتحدة الأميركية في مقدمها تتعامل مع الإرهاب والإرهابيين عبر المقاربات التقليدية، ومن دون إعادة قراءة للأسباب التي تدفع في طريق ارتكاب المزيد من الأعمال الإرهابية، وفي مقدمتها الخلط الواضح والفاضح بين ما هو ديني وما هو دنيوي... ماذا نعني بذلك الحديث؟
باختصار غير مخل يمكننا الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من أخطاء إدارة الرئيس الأميركي الأسبق «جورج ووكر بوش» في محاربته للإرهاب سيما بعد أحداث الثلاثاء الأسود، يعود إلى الخطاب السياسي والإعلامي الذي تناول به القضية، فعشية تلك الهجمات النكراء، كان بوش الابن يستحضر أشباحا وأرواحا لواحدة من أسوأ الحقب التاريخية بين الشرق والغرب التاريخي، وقبل أن تظهر القارة الأميركية على مسار الأحداث، حقبة الحروب الصليبية، وقد ذهب إلى تقسيم العالم تقسيماً مانوياً بين الذين معنا والذين علينا، أو دار السلم ودار الحرب.
كانت لغة خطاب بوش كارثية ولا شك، وربما زخمت العناصر المتطرفة والإرهابية بالمزيد من الوقود اللازم لإشعال الفتنة، وتعميق الشرخ الاجتماعي والديني، واستقطاب مزيد من العناصر التابعة للقاعدة في المستقبل.
لا ينكر المرء أن التاريخ لا يمكنه أن يكرر ذاته، لأنه لو فعل كما قال كارل ماركس لأضحى في المرة الأولى مأساة وفي الثانية ملهاة، لكن رغم ذلك فإن هناك بعض الأحداث تاريخياً تتشابه، ولا يتنبه للأمر إلا الذين يجيدون قراءة الأزمنة، ويحسنون مقاربات التاريخ.
جل القصد هنا الإشارة إلى بعض من الإجراءات التي اتخذها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تلك التي استهل بها رئاسته الأولى، عندما منع دخول مواطني عدة دول، هي في مجملها دول إسلامية، وذلك بحجة توفير المزيد من الأمن لمواطني أميركا، وكأنه يضرب سوراً حول البلاد والعباد، في حين أن الموازنة بين الأمن والحريات الشخصية لا تمضي على هذا النحو بالمرة، ما وفر فرصة خبيثة لأولئك المعروفين باسم «الذئاب المنفردة» لإحداث خسائر في الأرواح الأميركية، لم تكن أجهزة الدولة برمتها قادرة على منعها، انطلاقاً من أنه لا يمكن بحال من الأحوال التفتيش في النفوس والعقول، ومعرفة خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
قبل عشرة أيام من فوزه برئاسة الولايات المتحدة الأميركية تحدث المرشح الديمقراطي باراك أوباما بالقول: «إن الولايات المتحدة الأميركية لن تنجح في هزيمة شبكات إرهابية تنشط في أكثر من ثمانين دولة عبر احتلالها العراق».
توقع العالم برمته أن أوباما القادم من بعيد، والذي يمثل «بوتقة الانصهار» الأميركية، سوف يقدر له أن يعيد الأمور إلى نصابها، وهو القريب فكرياً وأيديولوجيا من المجتمعات الشرقية والإسلامية، وقد استبشر الجميع به بالفعل.
لكن حصاد الحقل، كان مخالفاً طولاً وعرضاً، شكلاً وموضوعاً عن حساب البيدر، فخلال سنوات أوباما الثماني ربما عاشت جماعات الإسلام السياسي، والتي اعتبرت ولا تزال الحاضنة الأكبر والأهم لجماعات الإرهاب السياسي، أفضل أيام حياتها، وبعضها وصل مقاعد السلطة بدرجة أو أخرى من التواطؤ الأميركي المشبوه، لولا يقظة بعض شعوب المنطقة، وفي مقدمتها الشعب المصري الذي رفض إرهاب الإخوان المسلمين.
هل أخطأت الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، وباتت تلك الأخطاء مسارب تنفذ منها جماعات جديدة إرهابية تجعل نهار العالم قلقا وليله أرقا؟
يكاد المرء يقطع بأن الرئيس بوش الابن قد استعمل في هش الذباب، مطارق فولاذية تصلح لتفتيت الصخور، وفاته أن الإرهاب أفكار تطير عبر أجنحة الأثير.
ومن بوش الابن إلى ترمب، يمكن القطع والعهدة هنا على ورقة بحثية نشرتها مجلة الفورين بوليسي الأميركية ذائعة الصيت قبل فترة أشارت إلى أن العالم أصبح أقل أمناً عما كان عليه قبل عقدين من الزمن، بل إن 80 في المائة من الأميركيين باتوا يتوقعون هجمة قوية جديدة على بلادهم... ترى ما السبب؟
عند البروفسورة آن ماري، والتي شغلت من قبل عميدة جامعة برنستون الأميركية العريقة «إننا نخسر الحرب على الإرهاب لأننا نتعامل مع العرض وليس مع الأسباب الجوهرية وراء المرض».
هل شخصت السيدة آن ماري جزءا من الإشكالية الحقيقية التي تكسب مزيدا من الإرهابيين أرضاً واسعة لأعمال إرهابهم؟
لقد فعلت ذلك حين كشفت عن إصرار البعض في الداخل الأميركي إحلال الإسلام محل الشيوعية كعدو للغرب ما يغذي رؤية القاعدة و«داعش» وغيرهما، ومما يزيد من الدعم الذي يقدم لهما، ويدفع الكثيرين في نفس الوقت من خانة الاعتدال إلى خانة التطرف.
صوت أميركي آخر يوضح أن هناك عطبا كبيرا في مواجهة الإرهاب منذ ذلك الوقت المحزن، هو صوت آلان كوهين، الخبير الأميركي السابق في قسم مكافحة الاستخبارات الأجنبية، والذي يشير إلى أن مشروع الحرب على الإرهاب، على النحو الذي قادته بلاده منذ الحادي عشر من سبتمبر وحتى الآن، كان مشروعاً فاسداً، ذلك أن شن الحرب على الإرهاب أشبه ما يكون بشن الحرب على الغضب، وأنت لا تشن الحرب على الإرهاب بل على البشر.
يمكننا أن نتساءل في نهاية هذه السطور هل مقاومة الإرهاب هي فعل عسكري فقط أم طرح عقلاني أحياناً يحتاج إلى دعم عملياتي على الأرض؟
أقرب الأجوبة للصواب أن مقاومة الإرهاب والقضاء عليه يتطلبان منظومة متكاملة، لا توجه لجانب على حساب الآخر فحسب، فالعمليات العسكرية ضد المتمردين والإرهابيين هي أعمال أساسية ولا بد منها لإطفاء الحرائق المشتعلة، لكن الانتصار في الحرب على الإرهاب، هو فعل طويل المدى، والانتصار في معركة الأفكار هو المهدد الأول والحقيقي للإرهاب في حاضرات أيامنا.
مجابهة أيديولوجيات الإرهاب والتطرف تحتاج إلى حلول تقدم على أسس وركائز عقلانية وإيمانية واجتماعية، وتسعى لإحقاق العدالة، وإنصاف المظلومين، وإغلاق الملفات البكائية التاريخية، وهذا جهد جهيد، وأول ما يتطلب نوايا صادقة، لا تلاعب على المتناقضات، أي تسخير تلك الجماعات لخدمة الأهداف الاستراتيجية الكبرى لدول بعينها تترقب اللحظة الحاسمة لبسط سيادتها على الأرض ومن فيها.
الشرق والغرب مدعوان هذه الأيام للتفكير خارج الصندوق في المحددات والمهددات التي تجعل من الحياة البشرية رؤية غير يقينية ومسيرة غير آمنة، ولهذا إن لم يتركا وراءهما سوية نظريات الصدام، ويسعيان لعهود من الوفاق الأممي، سيبقى الإرهاب وحشاً أسطورياً، خلف الباب متشوقاً لالتهام المزيد من الضحايا الأبرياء.


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».