هل فشل العلم في فهم «المعاناة»؟

كتاب عن الفيلسوف برتراند فيرجلي

هل فشل العلم في فهم «المعاناة»؟
TT

هل فشل العلم في فهم «المعاناة»؟

هل فشل العلم في فهم «المعاناة»؟

يعد الفيلسوف برتراند فيرجلي وجها جديدا في الساحة الفرنسية، ولقد بلور في السنوات الأخيرة تصورا يلح فيه على أنه ينبغي للإنسان أن يعرف حجمه في الكون، والتقليص من غروره بفصله نفسه عن العالم قصد التحكم فيه، إذ عليه أن ينخرط من جديد في الكون ويندمج فيه كليا ليحس بدفقه ونبضه وليس فقط جعله موضوعا للدراسة، وهو هنا يوجه نقدا للرؤية الحداثية التي ما هي إلا الرؤية العلمية - التقنية التي تشيئ كل العالم مفرغة إياه من الحياة. باختصار تعد فلسفة هذا الفيلسوف المعاصر دعوة إلى الانتقال من «الإنسان النظري» إلى الإنسان الحي. فالعودة إلى الانبهار والاندهاش بالعالم مطلب ملح لحل العديد من مآزق العصر.
بيد أن هذا الفيلسوف وعالم اللاهوت الفرنسي المولود سنة 1953، غير معروف كثيرا باللغة العربية، فكتبه حسب علمنا ليست مترجمة بعد، على أهميتها بل وبساطتها أيضا. ومن كتبه نذكر: كتاب «المعاناة، بحث في المعنى المفقود» الصادر سنة 1997. وكتاب «عودة إلى الاندهاش» الصادر 2010. وكتاب صدر هذه السنة بعنوان «ظلمات الأنوار»...
ولكن ولحسن الحظ، قرر الباحث المبرز حسن الوفاء أن يقدم لنا هذه السنة كتابا يقربنا من فلسفة برتراند فيرجلي وسماه: «معنى الحياة، دراسة في فلسفة برتراند فيرجلي» والذي تم إصداره في مطبعة: سليكي أخوين بطنجة - المغرب. ولتقريب القارئ جيدا من هذا الكتاب سنلقي إطلالة على موضوع «المعاناة» ومن خلاله نأخذ تصورا ولو أوليا حول طريقة تفكير فيرجلي.
ينبه فيرجلي إلى أن قضية المعاناة قد تشكل حولها في الثقافة الغربية تصوران أساسيان، وهما: التصور المسيحي الذي يرى أن الحياة ما هي إلا عقاب للإنسان، وما المعاناة إلا طريق للخلاص، فالألم هو تكفير عن الخطيئة الأولى تجاه الرب، الأمر الذي يجعل المعاناة تستحق التمجيد، فهي طريق المعنى الحقيقي. أما التصور الثاني فهو التصور الحداثي الذي جاء لينصب نفسه ضد المعاناة، إذ لا يمكن تحقيق معنى للحياة إلا إذا كانت خالية من الألم، فالزمن الحديث يرى في المعاناة تدميرا للمعنى، لذلك نجده يدين المعاناة ويسير ضدها.
سيحاول فيرجلي أن يتحرك على خلاف التصورين معا، أي المسيحي والحداثي (العلمي-التقني)، ليعلن أن معنى الحياة ليس مرتبطا لا بالمعاناة ولا بغيابها، فالحياة تخلق معناها من ذاتها. فكيف ذلك؟
إن ثقافتنا الحداثية، يقول عنها فيرجلي، غالبا ما تعتبر المعاناة ثمنا وتتعامل معها بطريقة نفعية، وهنا يذكر الكتاب مجموعة من الأمثلة: ففي مجال الطب يصبح المريض مجرد أنموذج لمرض معين، فالداء يختار المريض ليطور نفسه ويتكشف من خلاله، ومهمة الطب هو تتبع ذلك، أما المعاناة فهي ما لا يقبل التشخيص أو الموضعة (جعله موضوعا للدراسة). فكم الهوة سحيقة بين العالم الطبيب ومعاناة المريض؟ المعاناة تصبح مجرد دلالة ومؤشر ظاهري، يخبرنا يوضع يسمح لنا بالتحرك بسرعة من أجل البقاء، باختصار المعاناة مفيدة. إننا نصل مع العلم بحسب فيرجلي إلى الباب المسدود، ولا يمكن أن نطمع من خلاله إلى إدراك كنه المعاناة. فالغائب في الطب هو ألم الشخص المريض نفسه، أو لنقل أن موضعة المعاناة تجعله أمرا لا إنسانيا.
وأما إذا اتجهنا صوب الجوانب الاقتصادية والاجتماعية فسنجدهما مثالين صارخين يبرزان كون أن المعاناة ينظر إليها في الغالب من زاوية نفعها أو باعتبارها ثمنا أو تعويضا عن عمل وعن جهد وشقاء... فحينما نعاقب شخصا خرج عن الإطار المنظم للجماعة فهنا نكون قد ألحقنا به معاناة، وهي ضرورية لضمان وحدة الصف وتدبير الكيان الاجتماعي والحيلولة دون فقدانه توازنه. فالمعاناة كما نرى ينظر إليها على كونها لا تخلو من فائدة، وهذا هو التصور السائد، بل حتى وجوديا، إذا كنت تود تجاوز ذاتك والارتقاء بنفسك فإنك تحتاج إلى جهد وحركة تعال من أجل ذلك.
إن المنسي في كل ما سبق ذكره هو الشخص الذي يتألم، فالمرء الحداثي أصبح يبالغ في عقلنة المعاناة والنظر إليها بطريقة مجردة عازلا إياها عن الذات، فحينما نشاهد أحداثا درامية ومأساوية في التلفاز، فإننا نشاهد معاناة طبعا، لكن وبدم بارد وسعيا منا لإعطائها المعنى، نبدأ في التحليل وإيجاد مبررات لها واتخاذ مسافة منها وإعطاء أرقام حولها. وهذا طبعا لا يصل إلى قلب معاناة المعني بها أبدا. لهذا يقول فيرجلي: «إن معنى المعاناة ليس إعطاء معنى له بل محاولة إيقافه»، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا عبر الانخراط الكلي مع الآخر.
يلح فيرجلي على أن «المعاناة» هي جزء من الحياة كالموت تماما، وحينما نتعامل معها حسابيا ولغرض الفائدة فقط، نسقط في نسيان الإنسان. فحين ننظر للمعاناة بعيون المنفعة نبرر للبربرية والقتل والاستغلال والتسلط سواء باسم الاقتصاد أو القوانين الاجتماعية أو حتى باسم الطب نفسه... إن الزمن الحديث باعتباره لا يتأمل ويكتفي بوضع الأشياء في قوالب عقلية صارمة من أجل الاستثمار والسيطرة يمنع نفسه من اقتحام الأشياء والاكتفاء بظاهرها. وهو ما يحدث مع قضية المعاناة، حيث لا يتم الوصول إلى قلبها أبدا.
نخلص إلى أن المعاناة لا ينبغي إخراجها من صميم الحياة، فمن العادي جدا أن يعاني المرء، فكونك تحب فستعاني ولكن لا بأس لأنك تحب، وأن تكون فنانا فستعاني ولكن لا تبالي لأنك تمارس الفن، وكونك تتعلم فستعاني، فلا عليك أيضا لأنك تتعلم...
وهو ما يسمح للمرء بالتحمل ومن ثم عيش الحياة بهدوء.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم