مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (5): غادرت تونس عبر البحر ولقيت ترحيبا من الحكومة الإسبانية

بعد صدور الحكم بإعدامي

الجبالي وعائلته بعد عودته إلى تونس نهاية عام 1988
الجبالي وعائلته بعد عودته إلى تونس نهاية عام 1988
TT

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (5): غادرت تونس عبر البحر ولقيت ترحيبا من الحكومة الإسبانية

الجبالي وعائلته بعد عودته إلى تونس نهاية عام 1988
الجبالي وعائلته بعد عودته إلى تونس نهاية عام 1988

في هذه الحلقة يعرض رئيس الوزراء التونسي الأسبق حمادي الجبالي الفترة التي اضطر فيها للفرار من تونس تحت ضغط ملاحقة الأجهزة الأمنية. ويقول في هذا السياق {بالنسبة لي كانت هناك مقاربة سياسية ومقاربة أمنية، وهنا أعني أنني عندما غادرت من تونس كنت محكوما بالإعدام، فذهبت إلى إسبانيا حيث طلبت اللجوء. لقد قرّرت الخروج بعدما عرفت أن قوات زين العابدين بن علي الأمنية اقتربت من المكان الذي كنت أختبئ فيه، إذ اعتمدت يومذاك وزارة الداخلية سياسة التضييق ومسح المناطق بشكل تدريجي، وأخذوا يقتربون من الضاحية الشمالية من العاصمة حيث كنت أقيم في منطقة سكرة، وتحديدا في سيدي فرج».
فررت من مكان إقامتي متنكّرا، بهوية أخرى. يومذاك كان سهلا تغيير الجوازات إذ كان لا يحتاج إلا لإبدال الصورة الشخصية بأخرى. بن علي اكتشف الأمر وبحث مع الرئيس الحبيب بورقيبة فيه، ومنذ ذلك الوقت تقرّر الاستعاضة عن الجوازات العادية في تونس بالجوازات الإلكترونية. ويهمّني الإشارة هنا إلى أننا في تلك الفترة لم نكن نتعامل مع أطراف خارجية في هذا الموضوع.
الجهات الأمنية وقتها كانت تتوقع أن نهرب عبر مطار قرطاج الدولي، لكننا خرجنا عن طريق البحر في باخرة {الحبيب}، وسبقني صالح كركر بـ21 ساعة، ثم التحقت به إلى إسبانيا.
ذهبت أولا إلى مدينة مرسيليا الفرنسية، وكان كل همي الخروج من المياه الإقليمية التونسية لأنني كنت أعلم أنه سيكون من الصعوبة بمكان لفرنسا أن تعيدني، فأنا كنت معروفا لدى السلطات الفرنسية، وبالتالي كنت واثقا من أنها لن ترحلني. ثم إننا لم نكن مصنفين لديهم كـ«إرهابيين} بل كنا مجرّد حركة سياسية وكانت لنا لقاءات مع السفراء والإعلام، وسبق أن كانت لي شخصيا لقاءات مع صحف مثل {ليبراسيون} و{لو فيغارو}. وعند وصولي إلى إسبانيا وجدت ترحيبا كبيرا وتقبّلا.. بل ومساعدة لم أكن أتوقعها.
ولدى سؤال الجبالي عن سبب اختياره إسبانيا، بالذات، ملجأ له وليس فرنسا أو بلجيكا أو إيطاليا، أجاب بأنه كان هناك في ذلك الوقت {ما يكفي من الشباب الناشطين في تلك الدول}. وأضاف أن نيته أساسا لم تكن الهروب، بل خدمة الحركة سياسيا وفتح آفاق جديدة لها في إسبانيا.
أمن بن علي مارس أساليب الضغط على عائلتي
وتابع الجبالي قائلا {عندما كنت في حالة التحضير للفرار من تونس إلى إسبانيا عشت مع عائلتي مرحلة في غاية الصعوبة. لقد اقتحموا بيت والدتي، وكانت زوجتي وحيدة في حينه وحاملا في الشهر الثامن. حصل ذلك في شهر سبتمبر (أيلول) 1987، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1987 ولدت ابنتي سندس».
وعندما صدر علي الحكم بالإعدام كنت أسكن مع زوجتي في فيلا بجانب مدرسة الشرطة بمنطقة صالامبو في ضواحي العاصمة، وكان بيتنا قريبا من بيت وزير الدفاع.
يومذاك جاءت صديقة لزوجتي لمساعدتها، خصوصا أنها حامل، وكان معها زوجها، وكنا ننزل إلى الشاطئ للنزهة ونجلس في المقاهي مع أن حملة التفتيش علي كانت في أوجها.
كنت وقتها أتنقل بين مكانين. فيلا في منطقة سكرة وأخرى في منطقة صالامبو، وعلمت أن زوجتي عندما علمت بصدور حكم الإعدام علي أغمي عليها ولم أكن وقتها معها، لكنني عندما عزمت على التوجه إلى إسبانيا تحدثت إليها وطلبت منها أن تعود إلى مدينتنا سوسة. والحقيقة أن الجهات الأمنية لم تعلم بعودة وحيدة إلى سوسة إلا بعد الانقلاب (وصول بن علي إلى الحكم)، وكانت وقتها على وشك أن تضع ابنتنا الصغرى في مصحة الزياتين بسوسة. ولقد حاول أعوان الأمن اقتحام غرفتها لأخذ أقوالها، لكن الطبيب استنكر ذلك بشدة، ورفض دخولهم وكان صديقا شخصيا لحامد القروي (رئيس الوزراء آنذاك) فاتصل به، وبالفعل تحدث معهم القروي وطلب منهم التراجع.
في الوقت نفسه قبضوا على لطفي، أخو زوجتي، وأوقف لمدة شهرين، وهو الذي لم يكن له أي علاقة بالسياسة. وحقا تأثر كثيرا وخرج بمعنويات سيئة جدا، لأن القبض عليه جرى لمساومتي شخصيا حتى أظهر، ويجري اعتقالي.
عندما علمت بالأمر اتصلت بوزارة الداخلية من إسبانيا وأعلمتهم أنه لا مبرّر لإبقاء صهري قيد الاعتقال لأنني أساسا خارج البلاد، كما أذكر أني قلت لهم {من العيب عليكم أن تمسكوا رهينة}، فأجابني الطرف المسؤول في الوزارة بأنني هارب من عدالة بلادي ومن الأفضل أن أعود وأسلم نفسي، وعندها رددت عليه بما معناه دعك من هذه اللغة، وأوضحت له أنني إنما اتصلت فقط ليكفوا عن إزعاج عائلتي ويتأكّدوا أنني خارج البلاد.
هذا التطور أدى إلى نشري مقالة في صحيفة {لو موند} الفرنسية، أثرت فيها المسألة، وبعد الكشف عن قضيته (لطفي) في فرنسا انتقلت إلى إسبانيا. وهناك رحّب الإسبان بي بحرارة سواء من طرف وزارة الخارجية أو الداخلية، واستقبلتني الكثير من المنظمات، خصوصا الدولية منها، وكان ممثلوها يؤكدون لي في مختلف المناسبات بأنني طرف مرحّب به، ويذكرون عراقة العلاقات بيننا، وفي الحقيقة عدّوني إضافة للبلاد ولست مشكلة، ورأوا أنني - على العكس - سأخدم الحياة السياسية.
هنا أشير إلى أن صورة حركة {النهضة} في إسبانيا كانت صورة حركة سياسية منظمة. وكانت إسبانيا يومذاك تلاحظ أن فرنسا هي الدولة الأوروبية التي يقصدها المعارضون دون غيرها، في حين أنها كانت راغبة في استقطاب الحركات المعارضة واحتضانها بدورها.
في إسبانيا أسكنوني في فندق، ولم يضعوا علي أي حراسة، بل منحوني حرية الحركة في انتظار حصولي على منحة مادية للعيش، وكذلك حق اللجوء السياسي.
ولم تكن الخدمات التي تقدم في إسبانيا لي فقط، بل لعدد كبير من المعارضين السياسيين، وكان الذين يتواصلون معنا من المتطوّعين، خصوصا من منظمة العفو الدولية والصليب الأحمر. وهنا أذكر منهم، على وجه الخصوص، طبيبا إسبانيا عرّفني عليه نائب رئيس تحرير {إل باييس}، وهي الصحيفة الأوسع انتشارا في إسبانيا، وعرّفني أيضا على مدير الصحيفة وعرضا علي فكرة كتابة عمود في الصحيفة. وفعلا بدأت كتابة مقالات، وكان يُنظر إلي على أنني مناضل. ولكن في أحد الأيام جاءني مدير التحرير غاضبا ومستاءً من عبارة وردت في إحدى خطب آية الله الخميني وقتها، ووردت فيها أن الأندلس {أرض عربية} يجب استرجاعها. وكان رد الفعل في إسبانيا سيئا. لقد جاء ليعرف رأيي في الموضوع وأنا أعربت له عن استيائي، لكنني كنت أعلم أنه ربما كان يرى من الأفضل لو أنني كتبت استنكاري لكلام الخميني. والواقع أن الإسبان كانوا متفهّمين أن {النهضة} التونسية مختلفة عن الحركات الإسلامية الأخرى في بقية العالم العربي والإسلامي، وأن قضيتنا الأساسية هي قضية حريّات.
انتقلت بعد ذلك إلى جنوب إسبانيا للإقامة في مدينة بلنسية (فالنسيا). وقتها اتصل بي الأستاذ حسن الغضبان الذي كان قريبا من الحركة في السبعينات، وأخبرني أن الوزير الأول الهادي البكوش يريد التحدث إلى عبر الهاتف، وفعلا اتصل بي بعدها بوم وعرض علي العودة إلى تونس وطي صفحة الماضي.. فقلت له أنت تعلم أني محكوم بالإعدام والوضع لم يتغير، فليس هناك إلا الكلام والوعود، فما هي الضمانات لي ولغيري؟ قال إنهم مستعدون أن يعطوني كل الضمانات.
قرار العودة إلى تونس
يومذاك أفرج عن الغنوشي وعمل النظام على إعادة كل قيادات الحركة الناشطين في أوروبا، وفي الخارج عموما إلى البلاد. وكان عبد الفتاح مورو في سويسرا واستشارني قبل أن يعود. ومن جهتي، اتصلت بالشيخ راشد (الغنوشي) الذي شجعني حقا على العودة، بل رأيت أنه يشجع الجميع على العودة للتجمع في الداخل، لكنني عندما تشاورت مع جهات خارجية نبهتني إلى أن ما يحصل قد يكون فخّا ينصبه النظام.
أردت كذلك أن أتشاور مع الحكومة الإسبانية. وقابلتني إحدى المسؤولات وسألتني إذا كان وراء قرار عودتي أي تقصير منهم، أو هناك أسباب مادية أو أي نوع من الانزعاج؟ فأجبتها بأن كل الأمور على ما يُرام لكنني أرغب في العودة إلى بلادي لأنه مكاني الطبيعي مهما كلفني الأمر.
عندها سألتني: هل تثقون في الجنرال (بن علي)؟ فأجبت: بصراحة، لا، ونحتاج على الأقل إلى سنة لنرى نياته. فردت بجدية «بصراحة أنا لو كنت مكانك لما غامرت.. لكننا لا نستطيع إجبارك على البقاء هنا. ملف لجوئك السياسي (إلى إسبانيا) سيبقى مفتوحا، عند كل معبر إسباني، برا وبحرا وجوا، وإذا وجدت أي مضايقات في بلادك وقررت العودة».
هذه المسؤولة كانت حينذاك مُكلّفة الملف السياسي للاجئين في إسبانيا، وأعتقد أنها كانت المسؤولة عن العالم العربي في وزارة الخارجية.
أيضا جاءني في الفترة نفسها عرض بالذهاب إلى تركيا، لكن تشجيع الشيخ راشد لي بالرجوع، وأملنا في بداية العمل والبناء حالا دون قبولي العرض، مع أنه لم يغِب عنا الاحتراز.
وعلى الرغم من نصائح الكثير من الأصدقاء بضرورة بقاء أحد القيادات في الخارج لضمان تواصل العمل في الداخل والخارج، لكنني بعد استخارة واستشارة، قررت أن أخوض المغامرة وأن أعود إلى بلادي رغم حكم الإعدام المسلط علي، لأني أعد الوطن هو موقع النضال الأصلي وأن اللجوء والهجرة استثناء.
اتصل بي الوزير الأول (رئيس الحكومة) الهادي البكوش وقتها، بعدها بيوم وكأنه على عجلة من أمره مستفسرا عن ردي النهائي، فقلت له بأنني قررت العودة لكني أريد جواز سفر لزوجتي وبناتي في الداخل ليتمكن من الالتحاق بي في العطلة الصيفية، ثم سأعود بعدها.
سألني البكوش: هل هذا امتحان؟، أجبته: افهم الأمر كما شئت فإعادة الثقة تحتاج إلى وقت ودليل.
وفعلا تسلمت أنا من السفارة التونسية في مدريد جواز سفري، وعائلتي تسلمت جوازاتها في تونس خلال 24 ساعة وهو وقت قياسي لم نتعوده في مثل هذه المعاملات.
وكما كان مبرمجا عدت وعائلتي إلى تونس أواخر صيف 1988.
في مطار تونس قرطاج مرت الأمور بشكل عادي، وقد توقعت أن تحجز سلطات المطار جوازي لكنهم لم يفعلوا.. وكان عدد كبير من أبناء الحركة ومن عائلتي في انتظاري، وكذلك وجوه مريبة من البوليس السياسي خلتها انقرضت!
غادرت المطار في اتجاه المرسى (الضاحية الشمالية للعاصمة)، حيث يسكن أخي صلاح، لأخذ قسط من الراحة في انتظار الالتحاق بسوسة مقر إقامتي.
في طريق العودة من المطار نبهني أخي بأن سيارة {غريبة} تتبعنا منذ مغادرتنا المطار، التفت فإذا بذكريات الماضي البعيد والقريب تعاودني.. إنها المتابعة البوليسية التي كانت تضيق علي أنفاس حريتي..وفي لحظة كانت بين التأمل والندم.. استفقت على حقيقة ثابتة أن لا أمل في انقلابي (بن علي).. ثم رنت في أذني كلمات المسؤولة الإسبانية وهي تقنعني بالبقاء عندهم، ربما لخوف علي أكثر من نفسي، أو لخبرة طويلة مع الديكتاتورية والفاشية الإسبانية قبل انتصار الديمقراطية.
ومع وصولي لمنزل أخي، احتلت السيارة التي كانت تلاحقنا موقعا ملاصقا للبيت للمراقبة، توجهت نحوهم وسألتهم: تفضلوا لماذا تتبعونني؟ أجابوا: من أجل حمايتك سي حمادي. قلت لهم: ممن، من نفسي أم منكم؟ صمتوا ثم نطق زعيمهم: إنها تعليمات.
بعد ساعات عدت إلى بيتي في سوسة، ومعي تلك السيارة التي تتبعني، هي نفس السيارة التي لم تغادرني ليل نهار إلى أن زج بي بن علي في الركن الأخير من الفخ.. إلى السجن في رحلة دامت 16 سنة.
الهدنة بين بن علي وقيادة الاتجاه الإسلامي ما بين 1987 و1989
> كشفت تصريحات الهادي البكّوش، الصديق القديم لزين العابدين بن علي ورئيس أول حكومة بعد الإطاحة بالرئيس الحبيب بورقيبة يوم 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، أن بن علي كان يعتزم تنفيذ {خطة الإطاحة ببورقيبة} فجر يوم الأحد 8 نوفمبر، لكنه استبقها بيوم واحد بعدما اكتشف أن عسكريين وأمنيين من {الجناح السري} لقيادة {حركة الاتجاه الإسلامي} كانوا يُعدّون لانقلاب ضد بورقيبة في اليوم نفسه. وأن مخطّطهم كان يتضمن محاكمة بورقيبة وغالبية كبار المسؤولين في الحكومة، وبينهم بن علي، ثم إعدامهم بعد الإفراج عن آلاف السجناء المعارضين، وغالبيتهم من الإسلاميين، ثم إصدار عفو عام يعود بموجبه رفاقهم من المنافي.
هذه الرواية، أكدتها تصريحات رشيد صفر، رئيس الحكومة عامي 1986 و1987 وعدد آخر من وزراء بورقيبة. كذلك دعمتها تصريحات قياديين بارزين من التيار الإسلامي بينهم الدكتور المنصف بن سالم، وزير التعليم العالي في حكومة حزب النهضة ما بين ديسمبر (كانون الأول) 2011 ويناير (كانون الثاني) 2014. وكان بن سالم من أبرز القياديين الذين اعتقلهم بن علي بعد الإطاحة ببورقيبة ضمن ما سمي بـ{المجموعة الأمنية} التي كلّفت بالانقلاب على بورقيبة، في خطوة فسّرتها عناصر هذه المجموعة (أو {الجناح العسكري}) بالرد على {القمع الشرس} الذي تعرّض له آلاف من نشطاء حزب حركة الاتجاه الإسلامي المحظور، وعلى الأحكام القاسية التي صدرت ضدهم وبينها أحكام بالإعدام والسجن المؤبد.
وتكشف وثائق استنطاق قيادة {المجموعة الأمنية} أن مخططها كان بالتنسيق مع القيادة السياسية المعتقلة بزعامة راشد الغنوشي، ورئاسة الحركة التي فرّت إلى أوروبا بقيادة صالح كركر. وكان من بين فصول هذه المحاولة الانقلابية تنظيم {مظاهرات شعبية شاملة} للترحيب بنجاح {الثورة على بورقيبة}، مع التعهد بتنظيم انتخابات ديمقراطية، وتشكيل {قيادة جديدة لإنقاذ البلاد} يرأسها رئيس جمهورية مدني هو الوزير السابق أحمد المستيري، زعيم المعارضة العلمانية.
بيد أن نجاح خطة بن علي قبل يوم واحد من موعد تحرك {المجموعة الأمنية} الإسلامية دفع قيادات الحركة في المَهجر إلى إصدار قرار بوقف تنفيذها ودعم النظام الجديد. وعلى الرغم من مواصلة بن علي توقيف عدد من الإسلاميين الفارين، فإنه أصدر يوم إطاحته ببورقيبة قرارا بإلغاء جلسة محكمة أمن الدولة، التي كانت قررها بورقيبة ليوم 9 نوفمبر 1987 بهدف تشديد الأحكام ضد الغنوشي ورفاقه في اتجاه الإعدام.
كان بن علي والمقرّبون منه، وبينهم رفيقه العسكري رئيس مؤسسة الحرس الوطني الجنرال الحبيب عمّار، قد فسّروا توقيت الإطاحة ببورقيبة - الذي أنهكه المرض والشيخوخة - ببروز خلاف بينه وبين رئيس حكومته ووزير داخليته القوي بن علي بسبب إصرار بورقيبة على إعدام قياديين بارزين من {الاتجاه الإسلامي}، بينهم الغنوشي وعلي العريّض (الذي ترأس الحكومة في بعد الجبالي) ومسؤولو {أعمال العنف} ضد مؤسسات الدولة والحزب الحاكم.
لكن بن علي الذي وظّف على امتداد سنوات الصراع الدائر بين بورقيبة وقيادات الإسلاميين للارتقاء في المسؤوليات - من مجرّد مدير عام للأمن إلى وزير قوي للداخلية ثم رئيس للحكومة - ما كان يريد أن يفقد القدرة على التحكم بذلك الصراع عبر تنفيذ أحكام الإعدام التي كان يمكن أن تتسبّب في انفلات الأمور من يديه، وهو يخوض معارك أخرى مع بعض {الصقور في الدولة} من أجل وراثة بورقيبة في قصر قرطاج الرئاسي.
في تلك الحقبة استفحلت الصراعات على خلافة بورقيبة بين جناح يتحلّق حول بن علي، وأجنحة أخرى في القصر بزعامة ساسة من مدينة المنستير السياحية الساحلية - مسقط رأس بورقيبة - مثل ابنة أخت الرئيس سعيدة ساسي والوزراء محمد الصيّاح ومنصور السخيري والهادي مبروك.
وبمجرد استقرار الأوضاع لمصلحة بن علي دخل في مفاوضات مع الغنوشي في سجنه ثم أفرج عنه، وتابع معه مفاوضات غير مباشرة أسفرت عن خطة لإعادة القيادات الموجودة في المنفى بزعامة مورو والجبالي ومحمد الهاشمي الحامدي، ومن ثم الإفراج عبر مراحل عن آلاف السجناء، وبينهم قادة {المجموعة الأمنية} من مدنيين وعسكريين. كذلك بادر إلى إشراكهم في المحادثات السياسية الرسمية وشبه الرسمية، واستقبل الغنوشي في قصر قرطاج في نوفمبر 1988 بمناسبة الذكرى الأولى لتسلّمه الحكم.
أيضا شاركت الحركة في التوقيع على الميثاق الوطني بزعامة القيادي البارز فيها المحامي نور الدين البحيري (وزير العدل في حكومة ما بعد الثور). كما مُكِّنت من تقديم مطلب حزب قانوني جديد بعد تغيير اسمها إلى {حركة النهضة} في فبراير (شباط) 1989. ثم من المشاركة في ظروف عادية - عبر {قوائم مستقلة} في الانتخابات البرلمانية العامة التي نظمت في الثاني من أبريل (نيسان) 1989 بالتزامن مع انتخابات رئاسية.

الجبالي في مذكراته لـ «الشرق الأوسط»: كنت شاباً مسيساً بدون توجه إسلامي

 

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (2): لولا نكسة 1967 ربما كنت ثائرا غير إسلامي

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (3): كنت أميل عاطفيا إلى اليسار الفرنسي

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (4): بن علي كان يدعي أنه من أنقذنا من الإعدام



خطوات يمنية لمحاسبة مسؤولين متهمين بالفساد

الحكومة اليمنية تراهن على قطاعي النفط والاتصالات لتحسين الإيرادات (إعلام محلي)
الحكومة اليمنية تراهن على قطاعي النفط والاتصالات لتحسين الإيرادات (إعلام محلي)
TT

خطوات يمنية لمحاسبة مسؤولين متهمين بالفساد

الحكومة اليمنية تراهن على قطاعي النفط والاتصالات لتحسين الإيرادات (إعلام محلي)
الحكومة اليمنية تراهن على قطاعي النفط والاتصالات لتحسين الإيرادات (إعلام محلي)

في خطوة إضافية نحو مكافحة الفساد ومنع التجاوزات المالية، أحال رئيس الوزراء اليمني، الدكتور أحمد عوض بن مبارك، رئيس إحدى المؤسسات النفطية إلى النيابة للتحقيق معه، بعد أيام من إحالة مسؤولين في مصافي عدن إلى المحاكمة بتهمة الفساد.

تأتي الخطوة متزامنة مع توجيه وزارة المالية خطاباً إلى جميع الجهات الحكومية على المستوى المركزي والسلطات المحلية، أبلغتها فيه بالامتناع عن إجراء أي عقود للشراء أو التزامات مالية جديدة إلا بعد الحصول على موافقة مسبقة من الوزارة.

الخزينة اليمنية خسرت نحو 3 مليارات دولار نتيجة توقف تصدير النفط (إعلام محلي)

وقال بن مبارك في حسابه على «إكس» إنه أحال ملفاً جديداً في قضايا الفساد إلى النائب العام، ضمن إجراءات مستمرة، انطلاقاً من التزام الحكومة المطلق بنهج مكافحة الفساد وإعلاء الشفافية والمساءلة بوصفه موقفاً وليس مجرد شعار.

وأكد أن الحكومة والأجهزة القضائية والرقابية ماضون في هذا الاتجاه دون تهاون، مشدداً على أنه لا حماية لمن يثبت تورطه في نهب المال العام أو الفساد المالي والإداري، مهما كان موقعه الوظيفي.

في السياق نفسه، أوضح مصدر حكومي مسؤول أن مخالفات جديدة في قضايا فساد وجرائم تمس المال العام تمت إحالتها إلى النائب العام للتحقيق واتخاذ ما يلزم، من خلال خطاب وجّه إلى النيابة العامة، يتضمن المخالفات التي ارتكبها المدير التنفيذي لشركة الاستثمارات النفطية، وعدم التزامه بالحفاظ على الممتلكات العامة والتصرف بشكل فردي في مباحثات تتعلق بنقل وتشغيل أحد القطاعات النفطية.

وتضمن الخطاب -وفق المصدر- ملفاً متكاملاً بالمخالفات التي ارتكبها المسؤول النفطي، وهي الوقائع التي على ضوئها تمت إحالته للتحقيق. لكنه لم يذكر تفاصيل هذه المخالفات كما كانت عليه الحال في إحالة مسؤولين في مصافي عدن إلى المحاكمة بتهمة التسبب في إهدار 180 مليون دولار.

وجدّد المصدر التزام الحكومة المُطلق بالمحافظة على المال العام، ومحاربة جميع أنواع الفساد، باعتبار ذلك أولوية قصوى. وأشار إلى أن القضاء هو الحكم والفيصل في هذه القضايا، حتى لا يظن أحد أنه بمنأى عن المساءلة والمحاسبة، أو أنه فوق القانون.

تدابير مالية

في سياق متصل بمكافحة الفساد والتجاوزات والحد من الإنفاق، عمّمت وزارة المالية اليمنية على جميع الجهات الحكومية عدم الدخول في أي التزامات مالية جديدة إلا بعد موافقتها على المستويات المحلية والمركزية.

تعميم وزارة المالية اليمنية بشأن ترشيد الإنفاق (إعلام حكومي)

وذكر التعميم أنه، وارتباطاً بخصوصية الوضع الاقتصادي الراهن، واستناداً إلى قرار مجلس القيادة الرئاسي رقم 30 لعام 2022، بشأن وضع المعالجات لمواجهة التطورات في الوضع الاقتصادي والمالي والنقدي، وفي إطار دور وزارة المالية بالموازنة بين النفقات والإيرادات، فإنها تهيب بجميع الجهات المشمولة بالموازنة العامة للدولة والموازنات الملحقة والمستقلة الالتزام بالإجراءات القانونية وعدم الدخول في أي التزامات جديدة أو البدء في إجراءات عملية الشراء إلا بعد أخذ الموافقة المسبقة منها.

وأكد التعميم أن أي جهة تُخالف هذا الإجراء ستكون غير مسؤولة عن الالتزامات المالية المترتبة على ذلك. وقال: «في حال وجود توجيهات عليا بشأن أي التزامات مالية فإنه يجري عرضها على وزارة المالية قبل البدء في إجراءات الشراء أو التعاقد».

دعم صيني للإصلاحات

وناقش نائب محافظ البنك المركزي اليمني، محمد باناجة، مع القائم بالأعمال في سفارة الصين لدى اليمن، تشاو تشنغ، مستجدات الأوضاع المتعلقة بتفاقم الأزمات المالية التي يشهدها اليمن، والتقلبات الحادة في أسعار الصرف التي تُعد نتيجة حتمية للوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد، والذي أثر بشكل مباشر على القطاع المصرفي والمالي.

وأعاد المسؤول اليمني أسباب هذا التدهور إلى اعتداء «ميليشيات الحوثي» على منشآت تصدير النفط، ما أدى إلى توقف التصدير، الذي يُعد أهم مصدر لتمويل خزينة الدولة بالنقد الأجنبي، والذي تسبب في مضاعفة العجز في الموازنة العامة وميزان المدفوعات.

نائب محافظ البنك المركزي اليمني خلال لقائه القائم بالأعمال الصيني (إعلام حكومي)

وخلال اللقاء الذي جرى بمقر البنك المركزي في عدن، أكد نائب المحافظ أن إدارة البنك تعمل جاهدة على تجاوز هذه التحديات، من خلال استخدام أدوات السياسة النقدية المُتاحة. وأشار إلى استجابة البنك بالكامل لكل البنود المتفق عليها مع المبعوث الأممي، بما في ذلك إلغاء جميع الإجراءات المتعلقة بسحب «نظام السويفت» عن البنوك التي لم تنقل مراكز عملياتها إلى عدن.

وأعاد المسؤول اليمني التذكير بأن الحوثيين لم يتخذوا أي خطوات ملموسة، ولم يصدروا بياناً يعبرون فيه عن حسن نياتهم، في حين أكد القائم بأعمال السفارة الصينية دعم الحكومة الصينية للحكومة اليمنية في كل المجالات، ومنها القطاع المصرفي، للإسهام في تنفيذ الإصلاحات.