مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (5): غادرت تونس عبر البحر ولقيت ترحيبا من الحكومة الإسبانية

بعد صدور الحكم بإعدامي

الجبالي وعائلته بعد عودته إلى تونس نهاية عام 1988
الجبالي وعائلته بعد عودته إلى تونس نهاية عام 1988
TT

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (5): غادرت تونس عبر البحر ولقيت ترحيبا من الحكومة الإسبانية

الجبالي وعائلته بعد عودته إلى تونس نهاية عام 1988
الجبالي وعائلته بعد عودته إلى تونس نهاية عام 1988

في هذه الحلقة يعرض رئيس الوزراء التونسي الأسبق حمادي الجبالي الفترة التي اضطر فيها للفرار من تونس تحت ضغط ملاحقة الأجهزة الأمنية. ويقول في هذا السياق {بالنسبة لي كانت هناك مقاربة سياسية ومقاربة أمنية، وهنا أعني أنني عندما غادرت من تونس كنت محكوما بالإعدام، فذهبت إلى إسبانيا حيث طلبت اللجوء. لقد قرّرت الخروج بعدما عرفت أن قوات زين العابدين بن علي الأمنية اقتربت من المكان الذي كنت أختبئ فيه، إذ اعتمدت يومذاك وزارة الداخلية سياسة التضييق ومسح المناطق بشكل تدريجي، وأخذوا يقتربون من الضاحية الشمالية من العاصمة حيث كنت أقيم في منطقة سكرة، وتحديدا في سيدي فرج».
فررت من مكان إقامتي متنكّرا، بهوية أخرى. يومذاك كان سهلا تغيير الجوازات إذ كان لا يحتاج إلا لإبدال الصورة الشخصية بأخرى. بن علي اكتشف الأمر وبحث مع الرئيس الحبيب بورقيبة فيه، ومنذ ذلك الوقت تقرّر الاستعاضة عن الجوازات العادية في تونس بالجوازات الإلكترونية. ويهمّني الإشارة هنا إلى أننا في تلك الفترة لم نكن نتعامل مع أطراف خارجية في هذا الموضوع.
الجهات الأمنية وقتها كانت تتوقع أن نهرب عبر مطار قرطاج الدولي، لكننا خرجنا عن طريق البحر في باخرة {الحبيب}، وسبقني صالح كركر بـ21 ساعة، ثم التحقت به إلى إسبانيا.
ذهبت أولا إلى مدينة مرسيليا الفرنسية، وكان كل همي الخروج من المياه الإقليمية التونسية لأنني كنت أعلم أنه سيكون من الصعوبة بمكان لفرنسا أن تعيدني، فأنا كنت معروفا لدى السلطات الفرنسية، وبالتالي كنت واثقا من أنها لن ترحلني. ثم إننا لم نكن مصنفين لديهم كـ«إرهابيين} بل كنا مجرّد حركة سياسية وكانت لنا لقاءات مع السفراء والإعلام، وسبق أن كانت لي شخصيا لقاءات مع صحف مثل {ليبراسيون} و{لو فيغارو}. وعند وصولي إلى إسبانيا وجدت ترحيبا كبيرا وتقبّلا.. بل ومساعدة لم أكن أتوقعها.
ولدى سؤال الجبالي عن سبب اختياره إسبانيا، بالذات، ملجأ له وليس فرنسا أو بلجيكا أو إيطاليا، أجاب بأنه كان هناك في ذلك الوقت {ما يكفي من الشباب الناشطين في تلك الدول}. وأضاف أن نيته أساسا لم تكن الهروب، بل خدمة الحركة سياسيا وفتح آفاق جديدة لها في إسبانيا.
أمن بن علي مارس أساليب الضغط على عائلتي
وتابع الجبالي قائلا {عندما كنت في حالة التحضير للفرار من تونس إلى إسبانيا عشت مع عائلتي مرحلة في غاية الصعوبة. لقد اقتحموا بيت والدتي، وكانت زوجتي وحيدة في حينه وحاملا في الشهر الثامن. حصل ذلك في شهر سبتمبر (أيلول) 1987، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1987 ولدت ابنتي سندس».
وعندما صدر علي الحكم بالإعدام كنت أسكن مع زوجتي في فيلا بجانب مدرسة الشرطة بمنطقة صالامبو في ضواحي العاصمة، وكان بيتنا قريبا من بيت وزير الدفاع.
يومذاك جاءت صديقة لزوجتي لمساعدتها، خصوصا أنها حامل، وكان معها زوجها، وكنا ننزل إلى الشاطئ للنزهة ونجلس في المقاهي مع أن حملة التفتيش علي كانت في أوجها.
كنت وقتها أتنقل بين مكانين. فيلا في منطقة سكرة وأخرى في منطقة صالامبو، وعلمت أن زوجتي عندما علمت بصدور حكم الإعدام علي أغمي عليها ولم أكن وقتها معها، لكنني عندما عزمت على التوجه إلى إسبانيا تحدثت إليها وطلبت منها أن تعود إلى مدينتنا سوسة. والحقيقة أن الجهات الأمنية لم تعلم بعودة وحيدة إلى سوسة إلا بعد الانقلاب (وصول بن علي إلى الحكم)، وكانت وقتها على وشك أن تضع ابنتنا الصغرى في مصحة الزياتين بسوسة. ولقد حاول أعوان الأمن اقتحام غرفتها لأخذ أقوالها، لكن الطبيب استنكر ذلك بشدة، ورفض دخولهم وكان صديقا شخصيا لحامد القروي (رئيس الوزراء آنذاك) فاتصل به، وبالفعل تحدث معهم القروي وطلب منهم التراجع.
في الوقت نفسه قبضوا على لطفي، أخو زوجتي، وأوقف لمدة شهرين، وهو الذي لم يكن له أي علاقة بالسياسة. وحقا تأثر كثيرا وخرج بمعنويات سيئة جدا، لأن القبض عليه جرى لمساومتي شخصيا حتى أظهر، ويجري اعتقالي.
عندما علمت بالأمر اتصلت بوزارة الداخلية من إسبانيا وأعلمتهم أنه لا مبرّر لإبقاء صهري قيد الاعتقال لأنني أساسا خارج البلاد، كما أذكر أني قلت لهم {من العيب عليكم أن تمسكوا رهينة}، فأجابني الطرف المسؤول في الوزارة بأنني هارب من عدالة بلادي ومن الأفضل أن أعود وأسلم نفسي، وعندها رددت عليه بما معناه دعك من هذه اللغة، وأوضحت له أنني إنما اتصلت فقط ليكفوا عن إزعاج عائلتي ويتأكّدوا أنني خارج البلاد.
هذا التطور أدى إلى نشري مقالة في صحيفة {لو موند} الفرنسية، أثرت فيها المسألة، وبعد الكشف عن قضيته (لطفي) في فرنسا انتقلت إلى إسبانيا. وهناك رحّب الإسبان بي بحرارة سواء من طرف وزارة الخارجية أو الداخلية، واستقبلتني الكثير من المنظمات، خصوصا الدولية منها، وكان ممثلوها يؤكدون لي في مختلف المناسبات بأنني طرف مرحّب به، ويذكرون عراقة العلاقات بيننا، وفي الحقيقة عدّوني إضافة للبلاد ولست مشكلة، ورأوا أنني - على العكس - سأخدم الحياة السياسية.
هنا أشير إلى أن صورة حركة {النهضة} في إسبانيا كانت صورة حركة سياسية منظمة. وكانت إسبانيا يومذاك تلاحظ أن فرنسا هي الدولة الأوروبية التي يقصدها المعارضون دون غيرها، في حين أنها كانت راغبة في استقطاب الحركات المعارضة واحتضانها بدورها.
في إسبانيا أسكنوني في فندق، ولم يضعوا علي أي حراسة، بل منحوني حرية الحركة في انتظار حصولي على منحة مادية للعيش، وكذلك حق اللجوء السياسي.
ولم تكن الخدمات التي تقدم في إسبانيا لي فقط، بل لعدد كبير من المعارضين السياسيين، وكان الذين يتواصلون معنا من المتطوّعين، خصوصا من منظمة العفو الدولية والصليب الأحمر. وهنا أذكر منهم، على وجه الخصوص، طبيبا إسبانيا عرّفني عليه نائب رئيس تحرير {إل باييس}، وهي الصحيفة الأوسع انتشارا في إسبانيا، وعرّفني أيضا على مدير الصحيفة وعرضا علي فكرة كتابة عمود في الصحيفة. وفعلا بدأت كتابة مقالات، وكان يُنظر إلي على أنني مناضل. ولكن في أحد الأيام جاءني مدير التحرير غاضبا ومستاءً من عبارة وردت في إحدى خطب آية الله الخميني وقتها، ووردت فيها أن الأندلس {أرض عربية} يجب استرجاعها. وكان رد الفعل في إسبانيا سيئا. لقد جاء ليعرف رأيي في الموضوع وأنا أعربت له عن استيائي، لكنني كنت أعلم أنه ربما كان يرى من الأفضل لو أنني كتبت استنكاري لكلام الخميني. والواقع أن الإسبان كانوا متفهّمين أن {النهضة} التونسية مختلفة عن الحركات الإسلامية الأخرى في بقية العالم العربي والإسلامي، وأن قضيتنا الأساسية هي قضية حريّات.
انتقلت بعد ذلك إلى جنوب إسبانيا للإقامة في مدينة بلنسية (فالنسيا). وقتها اتصل بي الأستاذ حسن الغضبان الذي كان قريبا من الحركة في السبعينات، وأخبرني أن الوزير الأول الهادي البكوش يريد التحدث إلى عبر الهاتف، وفعلا اتصل بي بعدها بوم وعرض علي العودة إلى تونس وطي صفحة الماضي.. فقلت له أنت تعلم أني محكوم بالإعدام والوضع لم يتغير، فليس هناك إلا الكلام والوعود، فما هي الضمانات لي ولغيري؟ قال إنهم مستعدون أن يعطوني كل الضمانات.
قرار العودة إلى تونس
يومذاك أفرج عن الغنوشي وعمل النظام على إعادة كل قيادات الحركة الناشطين في أوروبا، وفي الخارج عموما إلى البلاد. وكان عبد الفتاح مورو في سويسرا واستشارني قبل أن يعود. ومن جهتي، اتصلت بالشيخ راشد (الغنوشي) الذي شجعني حقا على العودة، بل رأيت أنه يشجع الجميع على العودة للتجمع في الداخل، لكنني عندما تشاورت مع جهات خارجية نبهتني إلى أن ما يحصل قد يكون فخّا ينصبه النظام.
أردت كذلك أن أتشاور مع الحكومة الإسبانية. وقابلتني إحدى المسؤولات وسألتني إذا كان وراء قرار عودتي أي تقصير منهم، أو هناك أسباب مادية أو أي نوع من الانزعاج؟ فأجبتها بأن كل الأمور على ما يُرام لكنني أرغب في العودة إلى بلادي لأنه مكاني الطبيعي مهما كلفني الأمر.
عندها سألتني: هل تثقون في الجنرال (بن علي)؟ فأجبت: بصراحة، لا، ونحتاج على الأقل إلى سنة لنرى نياته. فردت بجدية «بصراحة أنا لو كنت مكانك لما غامرت.. لكننا لا نستطيع إجبارك على البقاء هنا. ملف لجوئك السياسي (إلى إسبانيا) سيبقى مفتوحا، عند كل معبر إسباني، برا وبحرا وجوا، وإذا وجدت أي مضايقات في بلادك وقررت العودة».
هذه المسؤولة كانت حينذاك مُكلّفة الملف السياسي للاجئين في إسبانيا، وأعتقد أنها كانت المسؤولة عن العالم العربي في وزارة الخارجية.
أيضا جاءني في الفترة نفسها عرض بالذهاب إلى تركيا، لكن تشجيع الشيخ راشد لي بالرجوع، وأملنا في بداية العمل والبناء حالا دون قبولي العرض، مع أنه لم يغِب عنا الاحتراز.
وعلى الرغم من نصائح الكثير من الأصدقاء بضرورة بقاء أحد القيادات في الخارج لضمان تواصل العمل في الداخل والخارج، لكنني بعد استخارة واستشارة، قررت أن أخوض المغامرة وأن أعود إلى بلادي رغم حكم الإعدام المسلط علي، لأني أعد الوطن هو موقع النضال الأصلي وأن اللجوء والهجرة استثناء.
اتصل بي الوزير الأول (رئيس الحكومة) الهادي البكوش وقتها، بعدها بيوم وكأنه على عجلة من أمره مستفسرا عن ردي النهائي، فقلت له بأنني قررت العودة لكني أريد جواز سفر لزوجتي وبناتي في الداخل ليتمكن من الالتحاق بي في العطلة الصيفية، ثم سأعود بعدها.
سألني البكوش: هل هذا امتحان؟، أجبته: افهم الأمر كما شئت فإعادة الثقة تحتاج إلى وقت ودليل.
وفعلا تسلمت أنا من السفارة التونسية في مدريد جواز سفري، وعائلتي تسلمت جوازاتها في تونس خلال 24 ساعة وهو وقت قياسي لم نتعوده في مثل هذه المعاملات.
وكما كان مبرمجا عدت وعائلتي إلى تونس أواخر صيف 1988.
في مطار تونس قرطاج مرت الأمور بشكل عادي، وقد توقعت أن تحجز سلطات المطار جوازي لكنهم لم يفعلوا.. وكان عدد كبير من أبناء الحركة ومن عائلتي في انتظاري، وكذلك وجوه مريبة من البوليس السياسي خلتها انقرضت!
غادرت المطار في اتجاه المرسى (الضاحية الشمالية للعاصمة)، حيث يسكن أخي صلاح، لأخذ قسط من الراحة في انتظار الالتحاق بسوسة مقر إقامتي.
في طريق العودة من المطار نبهني أخي بأن سيارة {غريبة} تتبعنا منذ مغادرتنا المطار، التفت فإذا بذكريات الماضي البعيد والقريب تعاودني.. إنها المتابعة البوليسية التي كانت تضيق علي أنفاس حريتي..وفي لحظة كانت بين التأمل والندم.. استفقت على حقيقة ثابتة أن لا أمل في انقلابي (بن علي).. ثم رنت في أذني كلمات المسؤولة الإسبانية وهي تقنعني بالبقاء عندهم، ربما لخوف علي أكثر من نفسي، أو لخبرة طويلة مع الديكتاتورية والفاشية الإسبانية قبل انتصار الديمقراطية.
ومع وصولي لمنزل أخي، احتلت السيارة التي كانت تلاحقنا موقعا ملاصقا للبيت للمراقبة، توجهت نحوهم وسألتهم: تفضلوا لماذا تتبعونني؟ أجابوا: من أجل حمايتك سي حمادي. قلت لهم: ممن، من نفسي أم منكم؟ صمتوا ثم نطق زعيمهم: إنها تعليمات.
بعد ساعات عدت إلى بيتي في سوسة، ومعي تلك السيارة التي تتبعني، هي نفس السيارة التي لم تغادرني ليل نهار إلى أن زج بي بن علي في الركن الأخير من الفخ.. إلى السجن في رحلة دامت 16 سنة.
الهدنة بين بن علي وقيادة الاتجاه الإسلامي ما بين 1987 و1989
> كشفت تصريحات الهادي البكّوش، الصديق القديم لزين العابدين بن علي ورئيس أول حكومة بعد الإطاحة بالرئيس الحبيب بورقيبة يوم 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1987، أن بن علي كان يعتزم تنفيذ {خطة الإطاحة ببورقيبة} فجر يوم الأحد 8 نوفمبر، لكنه استبقها بيوم واحد بعدما اكتشف أن عسكريين وأمنيين من {الجناح السري} لقيادة {حركة الاتجاه الإسلامي} كانوا يُعدّون لانقلاب ضد بورقيبة في اليوم نفسه. وأن مخطّطهم كان يتضمن محاكمة بورقيبة وغالبية كبار المسؤولين في الحكومة، وبينهم بن علي، ثم إعدامهم بعد الإفراج عن آلاف السجناء المعارضين، وغالبيتهم من الإسلاميين، ثم إصدار عفو عام يعود بموجبه رفاقهم من المنافي.
هذه الرواية، أكدتها تصريحات رشيد صفر، رئيس الحكومة عامي 1986 و1987 وعدد آخر من وزراء بورقيبة. كذلك دعمتها تصريحات قياديين بارزين من التيار الإسلامي بينهم الدكتور المنصف بن سالم، وزير التعليم العالي في حكومة حزب النهضة ما بين ديسمبر (كانون الأول) 2011 ويناير (كانون الثاني) 2014. وكان بن سالم من أبرز القياديين الذين اعتقلهم بن علي بعد الإطاحة ببورقيبة ضمن ما سمي بـ{المجموعة الأمنية} التي كلّفت بالانقلاب على بورقيبة، في خطوة فسّرتها عناصر هذه المجموعة (أو {الجناح العسكري}) بالرد على {القمع الشرس} الذي تعرّض له آلاف من نشطاء حزب حركة الاتجاه الإسلامي المحظور، وعلى الأحكام القاسية التي صدرت ضدهم وبينها أحكام بالإعدام والسجن المؤبد.
وتكشف وثائق استنطاق قيادة {المجموعة الأمنية} أن مخططها كان بالتنسيق مع القيادة السياسية المعتقلة بزعامة راشد الغنوشي، ورئاسة الحركة التي فرّت إلى أوروبا بقيادة صالح كركر. وكان من بين فصول هذه المحاولة الانقلابية تنظيم {مظاهرات شعبية شاملة} للترحيب بنجاح {الثورة على بورقيبة}، مع التعهد بتنظيم انتخابات ديمقراطية، وتشكيل {قيادة جديدة لإنقاذ البلاد} يرأسها رئيس جمهورية مدني هو الوزير السابق أحمد المستيري، زعيم المعارضة العلمانية.
بيد أن نجاح خطة بن علي قبل يوم واحد من موعد تحرك {المجموعة الأمنية} الإسلامية دفع قيادات الحركة في المَهجر إلى إصدار قرار بوقف تنفيذها ودعم النظام الجديد. وعلى الرغم من مواصلة بن علي توقيف عدد من الإسلاميين الفارين، فإنه أصدر يوم إطاحته ببورقيبة قرارا بإلغاء جلسة محكمة أمن الدولة، التي كانت قررها بورقيبة ليوم 9 نوفمبر 1987 بهدف تشديد الأحكام ضد الغنوشي ورفاقه في اتجاه الإعدام.
كان بن علي والمقرّبون منه، وبينهم رفيقه العسكري رئيس مؤسسة الحرس الوطني الجنرال الحبيب عمّار، قد فسّروا توقيت الإطاحة ببورقيبة - الذي أنهكه المرض والشيخوخة - ببروز خلاف بينه وبين رئيس حكومته ووزير داخليته القوي بن علي بسبب إصرار بورقيبة على إعدام قياديين بارزين من {الاتجاه الإسلامي}، بينهم الغنوشي وعلي العريّض (الذي ترأس الحكومة في بعد الجبالي) ومسؤولو {أعمال العنف} ضد مؤسسات الدولة والحزب الحاكم.
لكن بن علي الذي وظّف على امتداد سنوات الصراع الدائر بين بورقيبة وقيادات الإسلاميين للارتقاء في المسؤوليات - من مجرّد مدير عام للأمن إلى وزير قوي للداخلية ثم رئيس للحكومة - ما كان يريد أن يفقد القدرة على التحكم بذلك الصراع عبر تنفيذ أحكام الإعدام التي كان يمكن أن تتسبّب في انفلات الأمور من يديه، وهو يخوض معارك أخرى مع بعض {الصقور في الدولة} من أجل وراثة بورقيبة في قصر قرطاج الرئاسي.
في تلك الحقبة استفحلت الصراعات على خلافة بورقيبة بين جناح يتحلّق حول بن علي، وأجنحة أخرى في القصر بزعامة ساسة من مدينة المنستير السياحية الساحلية - مسقط رأس بورقيبة - مثل ابنة أخت الرئيس سعيدة ساسي والوزراء محمد الصيّاح ومنصور السخيري والهادي مبروك.
وبمجرد استقرار الأوضاع لمصلحة بن علي دخل في مفاوضات مع الغنوشي في سجنه ثم أفرج عنه، وتابع معه مفاوضات غير مباشرة أسفرت عن خطة لإعادة القيادات الموجودة في المنفى بزعامة مورو والجبالي ومحمد الهاشمي الحامدي، ومن ثم الإفراج عبر مراحل عن آلاف السجناء، وبينهم قادة {المجموعة الأمنية} من مدنيين وعسكريين. كذلك بادر إلى إشراكهم في المحادثات السياسية الرسمية وشبه الرسمية، واستقبل الغنوشي في قصر قرطاج في نوفمبر 1988 بمناسبة الذكرى الأولى لتسلّمه الحكم.
أيضا شاركت الحركة في التوقيع على الميثاق الوطني بزعامة القيادي البارز فيها المحامي نور الدين البحيري (وزير العدل في حكومة ما بعد الثور). كما مُكِّنت من تقديم مطلب حزب قانوني جديد بعد تغيير اسمها إلى {حركة النهضة} في فبراير (شباط) 1989. ثم من المشاركة في ظروف عادية - عبر {قوائم مستقلة} في الانتخابات البرلمانية العامة التي نظمت في الثاني من أبريل (نيسان) 1989 بالتزامن مع انتخابات رئاسية.

الجبالي في مذكراته لـ «الشرق الأوسط»: كنت شاباً مسيساً بدون توجه إسلامي

 

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (2): لولا نكسة 1967 ربما كنت ثائرا غير إسلامي

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (3): كنت أميل عاطفيا إلى اليسار الفرنسي

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (4): بن علي كان يدعي أنه من أنقذنا من الإعدام



«قوة استقرار غزة»... اجتماع مرتقب بالدوحة لسد الفجوات

أحد عناصر «حماس» يحرس منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر» في غزة (أ.ف.ب)
أحد عناصر «حماس» يحرس منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر» في غزة (أ.ف.ب)
TT

«قوة استقرار غزة»... اجتماع مرتقب بالدوحة لسد الفجوات

أحد عناصر «حماس» يحرس منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر» في غزة (أ.ف.ب)
أحد عناصر «حماس» يحرس منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر» في غزة (أ.ف.ب)

تستضيف العاصمة القطرية، الدوحة، اجتماعاً عسكرياً، الثلاثاء، لبحث «تشكيل قوة الاستقرار» في قطاع غزة التي تنص عليها خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للسلام، التي دخلت حيز التنفيذ 10 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ولاقت دعماً من مجلس الأمن في نوفمبر (تشرين الثاني) الفائت.

ذلك الاجتماع المرتقب يأتي وسط ضبابية بشأن مستقبل تلك القوات وتعثر الانتقال للمرحلة الثانية، ويراه خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» محاولة لسد فجوات، منها مهام تعترض عليها فصائل فلسطينية مرتبطة بالوجود داخل القطاع أو نزع السلاح، بخلاف وجود «فيتو إسرائيلي» على مشاركة دول بينها تركيا، وسط تباين بشأن قدرة الاجتماع على تقديم حلول ناجزة، في ظل عدم اتفاق سياسي على الانتقال للمرحلة الثانية، وترقب نتائج لقاء ترمب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أواخر هذا الشهر.

وتوقع مسؤولون أميركيون نشر هذه القوات مطلع العام المقبل، بعد بحث التفاصيل خلال اجتماع للقيادة المركزية الأميركية، بمشاركة عدد من الدول، في العاصمة القطرية، الدوحة، الثلاثاء، وفق ما أوردت وكالة «رويترز».

وقال مسؤولان أميركيان للوكالة، أخيراً، إنه من المتوقع أن ترسل أكثر من 25 دولة ممثلين عنها للمشاركة في الاجتماع الذي «سيتضمن جلسات لمناقشة هيكل القيادة، وقضايا أخرى متعلقة بقوة الاستقرار في غزة»، لافتين إلى أن «قوة الاستقرار الدولية لن تقاتل حركة (حماس)، وأن دولاً كثيرة أبدت رغبتها في المساهمة فيها».

ونقل موقع «أكسيوس»، الجمعة، أن مندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مايك والتز، الذي زار إسرائيل أخيراً، أبلغ نتنياهو ومسؤولين آخرين بأن إدارة ترمب ستتولى قيادة ما تُعرف باسم «قوة الاستقرار الدولية» وستعين جنرالاً قائداً لها.

ويعطي قرار تبناه مجلس الأمن الدولي في 17 نوفمبر الماضي تفويضاً «لمجلس سلام» في غزة والدول التي تتعاون معه، من أجل تأسيس «قوة استقرار دولية» مؤقتة في القطاع.

وسبق أن تحدثت القناة الـ«14» الإسرائيلية أواخر نوفمبر الماضي، بأن الولايات المتحدة الأميركية حددت منتصف يناير (كانون الثاني) المقبل، موعداً لبدء انتشار «قوة الاستقرار الدولية» في غزة، ونهاية أبريل (نيسان) المقبل موعداً نهائياً لإتمام عملية نزع السلاح من القطاع، مشيرة إلى أن ذلك طموح منفصل عن الواقع، في إشارة لإمكانية تأجيله مجدداً.

صبيَّان يحتميان من المطر وهما جالسان على عربة يجرُّها حمار في دير البلح وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)

رئيس «المؤسسة العربية للتنمية والدراسات الاستراتيجية»، العميد سمير راغب، يرى أن اجتماع الدوحة سيركز على «سد الفجوات» مثل عدم تعيين قائد للقوة، رغم أن التسريبات تشير إلى أنه أميركي، فلا مهام محددة بشأن القوة حتى الآن، كما أنه لم يتم تشكيل «مجلس السلام» الذي صدر له التفويض الأممي بتشكيل القوة، بجانب وجود «فيتو إسرائيلي» على مشاركة تركيا، وهذا يعرقل مسار تحديد الدول، بخلاف عدم حسم قضايا سياسية مرتبطة بنزع السلاح.

وأشار إلى أن حديث انتشار القوات بداية العام يكون صحيحاً إذا كنا قد عرفنا الآن مهام وتسليح القوات، وباتت تتجمع هذه الأيام، وبالتالي نحن بصدد ترتيبات ستأخذ ربما شهرين لتحقيق انتشار لو حُسمت الملفات السياسية.

ويعتقد المحلل السياسي الفلسطيني، نزار نزال، أن اجتماع الدوحة بشأن تلك القوات يناقش سد الفجوات «لكنه يشكل إطاراً عاماً للتعايش معها، وليس لحلها»، موضحاً أن الفجوات تتعلق بكيفية الانتشار ومهام القوات، وهل ستنزع سلاح «حماس» وتبدأ الانسحابات. ونبه إلى أن هذا الاجتماع قد يحسم التشكيل والتمويل، و«لا يعني مشاركة 25 دولة فيه أن هناك موافقة على الانخراط في القوة؛ لكن ستتم مناقشة الخطوط الأولية».

منظر عام لمخيَّم للنازحين الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية بغزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش مشاركته في «منتدى صير بني ياس» بالإمارات، أكد وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، السبت: «ضرورة الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة، وأهمية تشكيل قوة الاستقرار الدولية»، وذلك خلال لقاء المدير العام لـ«أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية»، والمنسق الأممي الخاص السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف، وفق بيان لـ«الخارجية المصرية».

وهذا التأكيد ليس الأول من نوعه من جانب مصر؛ حيث أعلنته أكثر من مرة أخيراً.

وردت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، على الصحافيين أخيراً بشأن تطورات اتفاق غزة، قائلة إن «هناك كثيراً من التخطيط الهادئ الذي يجري خلف الكواليس في الوقت الحالي للمرحلة الثانية من اتفاق السلام... نريد ضمان سلام دائم ومستمر».

وأوضح راغب أن المرحلة الأولى لم تنتهِ بعد، وهناك أمور سياسية لم تُحَل، لافتاً إلى أن «قمة ترمب-نتنياهو» المقررة نهاية هذا الشهر ستكون فاصلة في المرحلة الثانية، وتشكيل القوات، ورفع «الفيتو»، وإنهاء الفجوات.

أما نزال فيرى أن المرحلة الثانية لم تنضج بعد، والهدوء الأميركي في المناقشات محاولة لتفادي الفشل من أي إعلان قد يُحدث ضجة عند أي طرف، في ظل ريبة فلسطينية مما يُعد في الكواليس، متوقعاً أن تزداد مساعي الوسطاء تجاه الانتقال للمرحلة الثانية بأقل تكلفة ومخاطرة، وهذا سيتضح عقب لقاء ترمب بنتنياهو.


حراك سياسي وعسكري مكثف لإنهاء التوترات في شرق اليمن

جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي يحرسون مدخل القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي يحرسون مدخل القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
TT

حراك سياسي وعسكري مكثف لإنهاء التوترات في شرق اليمن

جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي يحرسون مدخل القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي يحرسون مدخل القصر الرئاسي في عدن (رويترز)

يترقَّب الشارع اليمني أن تُكلَّل الجهود التي تقودها السعودية، بشراكة مع الإمارات، بنزع فتيل التوتر وإنهاء التصعيد في حضرموت والمهرة على خلفية التحركات الأحادية الميدانية التي قام بها المجلس الانتقالي الجنوبي في الأيام الماضية، التي أدت إلى إرباك معسكر الشرعية اليمنية، وسط مخاوف من أن يقود ذلك إلى تبعات اقتصادية وإنسانية وأمنية في ظل تربص الجماعة الحوثية بالمناطق المُحرَّرة.

جاء ذلك غداة حراك سياسي وعسكري مكثَّف في إطار الجهود السعودية - الإماراتية الرامية إلى احتواء التوتر في المحافظات الشرقية، وذلك مع وصول فريق عسكري مشترك إلى عدن، وعقد لقاءات رسمية مع قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي، بالتوازي مع لقاءات في حضرموت مع قيادات محلية وقبلية، في مسعى لإعادة تطبيع الأوضاع ومنع انزلاقها إلى مزيد من التصعيد.

وجاءت هذه التحركات في وقت تشهد فيه محافظتا حضرموت والمهرة توتراً متزايداً على خلفية تحركات ميدانية للمجلس الانتقالي الجنوبي، وما أعقبها من مواجهات وأحداث أمنية، دفعت «تحالف دعم الشرعية» إلى تكثيف مساعيه السياسية والعسكرية لفرض التهدئة، والحفاظ على وحدة مؤسسات الدولة في المناطق المُحرَّرة.

الزبيدي استقبل في عدن وفداً عسكرياً سعودياً إماراتياً مشتركاً (سبأ)

في هذا السياق، استقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اللواء عيدروس قاسم الزُبيدي، وهو رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، في القصر الرئاسي بعدن، قيادة القوات المشتركة لـ«تحالف دعم الشرعية»، يتقدمهم اللواء الركن سلطان العنزي، واللواء الركن عوض الأحبابي، بحضور عضو مجلس القيادة عبد الرحمن المحرمي، ورئيس هيئة التشاور والمصالحة محمد الغيثي، ورئيس اللجنة العسكرية والأمنية المشتركة العليا اللواء هيثم قاسم طاهر.

ووفق مصادر رسمية، ناقش اللقاء سبل توحيد الجهود لمواجهة التحديات التي تهدِّد أمن اليمن والمنطقة، وفي مقدمتها الإرهاب، وتهريب الأسلحة، والتهديدات التي تمس المصالح الدولية وحرية الملاحة، إلى جانب آليات تعزيز التنسيق العسكري والأمني بين القوات اليمنية والتحالف.

وأشاد الزُبيدي بالدور الذي تضطلع به دول التحالف بقيادة السعودية والإمارات، مؤكداً أهمية الشراكة القائمة في دعم القوات اليمنية، بينما أكدت قيادة القوات المشتركة دعمها المستمر للقوات المسلحة اليمنية في مواجهة الميليشيات الحوثية، ومكافحة الإرهاب، وتعزيز الاستقرار في المرحلتين الحالية والمستقبلية.

بيان رئاسي

بالتوازي مع هذه التحركات، جدَّد مصدر مسؤول في مكتب الرئاسة اليمني الإشادة بجهود السعودية لخفض التصعيد وإعادة تطبيع الأوضاع في المحافظات الشرقية، وذلك بعد وصول الفريق العسكري السعودي - الإماراتي إلى عدن.

وأوضح المصدر أن الزيارة تأتي ضمن جهود الرياض وأبوظبي لتعزيز وحدة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة، ومعالجة تداعيات الإجراءات الأحادية الأخيرة، بما يضمن عودة الأوضاع إلى مسارها الطبيعي، وتمكين السلطات المحلية والحكومة من أداء مهامها وفقاً للدستور والقانون.

وأشار البيان إلى أن المشاورات الجارية تتناول معالجة مسألة القوات المُستقدَمة من خارج المحافظات الشرقية، وسبل مغادرتها، إضافة إلى تمكين مؤسسات الدولة من ممارسة صلاحياتها الحصرية، واحترام المرجعيات الحاكمة للمرحلة الانتقالية، وفي مقدمتها إعلان نقل السلطة واتفاق الرياض.

مناصرون للمجلس الانتقالي الجنوبي خلال حشد في عدن (أ.ف.ب)

وحذَّر المصدر من أن أي تصعيد إضافي من شأنه تبديد المكاسب المُحقَّقة، وصرف الانتباه بعيداً عن المعركة ضد جماعة الحوثي، وتقويض جهود الإصلاحات الاقتصادية، ومفاقمة الأزمة الإنسانية في البلاد، مؤكداً حرص قيادة الدولة على تغليب الحلول السياسية، ودعم الجهود السعودية - الإماراتية، والعمل الوثيق مع الشركاء الإقليميين والدوليين.

آليات مرتقبة للحل

أفادت مصادر مطلعة بأن الفريق العسكري السعودي - الإماراتي يبحث وضع آليات تنفيذية لخروج القوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي من محافظتَي حضرموت والمهرة، وإعادتها إلى مواقعها السابقة، إلى جانب ترتيبات لتسليم بعض المواقع لقوات «درع الوطن»، في إطار إجراءات منسقة تهدف إلى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل التصعيد.

كما عقد الوفد السعودي، برئاسة اللواء الدكتور محمد القحطاني، لقاءً موسعاً في حضرموت مع قيادة السلطة المحلية برئاسة المحافظ سالم الخنبشي، وقيادات الكتلة البرلمانية ومجلس الشورى، ومرجعيات قبائل حضرموت، ومشايخ وأعيان الوادي والصحراء.

وأكد المحافظ الخنبشي أن زيارة الوفد السعودي تمثل دعامةً لأواصر الأخوة بين البلدين، مشيداً بمواقف المملكة الداعمة لحضرموت في هذه الظروف، بينما شدَّد رئيس الوفد السعودي على أن اللقاءات تأتي في إطار فرض التهدئة، ورفض أي تشكيلات عسكرية خارج نطاق الدولة، والحفاظ على أمن واستقرار المحافظة.

رئيس الوفد السعودي في حضرموت اللواء محمد القحطاني يلتقي قيادات قبلية ومحلية (سبأ)

وأشادت القيادات البرلمانية والقبلية بالموقف السعودي، عادّةً أن هذه التحركات تمثل تطميناً للمواطنين، وتؤكد الحرص على معالجة تداعيات دخول قوات من خارج المحافظة، والحفاظ على النسيج الاجتماعي.

في المقابل، نعت رئاسة هيئة الأركان العامة اليمنية عدداً من منتسبي المنطقة العسكرية الأولى، الذين سقطوا خلال مواجهات وصفتها بأنها اعتداءات نفَّذتها مجاميع تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، مشيرةً إلى سقوط 32 قتيلاً و45 جريحاً، إضافة إلى مفقودين، ومؤكدة التزام القوات المسلحة بواجباتها تحت قيادة الدولة ووفقاً للدستور والقانون.

وفي موقف سياسي لافت دعا أحمد علي عبد الله صالح، وهو النجل الأكبر للرئيس اليمني الأسبق، جميع الأطراف اليمنية، إلى وقف التصعيد وضبط النفس، والعودة إلى الحوار، محذِّراً من أن استمرار التوتر في المحافظات الشرقية لا يخدم استقرار البلاد، ولا جهود توحيد الصف في مواجهة الحوثيين والتنظيمات الإرهابية.


في زمن الحرب... «الدان الحضرمي» على قائمة التراث الإنساني اللامادي

الدان الحضرمي على قائمة التراث العالمي اللامادي بعد سنوات من العمل المؤسسي (إكس)
الدان الحضرمي على قائمة التراث العالمي اللامادي بعد سنوات من العمل المؤسسي (إكس)
TT

في زمن الحرب... «الدان الحضرمي» على قائمة التراث الإنساني اللامادي

الدان الحضرمي على قائمة التراث العالمي اللامادي بعد سنوات من العمل المؤسسي (إكس)
الدان الحضرمي على قائمة التراث العالمي اللامادي بعد سنوات من العمل المؤسسي (إكس)

في إنجاز ثقافي يُعد من أبرز المكاسب الرمزية لليمن في السنوات الأخيرة، أدرجت لجنة التراث الثقافي غير المادي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، في دورتها العشرين المنعقدة في العاصمة الهندية نيودلهي، ملف «جلسة الدان الحضرمي» ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية، بعد جهود استمرت سنواتٍ من العمل المؤسسي والفني المتواصل.

ويُعد هذا الإدراج اعترافاً دولياً مستحقاً بأحد أهم الفنون التقليدية في محافظة حضرموت، شرق اليمن، لما يحمله «الدان الحضرمي» من قيمة تاريخية وثقافية وجمالية، بوصفه فناً يجمع بين الشعر والموسيقى والغناء، ويعكس في طقوسه ومضامينه أنماط العيش والعلاقات الاجتماعية والذاكرة الجمعية للحضارم عبر قرون طويلة.

وثمّن مندوب اليمن الدائم لدى اليونسكو، محمد جميح، قرار اللجنة، مشيراً إلى أن «(الدان الحضرمي) يستحق عن جدارة هذا الإدراج»، مؤكداً أن الوصول إلى هذه النتيجة جاء ثمرةً لعمل دؤوب استمر لسنوات، منذ أن كانت الفكرة مشروعاً ثقافياً، وصولاً إلى اعتمادها اليوم تراثاً إنسانياً عالمياً.

محمد جميح مندوب اليمن لدى اليونسكو (سبأ)

وعبّر جميح عن شكره لوزارة الثقافة وطاقمها، واللجنة الوطنية لليونسكو، ومؤسسة حضرموت للثقافة التي تولت إعداد وتمويل ملف الترشيح، إضافة إلى لجنة التراث الثقافي غير المادي وخبراء التقييم وسكرتارية اللجنة، ورئيسها السفير الهندي لدى اليونسكو فيشال شارما.

وتسلمت الجمهورية اليمنية شهادة إدراج الملف رسمياً من المدير العام المساعد لليونسكو لقطاع الثقافة، أرنستو راميريز، في مقر انعقاد اللجنة بنيودلهي، في لحظة عكست حضور اليمن الثقافي رغم ظروف الحرب والتحديات السياسية والإنسانية.

إشادة حكومية

أكد معمر الإرياني، وزير الإعلام والثقافة والسياحة في الحكومة اليمنية، أن هذا الإنجاز يمثل «اعترافاً دولياً مستحقاً بأحد أهم التجليات الإبداعية في حضرموت واليمن عموماً»، معتبراً أن «الدان الحضرمي» يجسد عمق الهوية الثقافية اليمنية التي حافظت عليها الأجيال المتعاقبة، رغم التحولات القاسية التي شهدها البلد.

وأشار الإرياني إلى أن هذا الاعتراف العالمي يعكس تقديراً للفن الحضرمي الأصيل الذي يختزن في تفاصيله الذاكرة الجمعية وروح المكان، وهو ثمرة جهد وطني مشترك شاركت فيه وزارة الثقافة ومؤسسة حضرموت للثقافة، إلى جانب الدور البارز الذي اضطلع به السفير محمد جميح في متابعة الملف داخل أروقة اليونسكو.

ويمثل «الدان الحضرمي» أكثر من مجرد لون غنائي تقليدي؛ فهو ممارسة ثقافية متكاملة ترتبط بالمجتمع والبيئة والتاريخ، وتُؤدى في جلسات جماعية تتناوب فيها الأصوات على إلقاء الشعر وإنشاد الألحان، في تعبير حي عن التفاعل الاجتماعي والوجدان الجمعي.

وأكدت مؤسسة حضرموت للثقافة أن إدراج هذا الفن في القائمة التمثيلية لليونسكو يعكس قيمته في حفظ الذاكرة الثقافية للحضارم، ويؤكد دوره في نقل التراث الشفهي من جيل إلى آخر.

وأوضحت المؤسسة أنها عملت على إعداد ملف الترشيح بالتعاون مع مجموعات من الممارسين لهذا الفن، وبشراكة فاعلة مع وزارة الإعلام والثقافة والسياحة في الحكومة اليمنية، وبدعم فني من مكتب اليونسكو الإقليمي لدول الخليج واليمن، الذي كان له دور محوري في إبراز تميز الملف واستيفائه للمعايير الدولية.

بعد تاريخي

أشار وزير الثقافة اليمني السابق ومستشار رئيس مجلس القيادة الرئاسي للشؤون الثقافية، مروان دماج، إلى البعد التاريخي العميق لـ«الدان الحضرمي»، معتبراً أن هذا الفن العتيق الممتد من جذور التاريخ أصبح اليوم جزءاً من الذاكرة الإنسانية جمعاء.

وذهب دماج إلى أن العرب عرفوا الغناء «داناً» منذ أكثر من ألفي عام، وأن الدان يمكن اعتباره من أقدم أشكال الأغنية العربية، مستحضراً ارتباطه بالشعر العربي القديم وأسواقه التاريخية في وادي حضرموت.

وتتجاوز أهمية إدراج «الدان الحضرمي» البعد الثقافي البحت، لتأخذ دلالات وطنية وإنسانية أوسع، في ظل ما يتعرض له التراث اليمني من مخاطر الطمس والتشويه بسبب الحرب والانقسام والإهمال. ويؤكد هذا الإنجاز أن اليمن رغم الدمار والمعاناة لا يزال حاضراً في خريطة الثقافة العالمية، بقيمه الإبداعية وإسهاماته الحضارية.

كما يمثل الإدراج خطوةً مهمةً في مسار صون التراث غير المادي، ويوفر مظلة حماية دولية لهذا الفن، ويعزز فرص توثيقه ونقله للأجيال المقبلة، باعتباره جزءاً أصيلاً من الهوية اليمنية وقوة ناعمة يمكن أن تسهم في تحسين صورة اليمن وتعزيز حضوره عربياً ودولياً.

وفي المحصلة، يشكل الاعتراف الأممي بـ«جلسة الدان الحضرمي» رسالةً واضحةً بأن الثقافة قادرة على تجاوز الحروب، وأن الذاكرة الإنسانية أوسع من حدود الصراعات، لتحتفي بالفنون التي تعبر عن روح الشعوب وعمق تاريخها، كما هي حال حضرموت في شرق اليمن.