قيادات التطرف خارج حسابات إعادة التأهيل

نظرة واقعية إلى الممكن والمتعذّر في مسألة مكافحة الإرهاب

أطباق التقاط لـ«داعش» عبر الأقمار الصناعية في الرقة بعد خسارة التنظيم وهروب قياداته (غيتي)
أطباق التقاط لـ«داعش» عبر الأقمار الصناعية في الرقة بعد خسارة التنظيم وهروب قياداته (غيتي)
TT

قيادات التطرف خارج حسابات إعادة التأهيل

أطباق التقاط لـ«داعش» عبر الأقمار الصناعية في الرقة بعد خسارة التنظيم وهروب قياداته (غيتي)
أطباق التقاط لـ«داعش» عبر الأقمار الصناعية في الرقة بعد خسارة التنظيم وهروب قياداته (غيتي)

يقول الفيلسوف اليوناني القديم سقراط «العلم هو الخير والجهل هو الشر»، بمعنى أن الوقوع في الشر يأتي نتيجة الجهل، ما قد يدل على إمكانية إعادة تأهيل الأشخاص الذين وقعوا في هاوية التطرّف فانتموا لتنظيم إرهابي... لكن هل ينطبق هذا المبدأ على الإرهابيين والمتطرفين النازعين إلى العنف الدموي، لا سيما بحق المدنيين الأبرياء.
عودة المقاتلين الأجانب من مناطق النزاع تطرح مسألة ما إذا كان من الممكن إعادة تأهيلهم، وبالأخص، أولئك الذين انضموا لتنظيم متطرف نتيجة جهل تسبب بسوء اختيار. ولقد تكثف الاهتمام بأسباب الانضمام للتنظيمات الإرهابية تحديداً في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وذلك من أجل معرفة إمكانية إعادة تأهيلهم من عدمه حسب الأسباب التي أدّت لذلك التطرف، فقد كانت في السابق مرتكزة على مسببات سياسية أو دينية تحتم ضرورة القتال من أجل البقاء.
إلا أن ذلك لم يعد السبب الأبرز، لا سيما أن غالبية المجتمعات أصبح لديها وعي بمدى خطورات الجماعات المسلحة على الشعوب لتضررها من الهجمات الإرهابية. وهذا حاصل اليوم ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط أو في مناطق النزاع الأخرى، وإنما في العالم أجمع، نتيجة قدرة التنظيمات الإرهابية على نشر أعضائها في مناطق مختلفة من العالم، حتى وإن كانوا ذئاباً منفرداً دون وجود بيئة خصبة تحتضنهم.

التسلسل الهرمي للإرهابي
تختلف إمكانية إعادة تأهيل مقاتل من عدمه، حسب موقعه في التسلسل الهرمي للتنظيم، فكلما ارتقى عضو التنظيم إلى أعلى الهرم استحال إعادة تأهيله وقد تشبع بمبادئ التنظيم وأصبح جزءاً من صنّاع القرار فيه. على سبيل المثال، يستحيل تصور شخصية مثل خالد شيخ محمد، أحد أبرز قيادي تنظيم «القاعدة»، والمسؤول عن التخطيط لـ29 عملية إرهابية؛ تضمنت الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك وتفجيرات بالي في عام 2002، تائباً عن انتمائه للتنظيم، وراغباً في الاندماج في مجتمع والإصلاح فيه. وكان صيت شيخ محمد قد ذاع بعد الرد الذي نطق به في المحكمة الأميركية حين سئل إبّان محاكمته عما إذا كان يفهم أنه سيواجه عقوبة الإعدام فأجاب: «هذا ما أتمناه وما أردته طويلاً عندما حاربت الروس في أفغانستان».
مثل هذه الشخصيات التي صعدت هرم التنظيم يستحيل أن يعطى فرصة لإعادة تأهيله، إذ إنه يفضّل الموت على ذلك. كذلك يستحيل تصوّر احتمال إعادة تأهيل أمثال الناطق باسم تنظيم داعش الإرهابي «أبو محمد العدناني» الذي قتل في عام 2016. وقد دشّن كلمات صوتية عديدة هدفها الحث على الانضمام إلى التنظيم على نسق: «الآن الآن جاء القتال» و«قل موتوا بغيظكم». أمثال هذا وذاك شخصيات وصلت إلى قمة الهرم، وساهمت في تطوير استراتيجيات القتال والتجنيد، ولم تتحقق لها مكانة قيادية لولا تمتعها بدرجة من الثقافة والقدرة على الإقناع.
على الرغم من ذلك، ما زال يظهر من يحاول التخفيف من شيطنة الإرهابيين المتسببين بالكوارث التي أودت بحياة العديد ممن لم يستحقوا الموت. عليا غانم، والدة مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، التي رفضت على مدى سنوات عديدة التحدث عن ابنها، ظهرت أخيراً بعد مضي سبع سنوات على قتل ابنها لتصفه بأنه كان طفلاً خجولاً ومتفوقاً في دراسته، تحول إلى شخصية مندفعة وشديدة التدين في بداية عشريناته حين أصبح - حسب تعبيرها - «رجلاً آخر مختلفاً»، في إشارة إلى تأثره بـ«جماعة الإخوان» ومن ثم اعتناقه للفكر المتطرف. في هذا الكلام إيحاء بأن مؤسس «القاعدة» نفسه كان ضحية تأثره بآخرين، وكأن في ذلك وقوعاً في حلقة مفرغة من توجيه الاتهامات لتأسيس التنظيم أو من هو الجلاّد ومن يعد الضحية، إذ قد يكون الجلاّد ذاته عبارة عن ضحية هو الآخر، وإن كان ذلك في منظور والدته. أما مَن لا يحمل صفة قيادية في التنظيمات الإرهابية والمتطرفة مثل الانتحاريين العاديين فهو أقل قدرة على إقناع الآخرين بمبرراته، فعلى سبيل المثال تظهر وصية السعودي المنتمي لتنظيم داعش الذي فجر نفسه بمسجد الصادق في الكويت، عبر التسجيل الصوتي الذي ظهر له، غير مقنعة البتة. لقد كان كلامه حديثاً محشواً بآيات وكلمات مبهمة مثل «أبشروا بالدم. أبشروا بالموت»، موجهاً إياه للفئة التي قام بشيطنتها، فيما يذكر محاولاً طمأنة أعضاء تنظيم داعش هاتفاً: «أبشروا يا إخوة الدين والعقيدة فإنكم على حق وألا إن نصر الله قريب».

عامل الأزمات النفسية
من جهة أخرى تظهر التنظيمات الحديثة مثل «داعش» احتضانها لأولئك المنغمسين في أزمات سلوكية شخصية أو نفسية، وكأن الانضمام لجماعة ستنتشله من حالة الوهن التي يمرّ بها حتى وإن كان مجرد مجرم ليست له توجهات دينية أو سياسية مفضية للإرهاب.
ولقد لوحظ هذا الأمر من خلال عمليات «الذئاب المنفردة» التي تبدو أشبه بعمليات إجرامية عادية مثل حالات الطعن والدهس، على نسق ما قام به الإرهابي الفرنسي من أصل شيشاني حمزة عظيموف (21 سنة) في باريس وقد أظهر ميلاً سابقاً للتطرف، من طعن للمارة بالقرب من دار الأوبرا بباريس. ولقد تبنى تنظيم داعش الحادثة مع أنها كانت عملية عشوائية هوجاء. كذلك شن البريطاني خالد مسعود (52 سنة) هجوماً انتحارياً أخرق أمام مبنى البرلمان البريطاني أسفر عن مقتله إلى جانب مقتل ثلاثة آخرين، ولم تتجاوز سوابقه عمليات إجرامية مثل حمل سلاح أو اعتداء على أفراد دون أي دليل على ميله للتطرف. وهذا ما يشير إلى عامل الأزمات النفسية والسلوكية لـ«الذئاب المنفردة» المغرر بها، والمتأثرة بالتنظيمات الإرهابية، ومنها إشكالية شعور بعض الأفراد المنتمين للأقليات بالنبذ في تلك المجتمعات، وهنا تبرز أهمية احتضانهم ودمجهم في المجتمع.
هذا الجانب الأخير تفاوتت طرق معالجته بالأخص مع عودة المقاتلين الأجانب من مناطق النزاع، ما بين التعامل الناعم والعقاب التأديبي الذي وصل إلى سحب الجنسيات ومنع العودة إلى أوطانهم. وتعتبر «مذكرة روما لإعادة تأهيل المجرمين في عام 2012» من أبرز المساعي العالمية الجدية لسن قوانين دولية غير ملزمة تؤيد الدول المكافحة للتطرف في جهودها من أجل التخلص من التطرف في السجون. ومن جهة أخرى، ظهرت وطبقت تجارب عدة دول اختارت أسلوب القوة الناعمة لمكافحة التطرف مثل «برنامج المناصحة السعودي» الذي أسس في المملكة العربية السعودية عام 2006، وتضمن البرنامج إعادة تأهيل المتطرفين من خلال «المناصحة»، ومن ثم تزويدهم بالمهارات الوظيفية وكذلك إعادة دمجهم في المجتمع. وثمة دول أخرى اختارت اعتماد نهج مماثل منها سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا.
ويرى خبراء في هذا المجال أنه لا بد من معرفة خلفيات وحيثيات انضمام المقاتلين للتنظيمات المتطرفة المنساقة نحو الإرهاب. ومن الضروري أيضاً معرفة ما إذا كان سبق لمن يوقفون بتهم الإرهاب اقتراف أعمال جنائية سابقة تستلزم محاكمتهم عليها، من أجل محاولة اكتشاف ما إذا كانت لديهم قابلية ارتكاب هجمات إرهابية، أم إن ما فعلوه جاء نتيجة للتضليل والتغرير بهم، أو حتى وجود ظروف جعلتهم في بيئة إحباط وتطرف كحال أبناء الأهالي القاطنين في مناطق النزاعات الساخنة مثل سوريا والعراق. والمعروف أن كثيرين ممن يشكلون الفئة الأخيرة أجبروا رغم إرادتهم على الانضمام للتنظيمات المتطرفة في نطاق سعيها لتعويض نقص عدد المقاتلين في صفوفها، وهو ما حدث لـ«داعش» بعد استهدافه من قبل قوات التحالف الدولية.
ثم إن هناك كثيرين من أبناء المتطرفين العائدين من مناطق النزاع تأثروا بمشاهد العنف، وظهرت أيضاً أساليب استقطاب عديدة للأطفال من أجل أدلجتهم وإنتاج جيل جديد أكثر بطشاً وقسوة ممن انضم للتنظيم في سن كبير، لا سيما أن من الأصعب إقناع شخص نشأ على العنف والتطرف بأن تلك السلوكيات لا أخلاقية وغير صائبة إذا كان أحد والديه منتمياً للتنظيم، أو جرى اختطافه وتربيته عليه.
إن البيئة تعد مكاناً خصباً لنمو التطرف أو درئه، وهذا ما لوحظ أخيراً في الهجمات التي استهدفت كنائس في مدينة سورابايا الإندونيسية حين نفذت أسرة إندونيسية بأكملها لتشمل الأم والأطفال الهجمات الانتحارية. إن «أدلجة» أسرة بأكملها تجعل من الصعب إقناع مرتكبي العمليات الإرهابية بلا أخلاقيتها، وهذا بعكس الحالات التي تلقى رفض المجتمع المحيط بها، مثل ما حدث مع والد الإرهابي السعودي فواز عبد الرحمن الحربي، حين تواصل الوالد مع السلطات الأمنية السعودية نتيجة ارتيابه في تصرفات ابنه، بعدما حمل أسلحة وغادر منزله من أجل تنفيذ عملية إرهابية بمحافظة البكيرية في السعودية. وكانت النتيجة القبض عليه والإشادة بذلك إعلامياً. مثل هذه الواقعة تؤكد ضرورة الاهتمام بكسب القلوب والعقول في أي مجتمع، والتأكيد على رفضه للإرهاب من أجل منع احتضان أهالي ذلك المجتمع أي منتم للتنظيمات الإرهابية.


مقالات ذات صلة

تركيا: لا مكان لـ«الوحدات الكردية» في سوريا الجديدة

المشرق العربي حديث جانبي بين وزيري الخارجية التركي هاكان فيدان والأميركي أنتوني بلينكن خلال مؤتمر وزراء خارجية دول مجموعة الاتصال العربية حول سوريا في العاصمة الأردنية عمان السبت (رويترز)

تركيا: لا مكان لـ«الوحدات الكردية» في سوريا الجديدة

أكدت تركيا أن «وحدات حماية الشعب الكردية» لن يكون لها مكان في سوريا في ظل إدارتها الجديدة... وتحولت التطورات في سوريا إلى مادة للسجال بين إردوغان والمعارضة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الولايات المتحدة​ أحمد الشرع مجتمعاً مع رئيس حكومة تسيير الأعمال محمد الجلالي في أقصى اليسار ومحمد البشير المرشح لرئاسة «الانتقالية» في أقصى اليمين (تلغرام)

«رسائل سريّة» بين إدارة بايدن و«تحرير الشام»... بعلم فريق ترمب

وجهت الإدارة الأميركية رسائل سريّة الى المعارضة السورية، وسط تلميحات من واشنطن بأنها يمكن أن تعترف بحكومة سورية جديدة تنبذ الإرهاب وتحمي حقوق الأقليات والنساء.

علي بردى (واشنطن)
المشرق العربي فصائل الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا تدخل منبج (إعلام تركي)

عملية للمخابرات التركية في القامشلي... وتدخل أميركي لوقف نار في منبج

يبحث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في تركيا الجمعة التطورات في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي مواطنون من عفرين نزحوا مرة أخرى من قرى تل رفعت ومخيمات الشهباء إلى مراكز إيواء في بلدة الطبقة التابعة لمحافظة الرقة (الشرق الأوسط)

ممثلة «مسد» في واشنطن: «هيئة تحرير الشام» «مختلفة» ولا تخضع لإملاءات تركيا

تقول سنام محمد، ممثلة مكتب مجلس سوريا الديمقراطي في واشنطن، بصفتنا أكراداً كنا أساسيين في سقوط نظام الأسد، لكن مرحلة ما بعد الأسد تطرح أسئلة.

إيلي يوسف (واشنطن)
المشرق العربي مقاتلون من المعارضة في حمص يتجمعون بعد أن أبلغت قيادة الجيش السوري الضباط يوم الأحد أن حكم بشار الأسد انتهى (رويترز)

«داعش» يعدم 54 عنصراً من القوات السورية أثناء فرارهم

أعدم تنظيم «داعش» 54 عنصراً من القوات الحكومية في أثناء فرارهم في بادية حمص وسط سوريا، تزامناً مع سقوط الرئيس بشار الأسد.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.