«فوكس للقرن العشرين»... إلى كنف «ديزني» بعد تاريخ عريق

رصيد الشركة 4300 فيلم في مائة عام وتقنية «سينما سكوب»

«فوكس للقرن العشرين»... إلى كنف «ديزني» بعد تاريخ عريق
TT

«فوكس للقرن العشرين»... إلى كنف «ديزني» بعد تاريخ عريق

«فوكس للقرن العشرين»... إلى كنف «ديزني» بعد تاريخ عريق

لاستوديوهات كولومبيا صورة تمثال الحرية وهو يشع. ولاستوديوهات باراماونت صورة الجبل ونجوم تعلوه على شكل قوس. لمترو غولدوين ماير صوت وصورة الأسد وهو يزأر. و«يوينفرسال بيكتشرز»، إلى وقت قريب، كان لها صورة الأرض المكوّر في دائرة كاملة. وشركة وورنر كانت تكتفي بحرفي اسمها WB مطبوعاً على ما يشبه الدرع.
أما «فوكس» فكان لها أفضل موسيقى تعريفية بين كل الاستوديوهات. موسيقى من الأبواق الصادحة بقوّة كما لو أنها آتية من أيام الرومان في ميادين القتال. تحت صوت تلك الموسيقى كلمات ضخمة تقول: 20the Century Fox. الكلمات محاطة بضوئين يتحركان بشعاعين كاشفين يجولان في السماء، واحد إلى يمين الكلمات والآخر إلى يسارها. ضوءهما يجوب السماء عالياً كما لو أنهما يبحثان عن طائرات مغيرة في زمن الحرب العالمية الثانية. الشعار كان من تصميم الفرنسي إميل كوسا جونيور الذي كان تسلم قسم التصاميم الفنية في الشركة. أما الموسيقى ذاتها فوضعها ألفريد نيومان.
الآن وبعد صفقة البيع التي أجازتها وزارة العدل الأميركية قبل شهرين لن نسمع تلك الموسيقى ولن نشاهد الشعار إلا من خلال إعادة مشاهدة الأفلام السابقة لها.
المشتري لا يقل ضخامة ويعرف بشعار مرسوم لقلعة كاتدرائية يمر من فوقها نجم ينطلق من شمال الصورة إلى يمينها وتحتها كلمات Walt Disney Pictures. «ديزني» دفعت 52 بليون دولار ثمناً لأفلام ومحطات «فوكس» التلفزيونية شاملة تاريخ الشركة من الأفلام والاستوديو الكبير المنتصب فوق مساحة كبيرة من منطقة سانتا مونيكا في لوس أنجليس.
موافقة وزارة العدل التي صدرت في السابع والعشرين من يونيو (حزيران) تمنح «ديزني» ملكية 22 محطة تلفزيون رياضية في ربوع الولايات المتحدة ومحطات إخبارية وعقارات مختلفة والدفع كان خليطاً من المبالغ النقدية والأسهم المصرفية. وتبعاً لتفاصيل الصفقة فإن شركة فوكس، التي يملكها روبرت مردوخ، تخلّت عن كل أملاكها المعنوية والمادية باستثناء قنواتها التلفزيونية الرئيسية مثل «فوكس نيوز» وملحقاتها.
لم تتم الصفقة بسهولة إذ ناوأتها شركة «كومكاست» (Comcast) التي عرضت شراء فوكس بمبلغ مغر قدره 58 بليون دولار لكن الصفقة أبرمت بعدما قضى المحامون والمحاسبون على جانبي وولت ديزني وفوكس أشهراً من التداول امتدت ما بين شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي إلى تاريخ إنجاز الصفقة.
- نجوم أول
بدأ تاريخ فوكس بخلاف، كل من داريل ف. زانوك وجوزيف شنك كانا عضوين في مجلس إدارة شركة يونايتد أرتستس، تلك التي أسسها سنة 1919 المخرج ديفيد وورك غريفيث والممثلين تشارلي تشابلن وماري بيكفورد ودوغلاس فيربانكس والتي تعرضت لسلسلة من عمليات الاستحواذ بدءاً بقيام مترو غولدوين ماير بشرائها وضمها ووصولاً إلى كونها اليوم جزءاً من الشركة الأكبر قلما ما نشاهد لها أفلاماً، إذ تنصرف إلى تنفيذ مهام توزيعية وإدارية أكثر منها إنتاجية.
حسب مصادر ترك زانوك وشنك، «يونايدت أرتستس» سنة 1933 واتصلا بشركة صغيرة اسمها «فوكس» لمؤسسها ويليام فوكس. خلال ذلك انضم إلى هؤلاء الثلاثة لويس ب. ماير. لكن مصادر أخرى تقول إن زانوك كان مسؤولا في شركة وورنر وتمت الاستعانة به لقيادة المؤسسة من دون ماير الذي كانت له مسؤولياته في الشركة التي شارك بتأسيسها سنة 1924 باسم مترو - غولدوين - ماير. في كلتا الحالتين تم التأسيس في السنة المذكورة والإنتاج في العام التالي بفيلم «بيت آل روثتشايلد»، إخراج ألفريد وركر، وهو الفيلم تم ترشيحه لجوائز الأوسكار سنة 1935 وكان في عداد سباق ضم 12 فيلماً من بينها نسخة شركة باراماونت من «كليوباترة» لسيسيل ب. دميل، وهو الفيلم الذي ستنتجه «فوكس» مجدداً سنة 1963 من بطولة إليزابيث تايلور ورتشارد بيرتون وإخراج جوزيف ل. مانكوفيتز.
ويليام فوكس فرض اسمه على التحالف الجديد ليس بقوّة إنتاجاته، فوضع شركته «فوكس فيلم» لم يكن جيداً، بل بقوّة نجومه المتعاقدين معه ومن بينهم شيرلي ماكلين وجانيت غاينور وويل روجرز الذي توفي في حادثة طائرة، سنة 1935. كبديل قام زانوك بجذب بعض النجوم من شركة وورنر بسبب علاقته معهم عندما كان مديراً لها وأضاف إلى إليهم تايرون باور وهنري فوندا وأليس فاي وعدد آخر من نجوم ذلك العقد الآفل.
في الأربعينات بلغت «فوكس للقرن العشرين» نضجاً سريعاً. تلحظ ذلك من خلال بعض أهم إنتاجاتها مثل «عناقيد الغضب» و«مستر لينكولن الشاب» (كلاهما لجون فورد) و«اتفاق السادة» لإيليا كازان و«حفرة الثعبان» لأنتول ليتفاك وكلها أنجزت نجاحات كبيرة.
في الخمسينات قامت الشركة (قبل وبعد انفصال داريل زانوك عنها سنة 1956) بدخول معترك تطوير تقنيات العروض السينمائية فابتدعت ما أطلق عليه اسم «سينما سكوب» الذي نص على شاشة أعرض من مقاس 35 مم المتداول حينها. هذه النقلة كانت ردّاً على انتشار أجهزة التلفزيون في مطلع الخمسينات وترجمة لاستعداد هوليوود البقاء على سدة الصناعة الترفيهية المصوّرة.
تحت ستار «السينما سكوب» قامت «فوكس» بتصوير أفلام منتمية إلى أنواع مختلفة. أنتجت الأفلام التاريخية (مثل «كليوباترة») والدينية («الحبل» لهنري كوستر) والوسترن («أوكلاهوما» لفرد زنيمان و«رجل من لارامي» لأنطوني مان) والموسيقي («كارمن جونز» لأتو برمنجر) من بين أخرى.
«كليوباترا» انتقل من مفهوم مشروع فيلم تاريخي حول الملكة التي جذبت إليها الروماني أنطوني بجمالها الساحر، إلى معضلة، إذ بات المشروع الذي خرج عن كل قوانين الصناعة وتجاوزت ميزانيته ضعف ما نوت «فوكس» تخصيصه. إذ بلغت الميزانية النهائية 40 مليون دولار وهو رقم مرتفع جداً آنذاك (سنة 1963) يوازي بعملة اليوم نحو 300 مليون دولار على قياس أن كل 100 دولار في ذلك العام تساوي 810 دولارات حالياً. إليزابيث تايلور وحدها قبضت مليون دولار عن دورها وهو رقم لم تبلغه آنذاك ممثلة أخرى من قبل.
- عريقاً
لم يكن «كليوباترة» فشلاً ذريعاً لكن مع ارتفاع تكلفته لم يدخل خانة الأفلام المربحة أيضاً. على أن الستينات لم تكن، بالنسبة للشركة، إخفاقات من هذا النوع، بل عرفت، وبعد تعيين داريل زانوك (وقد عاد وترأس الاستوديو في مطلع الستينات) لابنه ريتشارد بديلاً له. تحت إدارة الابن خطت الشركة صوب نجاحات أكبر فأنتجت «صوت الموسيقى» (لروبرت وايز) و«39 درجة» (ألفريد هيتشكوك) و«شمالي ألاسكا» (هنري هاذاواي) و«المليونيرة» (أنطوني أسكويذ) و«اليوم الأطول» (مجموعة من المخرجين) و«زوربا اليوناني» (مايكل كوكايانيس) و«الإنجيل في البداية» (جون هيوستون) وذلك من بين نحو 300 فيلم قامت بإنتاجه في الستينات.
في نهاية السبعينات تبنت «فوكس» مشروع فيلم بميزانية لم تزد كثيراً عن 12 مليون دولار اسمه «ستار وورز». هذا بعدما كانت الاستوديوهات الأخرى رفضته معتقدة أنه لن يحقق أي نجاح يذكر. لكن المشروع استرعى انتباه «فوكس» وقامت بتمويله وفوجئت كسواها بنجاحه غير المتوقع.
نجاحه قاد لإمبراطورية ضخمة من الأفلام والمشتقات الأخرى قبل أن تشتري وولت ديزني ملكية مؤسس السلسلة (المنتج والمخرج جورج لوكاس) وتتبنى عمليات إنتاج الأجزاء الأخيرة وتوسيع رقعة المشتقات قدر المستطاع. هذا الانتقال الجديد في الملكية تبع قيام الإمبراطور الإعلامي روبرت مردوخ بشراء «فوكس» في عملية مشهودة في التسعينات اعتبرت حينها جرس إنذار لمحاولة المؤسسات الضخمة الاستيلاء على تلك الأصغر منها أو تلك القابلة للهضم.
ذلك لأن مترو غولدوين ماير بيعت أكثر من مرّة و«كولومبيا» اشترتها صوني و«يونيفرسال بيكتشرز» أصبحت ملكاً لشركة AMC ثم لمؤسسة NBC حالياً.
لكن ما يثير التعجب هو أن «فوكس للقرن العشرين» لم تكن مقدمة على وضع متأزم (كما حال مترو - غولدوين - ماير اليوم إذ تبلغ ديونها أكثر من ملياري دولار) ولديها سلاسل فيلمية ناجحة من الإنتاجات الأخيرة مثل سلسلة «رجال إكس» و«فانتاستيك فور» و«إليانز» وفي الصدارة «أفاتار» الذي دخل جيمس كاميرون تصوير جزأين جديدين له منذ بضعة أسابيع. السؤال المطروح إذا ما كان مالكها والمساهمون الكبار فيها يريدون الخروج من صناعة السينما والاكتفاء بالتلفزيون وتحقيق ثروة كبيرة خلال ذلك أو أنها حركة لا ضرورات لها أو دوافع فعلية؟ في الحالتين هو اندثار لشركة كبرى في عصر من صراعات البقاء للأقوى.
بقيام وولت ديزني بشراء «فوكس» وتقويض تاريخها ينقص عدد الاستوديوهات الكبيرة واحداً. لكن الأهم أن جعبة «فوكس» التي تحتوي على نحو 4300 فيلم منذ أن قام ويليام فوكس بإنشاء شركته سنة 1919 باتت ملكاً لاستوديو تم بناؤه على أساس تخصصه بأفلام الرسوم المتحركة قبل أن ينفض عن نفسه ذلك اللقب ويتحوّل إلى استوديو ينتج كل ما يصل إليه من «فورمات» وأنواع طالما يشتم من ورائها رائحة الربح.
عندما خطا العالم القرن الواحد والعشرين لم تقم «فوكس» السينمائية بتغيير شعارها وأبقته ناطقاً بالقرن العشرين الذي مضى. ربما كان ذلك نبوءة لما في مكانها فهي لم تلج القرن الجديد لأكثر من سنواته الـ18 الأولى.


مقالات ذات صلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

يوميات الشرق «صيفي» فيلم سعودي مرشح لجائزة مسابقة مهرجان البحر الأحمر السينمائي للأفلام الطويلة

الفساد والابتزاز في «صيفي»... تحديات تقديم القضايا الحساسة على الشاشة

تعود أحداث فيلم «صيفي» الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة، إلى فترة أواخر التسعينات.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق المخرج محمد سامي في جلسة حوارية خلال خامس أيام «البحر الأحمر» (غيتي)

محمد سامي: السينما تحتاج إلى إبهار بصري يُنافس التلفزيون

تعلَّم محمد سامي من الأخطاء وعمل بوعي على تطوير جميع عناصر الإنتاج، من الصورة إلى الكتابة، ما أسهم في تقديم تجربة درامية تلفزيونية قريبة من الشكل السينمائي.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين رئيس في مشهد من فيلم «الفستان الأبيض» (الشركة المنتجة)

لماذا لا تصمد «أفلام المهرجانات» المصرية في دور العرض؟

رغم تباين ردود الفعل النقدية حول عدد من الأفلام التي تشارك في المهرجانات السينمائية، التي تُعلي الجانب الفني على التجاري، فإن غالبيتها لا تصمد في دور العرض.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق الفنانة الأردنية ركين سعد (الشرق الأوسط)

الفنانة الأردنية ركين سعد: السينما السعودية تكشف عن مواهب واعدة

أكدت الفنانة الأردنية ركين سعد أن سيناريو فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»، الذي عُرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، استحوذ عليها بمجرد قراءته.

انتصار دردير (جدة )
يوميات الشرق إيني إيدو ترى أنّ السينما توحّد الشعوب (البحر الأحمر)

نجمة «نوليوود» إيني إيدو لـ«الشرق الأوسط»: السينما توحّدنا وفخورة بالانفتاح السعودي

إيني إيدو التي تستعدّ حالياً لتصوير فيلمها الجديد مع طاقم نيجيري بالكامل، تبدو متفائلة حيال مستقبل السينما في بلادها، وهي صناعة تكاد تبلغ الأعوام الـ40.

إيمان الخطاف (جدة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».