التنظيم السري للإخوان المسلمين... صكوك للعنف وتصفية الخصوم

4 من أعضاء مجلس قيادة ثورة 52 كانوا منتمين للجماعة

حسن البنا - غلاف الكتاب
حسن البنا - غلاف الكتاب
TT

التنظيم السري للإخوان المسلمين... صكوك للعنف وتصفية الخصوم

حسن البنا - غلاف الكتاب
حسن البنا - غلاف الكتاب

صدر حديثاً عن دار «ميريت» للنشر، بالقاهرة، كتاب «النظام الخاص ودولة الإخوان المسلمين»، من تأليف الباحثة الإعلامية المصرية سوزان حرفي، التي سعت من خلال صفحاته التي تضم 4 أبواب و12 فصلاً لعرض أفكار الجماعة وتوجهها منذ النشأة، وعقيدتها ورؤيتها للذات وللآخر، وحقيقة وجود عقيدتين ورؤيتين أو تيارين داخلها.
الكتاب صدر بمقدمة ضافية للدكتور كمال الهلباوي، القيادي البارز في الإخوان، الذي انشق عنها لاحقاً. وقد ذكر الهلباوي أن الجماعة ضمت كلاً من النقيب آنذاك جمال عبد الناصر، والملازم أول حسين أحمد حمودة، والملازم كمال الدين حسين، وكذلك عبد المنعم عبد الرؤوف، وكلهم كانوا أعضاء بمجلس قيادة ثورة يوليو 1952، التي انقلبت على الإخوان وأطاحت بهم، وحلت الجماعة.
شرعت سوزان حرفي في إنجاز كتابها بداية عام 2013، عندما كانت جماعة الإخوان قد أخذت طريقها كحزب الأغلبية داخل البرلمان المصري. واهتمت الباحثة بتقصي وتدقيق الأحداث التي شاركت الجماعة فيها، أو كانت أحد أطرافها، وحللت علاقتها وموقفها من الدولة والسلطة القائمة والمجتمع، وحدود التغير الذي تسعى الجماعة لإحداثه في المحيط العام، وكذلك في محيطها الخاص.
وذكرت حرفي أن الجهاز الخاص هو أكثر المناطق ضبابية في تاريخ الجماعة، سواء في ما ارتبط به من نشأة وأهداف، أو عضوية وعقيدة ونشاط وأفعال، فكل هذه الأشياء تقع غالباً في المساحة المظلمة التي يتجنب تنظيم الإخوان على مدار تاريخه السابق الاقتراب منها، إلا لماماً.
هذا الصمت، حسب وجهة نظر الباحثة، قد يكون نتيجة لطبيعة النظام الذي تغطيه السرية، فهو «النظام السري» أو «التنظيم السري»، وكان معظم أعضائه غير معروفين لرجال «النظام العام» داخل جماعة الإخوان نفسها، كما أن الصمت جاء التزاماً من أعضاء النظام الخاص أنفسهم بقسم الانضمام، أو البيعة، فالسرية جزء من عقيدة النظام وعقيدة أعضائه. وما زاد من مساحة الصمت ربما ارتباط هذا النظام بعدة جرائم كشفت منهج الجماعة، مثل قتل القاضي أحمد الخازندار وكيل محكمة الاستئناف، واغتيال أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا، رئيسي وزراء مصر، وغيرهما من المسؤولين، إضافة للقيام بعدد من التفجيرات والعمليات المسلحة التي راح ضحيتها كثير من المصريين.
ولفتت حرفي إلى أن سعي مؤسس الجماعة (حسن البنا)، من خلال التنظيم الخاص، كان لإنشاء «جيش بديل» عن الجيش المصري، هو «جيش المسلمين»، طبقاً لما أكده جمال البنا، وكذلك محمود الصباغ أحد قيادات هذا الجيش في أربعينات القرن العشرين.
وقد ذكر حسن البنا في إحدى رسائله الموجهة للتنظيم الخاص، وهي رسالة «المنهج» التي رسم فيها مراحل العمل وتكوين الكتائب ونموها، أن العدد المستهدف لهذا الجيش في مرحلته هذه هو اثنا عشر ألفاً، مضيفاً: «ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة».
فكرة «الجيش البديل» هذه أسرت محمود الصباغ، طالب كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول، عندما التقى حسن البنا لأول مرة عام 1939م، في لقاء للتعارف رتبه زميله بالكلية مصطفي مشهور في دار الإخوان التي كانت تقع بمنطقة الحلمية الجديدة، بالقاهرة، حيث كان البنا يشرح الإسلام ودعوته لعدد لا يزيد على العشرة من طلاب الجامعة.
يقول الصباغ: «رأيت أن كل ما يسوقه من آيات بينات رسمها الله للمسلمين شرعة ومنهاجاً في هذه الحياة تعالج ما نحن فيه في زماننا الحالي، فخرجت وأنا أقول: ولماذا التباطؤ في التنفيذ؟ خرجت مسلماً صحيح الإسلام، عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، دون أن أكتب استمارة عضوية، أو أدفع اشتراكاً شهرياً أو سنوياً، أبحث مع مصطفى وسيلة لتنفيذ ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، التي تجلت واضحة في مقاتلة العدو من خلال (جيش مسلم) سيتحقق له نصر مؤكد، لو صدق ما عاهد الله عليه»، ثم يضيف في كتابه «حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين»، الصادر عن «دار الاعتصام» عام 1989: «همست بما يجول بخاطري لمصطفي مشهور، فعرفني على أخي في الله المرحوم الأستاذ عبد الرحمن السندي، بصفته المسؤول عن إعداد (جيش المسلمين) في تنظيم الإخوان المسلمين».
المهم أن مشاركة هذا الجيش الإخواني في فلسطين لم تكن كما يروجون، فإنهم - حسب ما ذكرته حرفي - لم يدخلوا إلا معارك قليلة جداً فيها، فقد صدرت من الشيخ محمد فرغلي، وهو المسؤول العام للمقاتلين الإخوان في فلسطين، الأوامر بعدم الدخول في مزيد من المعارك، بحجة أن هناك مؤامرة لتصفية المجاهدين، وظل الإخوان في معسكرهم لا يحاربون إلى أن عادوا من فلسطين.
الحكاية إذن لم تكن محاربة الصهاينة في فلسطين، كما روجوا، لكن هدف إنشاء النظام الخاص الحقيقي أوضحته حرفي وهي تستشهد بما كتبه عبد الرحمن الساعاتي، شقيق حسن البنا، المراقب العام للجماعة: «استعدوا يا جنود، وليأخذ كل منكم أهبته، ويعد سلاحه، ولا يلتفت منكم أحد، وامضوا إلى حيث تؤمرون، خذوا هذه الأمة برفق، وصفوا لها الدواء، فكم على ضفاف النيل من قلب يعاني وجسم عليل. فإذا الأمة أبت، فأوثقوا يديها بالقيود، وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرعوها الدواء بالقوة. وإن وجدتم في جسمها عضواً خبيثاً فاقطعوه، أو سرطاناً خطيراً فأزيلوه، فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر، وفي عيونهم عمى».
أما عن المكانة التي كان يتمتع بها هؤلاء الذين اختارهم البنا لهذه المهمة، فقد كانت أعلى من غيرهم من المنتمين للجماعة، طبقاً لما أكده الشيخ أحمد حسن الباقوري، في كتابه «بقايا ذكريات»، الصادر عن «مركز الأهرام للترجمة والنشر» عام 1988، حيث أفاد الباقوري بأنه تم توجيه هذا الشباب الذي انضم للتنظيم الخاص على أنهم هم أعضاء الجماعة الحقيقيون، وأن إخوانهم المشتغلين في الدعوة العامة مع البنا هم أقل منهم درجة، فهم كانوا يحملون صفة تربوية، عرفها حسن البنا لهم بـ«الأخ المجاهد»، بينما المشتغلون مع البنا في الدعوة العامة كانوا يعرفوا بـ«الأخ العامل».
تابعت حرفي في كتابها قصة نهاية عقد الثلاثينات وبداية الأربعينات، وما ساقه بعض ممن ساهم في تأسيس خلايا وكتائب داخل النظام الخاص في تلك الفترة، كما كشفت أن فكرة الاغتيالات كانت مرحباً بها بين أعضاء الجماعة، وهو ما ظهر جلياً في ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي، عضو تنظيم الإخوان سابقاً، بمذكراته «ابن القرية والكُتاب.. ملامح سيرة ومسيرة»، عن «دار الشروق»، الجزء الأول، إصدار 2002: «قابلنا، نحن الشباب والطلاب، اغتيال النقراشي بارتياح واستبشار، فقد شفى غليلنا ورد اعتبارنا».
ولفتت حرفي إلى أن الأهداف التي استدعت تشكيل النظام الخاص، بما فيها الدفاع عن «الدعوة»، وحماية ظهرها من الأعداء، كان بينها ضرب الخصوم. فالنظام الخاص أو التنظيم السري يعتبر تنظيماً عسكرياً هرمياً سرياً، هدفه ضرب الخصوم، والخارجين حتى عن الطاعة من داخل الجماعة نفسها.
وذكرت حرفي أن البنا كان يؤيد العنف بكل أشكاله، وقد اتضح ذلك في المؤتمر الخامس للإخوان، الذي انعقد عام 1938، عندما وجه بأن «القوة شعار الإسلام، وأول درجاتها قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح، وإن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها». وقد بدا ذلك تحولاً في نهج الإخوان من الاكتفاء بنهج التربية والدعوة إلى السعي للتغيير بالقوة، وتدشيناً لمرحلة جديدة من طور نمو التنظيم، بعد مرحلة «التعريف»، بالانتقال للمرحلة الثانية، وهي مرحلة «التكوين»، وصولاً لـ«التمكين»، لإقامة دولة «الخلافة الإسلامية» التي تقترب من دولة الخلفاء الراشدين الأربعة، ولا سبيل لتحقيق تلك الغاية إلا بالجهاد المسلح، وهو ما أعلنه عدد من القيادات البارزة داخل تنظيم الإخوان، على رأسهم اثنان من مكتب الإرشاد، وهما محمود أبو زيد عثمان، صاحب امتياز مجلة «النذير»، ومحمد المغلاوي مسؤول قسم الطلبة والعمال، ومعهما محمد عطية خميس، والدكتور علي النشار، والشيخ حافظ سلامة، كما انضم لهم عدد كبير من كوادر الجماعة. وجاء هذا بوضوح في مجلة «النذير»، لسان حالهم بعد الانشقاق.
اللافت أن البنا لم يهاجمهم، ولم يقف رافضاً لما قاموا به، بل تبرع لهم للمساعدة في إنشاء مقرات، كما أن بعض قيادات الجماعة وقفوا الموقف نفسه، ووصفوهم بأنهم «شباب استعجلوا النصر».
وكشفت حرفي أن البنا أصدر توجيهاته بأن يكون هناك لقاء أسبوعي «يوم المعسكر»، هدفه تسهيل إمداد النظام الخاص بعناصر جديدة تعوض الخسائر التي فقدوها بخروج مجموعة «محمد عزت» و«شباب محمد».
وكشفت أيضاً أن استعراضات الجوالة لم تكن مقصودة لذاتها دائماً، وإنما كانت ذريعة لإظهار قوة الجماعة ومظهرها العسكري، والإيحاء بأنها هي القوة العسكرية للجماعة، وصرف النظر عن التنظيم الذي يتم إعداده سراً، وفي كتمان تام بعيداً عن مظهريات الجماعة. وقد تطرقت المؤلفة لطريقة تكوينه، وبيعة أعضائه، وتشكيله العنقودي، وسريته التامة حتى داخل أعضائه أنفسهم.
وأشارت حرفي إلى أن «القيادة» كانت تضم عشرة أشخاص، خمسة من بينهم لا يتصل أحد منهم اتصالاً مباشراً بأي من أعضاء النظام، وتم تحديد مهام «قيادة الجيش» بدراسة طرق التنفيذ لما يصل من خطط صادرة من الأركان، وإصدار بيانات يشترك فيها جميع الأعضاء، كذلك الإشراف على أحوال الجند، والاطمئنان على دوام قوتهم المعنوية، كما تقوم القيادة بالاتصال بالإدارة العليا، وتبليغ الأركان بكل ما يحتاج إليه من إرشاداتها، ويجب أن يكون كل فرد من الأفراد العشرة المكونين لمجلس القيادة على استعداد لتولي القيادة في أي لحظة. أما «الأركان» فهي مجلس مكون من خمسة أشخاص، ويمكن أن يزيد عدده كلما احتاج الأمر، ومهماته وضع خطط لتنظيم القوات في كل من أوقات السلم والحرب، ودراسة المعدات عملياً، وتحديد ما يصلح منها لاستعمال الجيش، وإصدار بيانات بمميزاتها وطرق استعمالها وحفظها، كذلك تحديد الأهداف التي سيتم التعامل معها، ورسم خطة التنفيذ، من زمان ومكان والقوات المطلوبة، ودراسة كل ما يصل إليها عن طريق مجلس القيادة، من صعوبات ومشكلات عملية، ومطالب مستجدة، وإصدار بيانات بنتيجة الدراسة ترسل إلى مجلس القيادة، وبالنسبة لـ«الجنود» فمهمتهم الاستعداد الروحي والعقلي والطاعة والتنفيذ.
وهكذا، ظل العنف شريعة لدى الجماعة، رغم إعلانهم الدائم عن رفضه.


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية
TT

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

«العودة إلى متوشالح... معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» بالعربية

صدر حديثاً عن «محترف أوكسجين للنشر» في أونتاريو كتابٌ جديد بعنوان: «العودة إلى متوشالح - معالجة مُستقبليّة لأسفار موسى الخمسة» للكاتب المسرحي الآيرلندي جورج برنارد شو، وقد نقله إلى العربية المترجم السوري أسامة منزلجي. ويأتي الكتاب ضمن سلسلة «أوكلاسيك»، (أوكسجين + كلاسيك = أوكلاسيك) التي يسعى من خلالها المحترف إلى «تقديم الكلاسيكيات بنهج جديد ومغاير عماده الاكتشاف وإعادة الاكتشاف»، وجاء الكتاب في 352 صفحة.

من التقديم:

«نحن هنا أمام كتابٍ يتخذ فيه برنارد شو من المسرحية والحوار والنقد السياسي طريقاً نحو البشرية وهي تعيش إحدى لحظاتها التاريخية الأكثر دماراً، ولنَكُن بعد قراءة الاستهلال حيالَ نظرياتٍ فلسفية وسياسية وأدبية تدفعنا للتفكير في طريقة تفاعلنا مع العالم وقد أمسى نموذج الحضارة على المحك، اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، فلا محيد عن الكوارث التي يُلحقها الإنسان بنفسه وبالطبيعة. فما الذي يحتاج إليه ليصبح أكثر نضجاً وحكمةً؟ يفترض شو أن ثلاثة قرون أو أكثر من عمر الإنسان كفيلة بأن تجعله يبلغ كماله العقلي في مسار تطوّرهِ وتحقيقه غايات وجوده السامية، فهل الامتداد الأفقي للزمن يحقق ذلك؟ من أين نبدأ؟ وأين ننتهي؟ هذا ما يقدمه لنا كتاب (العودة إلى متوشالح) كونه كتاباً يتحدّى الفناء! منطلقُه الأزل ومنتهاه الأبد. يبدأ من آدم وحواء في جنة عدن، وينتهي في عام 31920 ميلادي وقد أمسى بمقدور الإنسان العيش لما يتجاوز الثلاثمائة عام، وصولاً إلى ولادته من بيضة! إنه كتاب عصيٌّ على التصنيف، له أن يجسد تماماً ماهية (الخيال العلمي)، بوصف الخيال مع جورج برنارد شو (1856 - 1950)، يستدعي العلم والفلسفة والفكر بحق، مقدّماً هجائية كبرى لداروين والانتقاء الظرفي، مفضلاً تسميته الانتقاء التصادفي، فإذا استطعنا أن نُثبت أنَّ الكون بأكمله خُلِقَ عبر ذلك الانتقاء، فلن يطيق عيش الحياة إلّا الأغبياء والأوغاد.

يتخذ الكتاب معبره إلى الخيال من حقيقة أن البشر لا يعيشون مدةً كافية، وعندما يموتون يكونون مجرد أطفال، واجداً في لامارك والنشوء الخلّاق سنده، لنكون حيال عملٍ خالدٍ، لا هو مسرحية ولا رواية، بل مزيج بينهما، مسرحية تُقرأ ولا تُجسّد، ورواية يتسيّدها الحوار...

حملت المسرحيات الخمس العناوين التالية: (في البدء)، و(مزمور الأخوان بارناباس)، و(الأمر يحدث)، و(مأساة رجل عجوز)، و(أقصى حدود الفكرة)، وعبر حوارات عميقة حول مكانة العلم والتطور والفن والإبداع يسافر بنا برنارد شو عبر الأزمنة ليناقش الأفكار التي يطرحها أبطاله منذ آدم وحواء مروراً بالزمن الحاضر، ومضيّاً نحو المستقبل البعيد وقد وصلت البشرية إلى ذروتها، وتخلَّص الناس من الحب والجنس والعاطفة، وأصبحوا كائنات منطقية خالصة! لكن عبقرية برنارد شو في هذا الكتاب تكمن في تعامله مع فكرة الخلود، بحيوية وسخرية، مستكشفاً العواقب النفسية لطبيعة العقل البشري الذي يحتاج إليه الإنسان ليعيش ألف عام ويحكم نفسه بنفسه، ويتخلّص من الصراع والحروب والآفات التي تبدأ به وتنتهي بإفنائه»

جورج برنارد شو، كم هو معروف، كاتب مسرحي وروائي ومفكّر وناشط سياسي آيرلندي، وُلد في دبلن عام 1856 وتوفي عام 1950. عُرف بآرائه الساخرة المثيرة للجدل، ونزوعه التقدمي والرؤيوي، واشتراكيته الفابية. ألّف 5 روايات، و60 مسرحية، ضمّنها أفكاره ومقارباته السياسية والتاريخية والفلسفية، عدا عن مئات المقالات والمقدمات الفكرية لأعماله. من مسرحياته: «السلاح والإنسان»، 1894، و«الإنسان والسوبرمان»، 1903، و«بجماليون»، 1913. حين فاز بجائزة نوبل للآداب عام 1925 رفضها، قائلاً: «أستطيع أن أسامح نوبل على اختراعه الديناميت، لكنْ وحده شيطان بهيئة إنسان من كان بمقدوره اختراع جائزة نوبل»، لكنه عاد وقبل الجائزة بشرط ألا يتلقى قيمتها المالية.

أما أسامة منزلجي فهو مترجم سوري له كثير من الترجمات مثل رواية «ربيع أسود»، 1980، و«مدار السرطان» و«مدار الجدي» وثلاثية «الصلب الوردي»، لهنري ميللر، و«أهالي دبلن» لجيمس جويس، و«غاتسبي العظيم» و«الليل رقيق» و«هذا الجانب من الجنة» لسكوت فيتزجيرالد، ومسرحيات وروايات لتينسي وليامز وبول أوستر وفيليب روث وتيري إيغلتون وآلي سميث وإريكا يونغ.