استعدادات مبكرة رسمية وجماهيرية للاحتفال بأعياد رأس السنة في بغداد

احد المحلات المتخصصة في بيع متعلقات أعياد الميلاد
احد المحلات المتخصصة في بيع متعلقات أعياد الميلاد
TT

استعدادات مبكرة رسمية وجماهيرية للاحتفال بأعياد رأس السنة في بغداد

احد المحلات المتخصصة في بيع متعلقات أعياد الميلاد
احد المحلات المتخصصة في بيع متعلقات أعياد الميلاد

بعد تأجيل لمدة ثلاث سنوات بسبب تزامنها مع عاشوراء، يستعد العراقيون وفي المقدمة منهم المسيحيون للاحتفال بأعياد الميلاد وبداية السنة الميلادية. الأجواء بدت مبكرة على غير العادة في العاصمة بغداد بعد أن باتت أيامها تتخضب بالدم بسبب توالي الانفجارات. المسيحيون الذين أجبرت الظروف الكثيرين منهم إما إلى الهجرة وإما الانزواء في أحيائهم التي باتت مهددة هي الأخرى من قبل نفس المسلحين المجهولين.
وكالعادة يحاول المسيحيون على استحياء إحياء أعياد الميلاد بعد أن جاملوا على مدى السنوات الماضية المسلمين وبالذات الشيعة منهم في إحيائهم موسم عاشوراء. السلطات الرسمية من جانبها حاولت أن تكون لها بصمة هذا العام، وذلك من خلال الشروع بنصب شجرة ميلاد لأول مرة بطول خمسة أمتار في منطقة الكرادة (جنوب بغداد) تضامنا مع احتفالات أعياد المسيح.
شخصية «بابا نويل» الشهيرة وشجرة الميلاد المزدانة بالألعاب والأضواء، كانتا أبرز طلبات العائلات العراقية كما يقول زياد طارق صاحب محلات «زيكو» للهدايا في منطقة السيدية (جنوب غربي بغداد)، ويضيف: «دمى شخصية (بابا نويل) متنوعة ما بين المتحركة والثابتة، والصغيرة والكبيرة، ويزداد الإقبال عليها وشراؤها من قبل أطياف مسيحية ومسلمة على نحو سواء، أما أسعارها فهي معتدلة وتناسب الجميع».
وانشغل صديقه مصطفى عدنان بوضع مزيد من الألعاب والدمى المتحركة على الباحة الخارجية لمحله كي تجذب الزبائن أكثر للشراء، رغم أن بعضهم يأتي لالتقاط الصور التذكارية فقط، كما يقول، مضيفا أن: «فرصة الاحتفال بأعياد الميلاد متفاوتة بين منطقة وأخرى، بحسب طبيعة سكانها، ونحن نلمس طلبا أكثر هذا العام لمستلزمات الاحتفال من هدايا وألعاب دمى وشجرات ميلاد بأحجام متنوعة».
الشابة فالانتينا يوارش تسكن منطقة بغداد الجديدة، شرق بغداد (وتسكنها الكثير من العائلات المسيحية)، تمنت أن تكون سنة 2014 سنة خير وسلام على العراقيين جميعا، ونهاية العنف الموجه ضدهم، وعودة الجميع لديارهم. وعن استعداداتها للاحتفال هذا العام، قالت: «تبدأ الاحتفالات في العادة منذ يوم الـ25 من هذا الشهر وتتواصل حتى مطلع العام الجديد، ونحاول أن نجتمع في بيت أحدنا ونحتفل معا ونتناول الطعام معا ونتبادل الهدايا، بعد أداء سهرات الصلاة وقراءة نصوص الإنجيل المرتبطة بالميلاد في كنيسة مريم العذراء القريبة من الحي».
لكن أحوال السيدة هاجر شيمعون من منطقة المنصور وسط بغداد، بدت غير مهتمة بالأعياد بعد أن تفرق ذووها وأصدقاؤها في دول عدة بسبب موجة العنف الموجه ضد الطائفة المسيحية التي لا تشجع على البقاء في البلاد، كما تقول، وتمنت شيمعون «أن تعود بغداد حاضنة لكل الطوائف والأديان وأن ينعم سكانها بالأمن والعلاقات الطيبة». وكانت البطريركية الكلدانية في بغداد قد أصدرت بمناسبة قرب حلول أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة تعليمات لكهنة أبرشية بغداد تتضمن تنظيم الأعياد المقدسة من ناحية المحتوى، لتكون فرصة «لشحن الإيمان والهمم»، ومن ناحية العمل على جمع المؤمنين وتنظيم نشاطات اجتماعية لهم، وحثتهم على إقامة الحفلات في قاعات الكنيسة كونها فرصة جميلة للعائلات حتى تخرج من بيوتها ويتعرف بعضها على بعض.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)