لا يمكن الوصول إلى ليدي غاغا وإجراء حديث معها. يمكن وضع اسمك على قائمة الصحافيين الذين يريدون مقابلتها، لكن بالنظر إلى أعداد الراغبين بإجراء مقابلة وقبول بعضهم بأن ينخرطوا في حلقات تتألف من خمسة إلى ستة أشخاص، فإن الاحتمال بمقابلة (منفردة) قليل جداً... «هذا إذا ما عادت عن قرارها السابق بعدم إجراء أي مقابلة» كما تخبرني المسؤولة الصحافية لدى الشركة المنتجة أمازون، من ثم تعد خيراً بابتسامة عريضة وتمضي.
إنها حديث اليومين الماضيين لكونها امرأة بالغة الشهرة، كما بسبب عرض فيلم «مولد نجمة» الذي تؤدي دور البطولة فيه، وهو الفيلم الأول لبرادلي كوبر مخرجاً مع سام إليوت وديف شابيل وبوني سومرفيل من بين آخرين.
غاغا تتلألأ على الشاشة. لديها موهبة الحضور وموهبة التمثيل. ليس التمثيل الذي أجادته جانيت غاينور في النسخة الأولى من الفيلم سنة 1937، لكن على نحو ينتمي إلى عصرنا الحالي حيث الجمال يطغى على ما سواه.
بعد نسخة 1937 التي أخرجها ويليام أ. ولمان حُققت نسختان أخريان قبل النسخة الحالية. هناك نُسخ أخرى غير هوليوودية كون الحبكة لا تحتاج إلى كثير من الجهد للعب عليها: فنان ناجح يتعرف على فنانة ناشئة. يقعان في الحب. لكن، تبعاً لظروف مختلفة، هو يتراجع وينضوي وهي ترتفع وتصبح نجمة.
الفيلم الجديد يلتصق بالأصل: برادلي كوبر يلعب دور الآفل وغاغا تؤدي دور المولودة نجمة. والفيلم مجير لها بينما ينزوي هو في أحد جوانبه، مما يمنحه فرصة أفضل على تحقيق ذاته مخرجاً. وهو يحقق عملاً جيد الصنعة والتنفيذ على أكثر من صعيد ومحدود النتائج في جوانب أخرى.
ما طغى، بطبيعة حال العروض، هو الأفلام الأخرى المنافسة لينتقل الحديث من غاغا إلى آخرين بينهم المخرج البريطاني مايك لي الذي قدم هنا فيلمه الجديد «بيترلو».
أمازون وفيلم فور تعاونا معاً على رصف هذا الفيلم المختلف عن أعمال مايك لي ذات الغالبية الجادة والاجتماعية درامية كانت أو كوميدية. يتعامل هنا مع أحداث وقعت في مانشستر في عام 1819، عندما أدى فساد الحكومة وارتفاع نسبة الضرائب وتجاهل مطالب المزارعين والفقراء عموماً إلى مظاهرة حاشدة واجهتها الحكومة المركزية والبرلمان البريطاني بأوامر صارمة للقوى الأمنية بتفريقها بالقوة.
يبدأ مايك لي فيلمه بموقعة ووترلو سنة 1815. المعركة دائرة. قصف وقنص وقتال وهناك جندي مذهول بما شاهده (ديفيد مورست)، يترك الموقع ويمشي عائداً إلى بيت والدته منهكاً.
يوجه لي اهتمامه للشخصيات التي قادت التمرد وتلك التي في المعسكر المقابل من رئيس الوزراء إلى القائد العسكري وإلى رئيس البرلمان وصولاً إلى أصحاب المصالح السياسية والمالية المناهضة للثورة التي تأخذ وقتها قبل أن تنضج.
ينتقل المخرج بين الموقفين أكثر من مرة، لكنه يصرف معظمه، ولسبب وجيه، على دعاة الثورة ضد الفساد الحكومي وبينهم من يؤمن بحمل السلاح لمواجهة استعداد الأمن لمجابهة المظاهرات بالقوة ومن يؤمن بأن تبقى المظاهرات سلمية من دون حتى عصا أو حجارة. في مقدمة هؤلاء الخطيب الآتي من لندن هنري هنت (روري كينير) الذي يبدو شخصاً نافذاً وخطيباً جهورياً لكن بعيدا عن التعامل مع الواقع.
خلال المواجهة بين أكثر من 80 ألف متظاهر في أحد ميادين مدينة مانشستر وبين البوليس مع هتافات معادية للمتظاهرين من أعضاء الحكومة المطلين على المتظاهرين من نوافذ آمنة، يُلقى القبض على هنت أولاً ويساق بعيداً. إثر ذلك يأمر القائد جنوده فيهاجمون المتظاهرين العزل ويفتكون بهم. في أواخر المعركة ينجح بعض المتظاهرين بضرب بعض الجنود ثم ينجلي الأمر عن جثث مرمية لنساء ورجال وأطفال وينتهي الفيلم عند هذا الحد.
يقول مايك لي إنه يتوقع أن تحدث مظاهرات أوروبية كتلك المظاهرة التي جوبهت بالقوة المفرطة، وذلك نتيجة للأوضاع السائدة حالياً، ولكن هذا كان يحتاج إلى إيحاءات داخل الفيلم وليس خارجه.
هناك قضية أخرى ما زالت حاضرة منذ عقود طويلة موضوعها الهوية الفلسطينية. هذا الموضوع يرد في فيلم سامح الزعبي في فيلمه «تل أبيب على نار» أو «تل أبيت ع نار» كما يرد داخل الفيلم).
إنه تمويل إسرائيلي لفيلم ذي ناصية كوميدية خفيفة، تتحدث عن ذلك المساعد سلام في إنتاج تقوم بتصوير مسلسل تلفزيوني بالعنوان ذاته. قيس ناشف في هذا الدور ولبنة الزبال في دور الممثلة التي عليها أن تلعب شخصية الفلسطينية التي تجيد العبرية وتتقرب عاطفياً من شخصية الضابط الكبير يهودا (الفلسطيني يوسف سويد)، بغاية استحواذ ملفاته والتجسس عليه من ثم قتله في نهاية الحلقات المسلسلة.
يبدأ سلام بالتدخل لضبط الكلمات التي لا يراها مناسبة، مما يدفع بالكاتبة إلى الاستقالة وتعيينه هو بدلاً عنها. هذا رائع بالنسبة إليه، لكن سلام لا يملك موهبة الكتابة أساساً. هو ليس أكثر من شخص يعرف العبرية بالدرجة التي يستطيع فيها استبدال كلمة خطأ بكلمة صائبة. الآن بات عليه استراق السمع لمن حوله حيناً أو أن ينقل العبارات التي تُقال له حيناً آخر لكي يكتب حوارات وشخصيات وأحداث أفلامه. ذات يوم، وبينما كان يجتاز الحاجز العسكري بين القدس ورام الله يلتقي بالضابط آسي (يانيف بيتون) الذي يطلب منه صحن حمص لكي يساعده في كتابة الحوار من وجهة نظر الضابط الذي في الفيلم. بالتدريج يندفع الضابط آسي للسيطرة على كتابة سلام وفرض المشاهد التي توافقه سياسياً أو عاطفياً وهو يقوم بحجز هوية سلام مقابل أن ينفذ ما يكتبه هو.
هذا التعقيد يساهم في رفع الدراما إلى حد جيد وإن كان تنفيذ المخرج سامح زعبي لا يرتفع، بدوره عن التقليد التام. تقليد نظيف لسرد خفيف وممتع، لكنه يبتعد عن العمق ولا يؤدي إلى فيلم يؤرخ.
إلى ذلك، هناك إيحاءات كثيرة حول الهوية المسروقة للكيان الفلسطيني ومشهد مهم جداً لسلام وهو يسير بجانب الحائط الذي بنته إسرائيل على الأراضي الفلسطينية ذاتها. مشهد يحمل دلالاته جيداً ويقع في الوقت الذي يواجه فيه سلام ذلك الموقف الحرج: تفادي تعديل طلبه المنتج (خاله ويقوم به نديم صوالحة) على السيناريو متعارض مع رغبة الضابط آسي، مما سيعرضه للخطر بعدما امتنع الضابط عن إعادة هويته إليه.
قيس ناشف ولبنى الزبال سبق لهما أن التقيا في فيلم هاني أبو أسعد «الجنة الآن» سنة 2005 لكن هذا لا يلقي بظلاله على هذا الفيلم ولو أنه يتحدث (كالفيلم السابق) عن احتمال تفجير انتحاري. يقضي على عميلة المخابرات الفلسطينية والضابط يهودا ولو في إطار المسلسل الذي تجتمع على مشاهدته العائلات الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء.
أحداث الفيلم تقع في الزمن الراهن (يتساءل بطله سلام عن قيمة التاريخ في القضية الفلسطينية، فيرد عليه خاله بأن اتفاق أوسلو لم يكن إلا لتبديد هذا التاريخ)، لكن أحداث المسلسل تقع ثلاثة أشهر قبل حرب العرب الخاسرة ضد إسرائيل سنة 1967. كلا الواقعتين، الماضي الموجود في المسلسل والحاضر الذي ينتمي إليه فيلمنا، تتداولان الوضع العام بقدر المستطاع.
دار رقص بغرف تعذيب
«تل أبيب على نار» يبقى فيلما صغيراً لا يترك وراءه الكثير من الأثر جيداً كان أو عادياً (يعتمد ذلك على رؤية المشاهد والناقد الخاصة)، وهو عرض في قسم «آفاق» المدرجة كتظاهرة جانبية أولى في عداد هذا المهرجان.
بالعودة إلى المسابقة يطالعنا فيلم للإيطالي لوكا غوداغنينو «سوبيريا»، الفيلم الذي اختار بعض النقاد في شأن ترجمة عنوانه فمنهم من سماه «مناخات» ومنهم من أطلق عليه اسم «علامات» أو «دلالات». الصواب هو أنه «تنهدات» وهذه نسمعها في معظم مشاهد الفيلم من باب تأكيد عنوانه، وخصوصاً في مشاهد رقص الباليه التي ترتفع فيه هذه التنهيدات الأقرب إلى الشهقات حتى من قبل أن ينقطع نفس الراقصات في الفيلم.
إنه أيضاً الفيلم الذي اقتبسه صاحب «نادني باسمك» من فيلم داريو أرجنتو بالعنوان ذاته، ذلك الذي تم تحقيقه سنة 1977 على يدي مخرج أفلام الرعب الإيطالي داريو أرجنتو. ما فعله غوداغنينو هو أنه شاهد الفيلم ثم تجاهله مستوحياً فقط موضوعه. هذا لا بأس به بحد ذاته، لكن حين المقارنة (وقد أعدت مشاهدة فيلم أرجنتو قبل يوم من عرض فيلم غوداغنينو) فإن فيلم أرجنتو، على هناته، يبقى الأفضل ليس لأنه مبني على سياق أفلام الرعب وبذلك هو فيلم نوع محدد، بل أيضاً لأنه داخل جو محكم على عكس فيلم غوداغنينو في معظم أنحائه فالت من عقال سينما الرعب ولاجئ إلى سينما الفن، لكن من دون شغف أو كثير من الفن.
المحتوى في الفيلمين واحد: أميركية (جسيكا هاربر في الفيلم السابق وداكوتا جونسون) تصل إلى برلين الغربية (حين كانت المدينة منشطرة بين شرق وغرب) لتنضم إلى مدرسة باليه تقع في منزل كبير بالمدينة. دار رحبة فيها قاعات رقص كبيرة، لكنها أيضاً تحتوي على غرف سرية تمارس فيها مناسك وشعائر شيطانية. سوزي الأميركية لم تكن تعلم ذلك ومعظم المنتميات إلى المدرسة كن جاهلات بما يقع، لكن الفحوى هو أنه مع اختفاء زميلة لها تدعى سارا (ستيفانيا كاسيني في فيلم أرجنتو وميا غوث في فيلم غوداغنينو) تبدأ سوزي إدراك أن شيئاً خطأ في هذه التركيبة وأن المدرسة هي أقرب إلى فخ من العناكب تسيطر عليه أرواح شريرة تعيش على القتل والتنكيل.
التنهدات التي يحملها الفيلم عنواناً له هي تلك الحالة من شهيق وزفير الأرواح التي تسطو على الضحايا الأبرياء. إما تقضي عليهم حين يتمردون أو يختارون الانصياع والانضمام إلى المجموعة التي تدير المؤسسة. هذا ما تختار سوزي أن تفعله في نهاية الساعتين والنصف التي يتطلبهما فيلم غوداغنينو لسرد قصته. والتوقيت مهم.
في فيلم أرجنتو تصل بعد أربع دقائق من بداية حابسة للأنفاس. ما يسطو على اهتمام غوداغنينو هو تقديم فيلم فني الوجهة لحكاية هي في الأصل رائعة كحكاية مرعبة وردت في السبعينات المشبعة بمثل هذه الأفلام الجريئة. فيلم أرجنتو كان ممتعاً لهواة النوع وأقل من ذلك كعمل سينمائي محض كونه كان منصرفاً لجذب جماهيري أكثر مما كان في حسبانه تقديم فن في جوانب العمل المختلفة. لكن الفيلم الحالي يخلو من الرعب وليس الفيلم الفني في الوقت ذاته.
في نسخة أرجنتو استخدام رائع للموسيقى والمؤثرات. ومشاهد القتل أو الموت أفضل صنعاً وانسياباً مع كنه الفيلم. كذلك تأليف الأجواء الداكنة أكثر ملاءمة.
عند المخرج غوداغنينو تتبلور استحالة تمنع قصة مثل قصة «سوسبيريا» من التحول إلى دراسة فلسفية وإنسانية وفكرية كما يحاول هذا الفيلم الوصول إليه من دون معالجة مختلفة تامة.
حين يصور غوداغنينو بطلته وهي ترقص مصراً على استخدام الشهقات على نحو منفر، من ثم يقطع عنها لمشهد مطول لكيف يتم قتل إحدى زميلاتها بحركات بدنية عنيفة تحتوي على لوي أقدام وكسر أذرع وتحطيم عظام، فإن المنساب إلى المشاهد هو استماتة للعبة مكشوفة قوامها الربط بين حركتين، واحدة باسم الفن والأخرى باسم العنف، لعلها تمنح الفيلم بعض ذرائعه. لكن لا شيء يمضي حسب المخطط له سوى هبوط مستوى الفيلم من شبه الجودة إلى شبه الرداءة المطلقة.