لم يهدأ بعد الجدل الذي أثاره مقترح ورد في تقرير نشره «معهد مونتاني» للدراسات والبحوث، الأحد الماضي حول الأصولية في فرنسا، وفيه يقترح معده حكيم القروي تعزيز تعليم اللغة العربية في المدارس الرسمية بمراحلها كافة؛ من أجل محاربة التطرف الناتج من استغلال الدين من قبل جماعات ترفع شعارات الإسلام. وحجة القروي، أن غياب تعليم العربية في المدارس يدفع بالأهل إلى إرسال أبنائهم إلى المساجد ومراكز إسلامية، بعضها يدار من قبل متشددين.
دراسة القروي، وهو من أصل تونسي شغل سابقاً مناصب إدارية عالية في فرنسا وتونس، كما أنه مقرب من الرئيس إيمانويل ماكرون، جاءت تحت عنوان «صناعة المفهوم الإسلامي المتطرف». وسبق للقروي أن نشر في 2017 دراسة أخرى عن الإسلام وكتاباً بعنوان «الإسلام كمعتقد فرنسي». أما مقترحه بشأن اللغة العربية فينطلق من معادلة يلخصها كالتالي «كلما تأخرنا في تعليم اللغة العربية في المدارس ارتفع عدد التلاميذ في المساجد التي يديرها متطرفون». وأسهب القروي في شرح معادلته في حديث لصحيفة فرنسية اعتبر فيه أن «المعركة التي تدور حالياً هي معركة المعرفة... التلميذ في المدرسة بإمكانه أن يطور تفكيره ويضع الأحداث في إطار سياقها التاريخي بخلاف ما يمكن أن يستمع إليه في أماكن أخرى»، في إشارة إلى التعليم المعطى في المساجد أو المراكز الدينية. وإحصائياً، أشار القروي إلى أن «عدد التلاميذ الذين يتعلمون العربية في المرحلتين الوسطى والثانوية تراجع إلى النصف في مدى عشرين عاماً».
كان يمكن لمقترح القروي أن يبقى محصوراً في دائرة المثقفين والمهتمين بالإسلام واللغة العربية. لكن تبني وزير التعليم جان ميشال بلانكير له أشعل النار في الهشيم وأثار جدلاً حامياً خرج سريعاً من السياق اللغوي ليتحول سياسياً. وقال الوزير الفرنسي، إنه يتعين «تعزيز تعليم اللغة العربية كما الصينية والروسية. واللغة العربية لغة أدبية كبرى، وهي من أهم اللغات، ولا يتعين حصر تعليمها فقط بالأشخاص من أصول مغاربية أو من دول عربية أخرى؛ ولذا سوف نعمد لاتباع استراتيجية نوعية تحقيقاً لهذا الغرض». وأعرب الوزير الفرنسي في مقابلة مع قناة التلفزة «بي إف إم» عن عزمه «تطوير تعليم اللغة العربية بدءاً من الصفوف الابتدائية».
أثار كلام الوزير الفرنسي اليمين واليمين المتطرف، بل إن وزيراً سابقاً للتربية هو الفيلسوف لوك فيري، لم يتردد في التحذير من أن العمل بمقترح بلانكير سيعني «إدخال الإسلاموية إلى حضن التربية الوطنية». ومن جانبه، اعتبر النائب نيكولا دوبون أنيان، رئيس حزب «فرنسا انهضي» أن هناك «خطة لتعريب فرنسا باسم فكرة محاربة التطرف الديني»، مضيفاً إلى خطر التعريب «مخاطر الأسلمة», حسب زعمه. وذهبت النائبة أني جيفنار من حزب «الجمهوريون» اليميني الكلاسيكي إلى دحض مقترح وزير التربية الذي «يرتكب خطأً كبيراً»، ودحض ما يدافع عنه حكيم القروي؛ لأن «تعليم اللغة العربية في المدارس الثانوية لن يحل مشكلات الخطب باللغة العربية، ولا انتشار التطرف». وكان لا بد لليمين المتطرف ممثلاً لويس أليو، نائب رئيسة حزب «التجمع الوطني»، من الدخول في الجدال يؤيد «تعليم الفرنسية ولغات تتيح لشباننا العمل... بدلاً من لغة ستحصر هؤلاء التلاميذ في ثقافتهم الأصلية».
واضح مما سبق أن السياسة دخلت دائرة الجدل بحيث اختلط تعليم العربية كلغة مثل بقية اللغات بالعرب والإسلام، والإسلاموية والتطرف والإرهاب، والهجرات العشوائية، وانطواء الجاليات على نفسها. وسريعاً جداً، انفلتت من عقالها الأقلام التي تستغل كل مناسبة لاستثارة الهواجس والنعرات، كالتأكيد مثلاً أن تعليم العربية سوف ينال من تعليم الفرنسية، وأنه عوض أن «يتأقلم» الفرنسي مع اللغات الوافدة، على الوافدين أن يتعلموا الفرنسية لاندماجهم في المجتمع الفرنسي.
والحال أن وضع اللغة العربية في النظام التعليمي الفرنسي بالغ التردي، وهو ما تدل عليه الأرقام الرسمية التي تفيد بأنه في عام 2017 كان عدد التلاميذ الذين يدرسون العربية 4573 تلميذاً من أصل أكثر ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف تلميذ. أما في التعليم الثانوي، فإن العدد يصل إلى 6200 تلميذ من أصل 2.73 مليون تلميذ. وبكلام آخر، فإن نسبة التلاميذ الذين يدرسون العربية تتأرجح ما بين 0.01 و0.02 في المائة. كذلك، فإن وزير التربية كذّب الادعاءات التي تقول إنه «سيفرض تعليم العربية منذ الصفوف الابتدائية»، وليؤكد أن تعليمها في هذه الصفوف اختياري، ويأتي من خارج المنهج الرسمي المقرر وساعاته التعليمية المحددة. والعربية تدرس كبقية اللغات، مثل الروسية، والكرواتية، والتركية، والصربية... ويقوم بذلك معلمون يأتون من هذه البلدان وعلى نفقة حكوماتهم. أما اللغة الأجنبية الأكثر ذيوعاً فهي الإنجليزية تليها الإسبانية، والألمانية. وتحل اللغة الصينية قبل العربية؛ إذ يتعلمها في الثانوي لغةً ثالثة 18618 تلميذاً مقابل 6200 للعربية.
يتبين من هذه الأرقام والنسب أن التحذير مما يسمى الأسلمة والتعريب لا يتعدى كونه كلاماً آيديولوجياً غرضه إخافة المواطنين والاستغلال السياسي الرخيص. وحقيقة الأمر، أن العربية ليست لغة طارئة على فرنسا كما أنها ليست لغة هامشية. فهي لغة رسمية في الأمم المتحدة وجميع منظماتها. وفي فرنسا بالذات التي تقيم علاقات سياسية واقتصادية وثقافية مع العالم العربي، تدرس العربية في المعهد الفرنسي للغات والحضارات الشرقية منذ عام 1795، كما أن شهادة الماجستير للغة العربية أطلقت في عام 1905. ومن علامات الاهتمام الفرنسي «التاريخي» بالعربية، أن أسماء لامعة من عالم الاستشراق جاءت من فرنسا. فضلاً عن ذلك، فإن إتقان العربية في الزمن الحالي بالنسبة للفرنسيين يعد سلاحاً ماضياً لمن يرغب في ولوج باب الدبلوماسية أو عالم الأعمال والتعاطي مع العالم العربي. ويتحدث العربية بكافة تلاوينها المغاربية والمشرقية في الزمن الحاضر في فرنسا ما لا يقل عن 3 ملايين شخص. ويشكو جاك لانغ، وزير التربية والثقافة السابق والرئيس الحالي لمعهد العالم العربي، من «الإهمال» الذي لحق بتعليم العربية في المدارس الرسمية؛ ما يفسر جزئياً «الإقبال» على المعهد الذي يتمتع بقسم متنامٍ لتعليمها.
في مقالة له في مجلة «لو بوان»، يقول الروائي المغربي باللغة الفرنسية الطاهر بن جلون، إن تعليم العربية في المدارس الفرنسية يمكن أن يكون «رمزاً للتهدئة وإشارة توجهها الدولة الفرنسية لملايين العرب المقيمين فيها». وأضاف بن جلون: «انتظرنا طويلاً أن يتوجه الرئيس ماكرون إلى هذه الجالية التي تشعر بشكل عام بأنها غير مرحب بها في هذا البلد، وأن أبناءها غير معترف بهم؛ الأمر الذي يفسر أسباب وقوع بعضهم في أحضان تنظيمات كـ(داعش)».
تعليم العربية يثير جدلاً في فرنسا
اليمين يحذر من الأسلمة والتعريب
تعليم العربية يثير جدلاً في فرنسا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة