بوادر حرب عملات في الأفق بعد معركة الرسوم

ترمب يفتح النار على الصين وأوروبا... وسياسات «الفيدرالي»

بوادر حرب عملات في الأفق بعد معركة الرسوم
TT

بوادر حرب عملات في الأفق بعد معركة الرسوم

بوادر حرب عملات في الأفق بعد معركة الرسوم

وسط معركة الرسوم المشتعلة بين الولايات المتحدة من جانب، وقوى اقتصادية كبرى على رأسها الصين والاتحاد الأوروبي من الجانب الآخر، تبدو بوادر حرب عملات في الأفق، لتفتح مضمارا جديدا للمعركة الاقتصادية العنيفة التي تدور رحاها حول العالم حاليا، مستلهمة وقودها من الحمائية التي يرعاها الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
ومنذ إعلانه ترشحه للرئاسة، يوجه ترمب سهام انتقاداته نحو اقتصادات كبرى، مثل الصين وألمانيا، متهما كل منهما بتعمد إضعاف اليوان واليورو على التوالي، من أجل العمل على خلق مجال أوسع للتنافسية لصادرات الصين وأوروبا على حساب الصادرات الأميركية، خاصة في ظل قوة الدولار، وهو أمر أشار ترمب مرارا إلى أنه ليس في صالح الاقتصاد الأميركي.
وكرر ترمب انتقاداته المفتوحة يوم الجمعة الماضي، قائلا في تغريدة على حسابه بموقع «تويتر»: «تتلاعب الصين والاتحاد الأوروبي ودول أخرى بالعملة بخفض معدلات الفائدة، في حين ترفعها الولايات المتحدة مع دولار يزداد قوة يوما بعد يوم، مما يضعف قدرتنا التنافسية، كالعادة، هذا غير عادل»، متابعا: «انظروا إلى اليورو، إنه يتراجع... وعملة الصين تهبط مثل الصخرة... هذا يضعنا في وضع غير ملائم وعرضة للضرر».
وكان اليوان الصيني قد هبط نهاية الأسبوع الماضي إلى أدنى مستوياته في عام كامل، من دون مؤشرات تذكر على تدخل البنك المركزي الصيني لإيقاف هذا الهبوط؛ بل على العكس، يشير «المركزي الصيني» إلى أنه يفضل عملة أضعف، خاصة في ظل حرب الرسوم المشتعلة بين بلاده والولايات المتحدة... كما شهدت أسواق الصرف تراجعا ملحوظا أيضا للعملة الأوروبية الموحدة (اليورو) على مدار الشهور الماضية منذ مطلع العام تقريبا.
ولا يتوقف ترمب عن اتهام الدول المنافسة الكبرى بالتلاعب في عملاتها، أو الإعلان صراحة عن أنه يفضل أن تقل قوة الدولار من أجل زيادة التنافسية، لكنه كان يبدو مقيدا منذ انتخابه بتوجهات مجلس الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأميركي)، والذي يحتفظ باستقلالية تامة في قراراته.
وفي خروج غير مسبوق على «البروتوكول»، انتقد الرئيس الأميركي بشكل معلن السياسات النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، وقال في مقابلة مع محطة «سي إن بي سي» الأميركية: «لست راضيا عن السياسة النقدية التي ترفع أسعار الفائدة تدريجيا، لكن في الوقت نفسه أتركهم يفعلون ما يعتقدون أنه الأفضل».
وأضاف ترمب إنه قلق من أن زيادات أسعار الفائدة قد تضع الولايات المتحدة في موقف سيء، خصوصا أن بنك اليابان المركزي والبنك المركزي الأوروبي يواصلان سياستهما النقدية التيسيرية.
وفي المقابل، ينوي الاحتياطي الفيدرالي الذي بدأ منذ سنتين عملية خروج من سياسة الفائدة المعدومة، أن يرفع معدل الفائدة الأساسي تدريجيا مرتين هذه السنة لتبلغ 2.50 في المائة بدلا من 2 في المائة.
بلبلة في أميركا
وانتقد ترمب رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، قائلاً إنه ليس مسرورا بسياساته النقدية، وتابع: «لأننا نشهد نموا، يريدون أن يرفعوا مرة أخرى أسعار الفائدة... لست راضيا عن ذلك».
ويعمل الاحتياطي الفيدرالي بشكل مستقل تماما عن الإدارة الأميركية، وتعد هذه الانتقادات أمراً غير معتاد أو متوقعاً من قبل رئيس أميركي لمجلس الاحتياطي وسياساته النقدية.
وتسببت ملاحظات ترمب العلنية على أداء الاحتياطي الفيدرالي في بلبلة واسعة، دفعت وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين إلى توضيح أن الرئيس الأميركي «ليس لديه أي نية لممارسة الضغط على مجلس الاحتياطي الفيدرالي»، مؤكدا أن انتقاد ترمب لسياسة البنك المركزي ليست محاولة منه للتدخل في أسواق العملات بأي شكل من الأشكال، مشيراً إلى أن الرئيس أوضح له أنه يدعم ويؤيد استقلال الاحتياطي الفيدرالي.
وأضاف منوتشين أنه «على المدى البعيد، فإن الدولار القوي سيخدم مصلحة الولايات المتحدة، كما أن قوة الدولار جاءت بفضل نمو الاقتصاد الأميركي وزيادة الاستثمارات بشكل استثنائي».
وإثر تصريحات ترمب وسهامه الموجهة إلى الخارج والداخل، شهد الدولار انخفاضا منذ يوم الجمعة وحتى الأمس، حيث صعد الدولار بشكل هامشي مقابل معظم العملات الرئيسية خلال تعاملات الاثنين، مع ترقب بيانات اقتصادية، وعقب استيعاب الأسواق لتصريحات ترمب بشأن العملة ومعدلات الفائدة.
ويترقب المستثمرون الإفصاح عن بيانات اقتصادية هامة خلال الأسبوع الراهن، ومن أهمها مؤشرات النمو الاقتصادي بالولايات المتحدة خلال الربع الثاني يوم الجمعة المقبل.
الصين: لا تلاعب... بل قواعد سوق
ومساء أول من أمس، وجه الوزير منوتشين تحذيرا إلى الصين بشأن ضعف عملتها، قائلا إن وزارته تراقب عن كثب اليوان «بحثا عن أي علامات على تلاعب بالعملة». وأوضح أن «ضعف اليوان ستجري مراجعته في إطار أحدث تقرير نصف سنوي لوزارة الخزانة بشأن التلاعب بالعملة الذي سيصدر في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) على أساس النشاط في الأشهر الستة الأولى من 2018». وأضاف منوتشين في إشارة إلى الصين: «لا شك أن ضعف العملة يوجد ميزة غير عادلة لهم، سنجري مراجعة بعناية بالغة للوقوف على ما إذا كانوا قد تلاعبوا بالعملة».
من جانبها، ردت وزارة الخارجية الصينية، أمس بالتأكيد أن الصين لا تتلاعب بعملتها بهدف تعزيز القدرة التنافسية لصادرات البلاد في مواجهة السلع الأخرى. مؤكدة أن «التهديد والترهيب فيما يتعلق بالتجارة لن يُجدي مع الصين نفعا»، بعدما هدد الرئيس الأميركي بفرض رسوم علي جميع السلع المستوردة من الصين، وتبلغ قيمتها 500 مليار دولار.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية جينغ شوانغ، خلال المؤتمر الصحافي اليومي بمقر الوزارة، إن بلاده أوضحت في أكثر من مناسبة أنها لا تريد حربا تجارية، خاصة وأن هذه الحرب ليس فيها فائز، وأن موقفها ثابت حيال الدفاع عن مصالح شعبها.
وأضاف: «أن حركة سعر العملة الصينية سواء بالارتفاع أو بالانخفاض خاضعة للسوق وآلية العرض والطلب، وأن بلاده لا تتلاعب بعملتها بتخفيض قيمتها لتعزيز القدرة التنافسية لصادراتها»، مشددا على أن بلاده ليس لديها النية مطلقا للتلاعب بقيمة عملتها.
وحول ما يتردد عن مفاوضات أميركية صينية لحل النزاع التجاري بينهما، أوضح شوانغ أن المصداقية يجب أن تكون أساسا قبل الحديث عن ذلك.
تأثيرات في الأسواق
وفي سوق العملات، تمكن الدولار أمس من التعافي من الخسائر التي سجلها في الأسبوع الماضي على خلفية الهجوم الذي شنه ترمب ضد توجهات الاحتياطي الفيدرالي إضافة إلى انتقاد قوة الدولار.
وبحلول الساعة 9:12 صباحاً بتوقيت غرينتش، ارتفع المؤشر الرئيسي الذي يقيس أداء العملة الأميركية مقابل 6 عملات رئيسية، بنسبة هامشية 0.05 في المائة ليصل إلى 94.519 دولار. كما صعدت العملة الأميركية مقابل اليورو بنسبة 0.2 في المائة، ليتراجع اليورو إلى 1.1702 دولار. في حين انخفض الدولار أمام الين الياباني بنسبة 0.3 في المائة ليسجل 111.09 ين.
واستفادت العملة اليابانية من تقارير نشرتها وكالة «رويترز» ووسائل إعلامية أخرى بأن بنك اليابان يبحث بشكل فعال إجراء تغييرات في سياسته النقدية. ويبقي المركزي الياباني على معدلات الفائدة قصيرة الآجل عند مستوى «سالب 0.1 في المائة»، كما يحافظ على برنامج التيسير الكمي عند نفس الوتيرة الحالية والبالغة 80 تريليون ين سنوياً.
كيف ستتعامل الصين مع الأمر؟
رغم أن اليوان الصيني لا يتمتع فعليا بحرية حركة كافية على غرار الدولار، حيث يتحكم «المركزي الصيني» بوضع نطاق تداول يومي «استرشادي»، فإن هبوط العملة المستمر خلال الفترة الماضية ربما لم يكن «حكوميا بحتا»، بحسب المراقبين.
ويرى الخبراء أن الأوضاع الاقتصادية حول العالم هي المحور الرئيسي لهبوط اليوان، حيث إن «أجواء الحرب التجارية» التي أشعلها ترمب، تسببت في زيادة التوقعات بأن «المركزي الصيني» سيتجه إلى تخفيف سياساته النقدية لدعم الاقتصاد خلال المعركة التجارية، وهو ما دفع المستثمرين إلى مزيد من بيع اليوان، وشراء الدولار «الأكثر جاذبية»، خاصة في ظل التوجه التصاعدي للفائدة الأميركية.
ولا يرى أغلب الخبراء أن الصين من الممكن أن تسمح بحدوث هبوط عنيف لعملتها خلال المرحلة المقبلة، بل ستترك اليوان - على الأرجح - في مرحلة «انزلاق محكوم هادئ»، حتى تحتفظ الصين بالتوازن الدقيق بين تنافسية عملتها، مع عدم اندفاع الأموال خارج الصين في حال الهبوط السريع الذي يؤدي إلى فقدان الثقة.


مقالات ذات صلة

«كوب 16» يختتم أعماله بالموافقة على 35 قراراً لتعزيز جهود مكافحة التصحر

الاقتصاد صورة جماعية للمشاركين في مؤتمر «كوب 16» في اختتام أعماله (واس)

«كوب 16» يختتم أعماله بالموافقة على 35 قراراً لتعزيز جهود مكافحة التصحر

أنتج مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16) الذي عقد في الرياض، 35 قراراً حول مواضيع محورية.

عبير حمدي (الرياض)
خاص ترمب وشي في قمة زعماء مجموعة العشرين بأوساكا باليابان عام 2019 (أرشيفية - رويترز)

خاص قنابل موقوتة تهدد الاقتصاد العالمي في 2025

يقف عام 2025 عند منعطف محوري مع تنامي المواجهة التجارية بين الولايات المتحدة والصين ووسط استمرار التوترات الجيوسياسية.

هلا صغبيني (الرياض)
الاقتصاد امرأة على دراجتها الهوائية أمام «بورصة بكين»... (رويترز)

تراجع تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناشئة... والصين الأكبر تضرراً

من المتوقع أن يشهد النمو العالمي تباطؤاً في عام 2025، في حين سيتجه المستثمرون الأجانب إلى تقليص حجم الأموال التي يوجهونها إلى الأسواق الناشئة.

«الشرق الأوسط» (لندن )
الاقتصاد برج المقر الرئيس لبنك التسويات الدولية في بازل (رويترز)

بنك التسويات الدولية يحذر من تهديد الديون الحكومية للأسواق المالية

حذّر بنك التسويات الدولية من أن تهديد الزيادة المستمرة في إمدادات الديون الحكومية قد يؤدي إلى اضطرابات بالأسواق المالية

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد متداولون في كوريا الجنوبية يعملون أمام شاشات الكومبيوتر في بنك هانا في سيول (وكالة حماية البيئة)

الأسواق الآسيوية تنخفض في ظل قلق سياسي عالمي

انخفضت الأسهم في آسيا في الغالب يوم الاثنين، مع انخفاض المؤشر الرئيسي في كوريا الجنوبية بنسبة 2.3 في المائة.

«الشرق الأوسط» (هونغ كونغ )

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
TT

هل تؤدي العقوبات وأسعار الفائدة الروسية إلى موجة شاملة من الإفلاسات؟

الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)
الساحة الحمراء وكاتدرائية القديس باسيل وبرج سباسكايا في الكرملين كما تظهر من خلال بوابة في وسط موسكو (رويترز)

في ظلّ الضغوط المتزايدة التي فرضتها العقوبات الغربية وارتفاع أسعار الفائدة بشكل مذهل، تتزايد المخاوف في الأوساط الاقتصادية الروسية من احتمال حدوث موجة من الإفلاسات التي قد تهدّد استقرار الكثير من الشركات، لا سيما في ظل استمرار الرئيس فلاديمير بوتين في التمسّك بحربه في أوكرانيا.

وفي كلمته خلال مؤتمر الاستثمار الذي نظمته مجموعة «في تي بي» هذا الشهر، لم يفوّت بوتين الفرصة للتفاخر بما عدّه فشل العقوبات الغربية في إضعاف الاقتصاد الروسي، فقد صرّح قائلاً: «كانت المهمة تهدف إلى توجيه ضربة استراتيجية إلى روسيا، لإضعاف صناعتنا وقطاعنا المالي والخدماتي». وأضاف أن النمو المتوقع للاقتصاد الروسي سيصل إلى نحو 4 في المائة هذا العام، قائلاً إن «هذه الخطط انهارت، ونحن متفوقون على الكثير من الاقتصادات الأوروبية في هذا الجانب»، وفق صحيفة «واشنطن بوست».

وعلى الرغم من التصفيق المهذّب الذي قُوبل به الرئيس الروسي، فإن التوترات بدأت تظهر بين النخبة الاقتصادية الروسية بشأن التأثيرات السلبية المتزايدة للعقوبات على الاقتصاد الوطني. فقد حذّر عدد متزايد من المسؤولين التنفيذيين في الشركات الكبرى من أن رفع البنك المركزي أسعار الفائدة لمكافحة التضخم -الذي تفاقم بسبب العقوبات والنفقات العسكرية لبوتين- قد يهدد استقرار الاقتصاد في العام المقبل. وقد تتسبّب هذه السياسة في تسارع موجات الإفلاس، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية الحساسة مثل الصناعة العسكرية، حيث من المتوقع أن يشهد إنتاج الأسلحة الذي يغذّي الحرب في أوكرانيا تباطؤاً ملحوظاً.

حتى الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، أشار في منشور على شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» إلى أن روسيا أصبحت «ضعيفة جزئياً بسبب اقتصادها المتداعي».

تحذيرات من الإفلاس

ومع تزايد توقعات أن «المركزي الروسي» سيضطر إلى رفع الفائدة مرة أخرى هذا الشهر، انضم بعض الأعضاء المعتدلين في الدائرة الداخلية لبوتين إلى الانتقادات غير المسبوقة للسياسات الاقتصادية التي أبقت على سعر الفائدة الرئيس عند 21 في المائة، في وقت يستمر فيه التضخم السنوي في الارتفاع ليصل إلى أكثر من 9 في المائة. وهذا يشير إلى احتمالية حدوث «ركود تضخمي» طويل الأمد أو حتى ركود اقتصادي في العام المقبل. وبالفعل، يتوقع البنك المركزي أن ينخفض النمو الاقتصادي بشكل حاد إلى ما بين 0.5 في المائة و1.5 في المائة في العام المقبل.

كما تسبّبت العقوبات الأميركية الجديدة التي شملت فرض عقوبات على 50 بنكاً روسياً، بما في ذلك «غازبروم بنك»، وهو قناة رئيسة لمدفوعات الطاقة، في زيادة تكاليف المعاملات بين المستوردين والمصدرين الروس. وقد أسهم ذلك في انخفاض قيمة الروبل إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022. وقد أدى هذا الانخفاض في قيمة الروبل إلى زيادة التضخم، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 0.5 في المائة بين 26 نوفمبر (تشرين الثاني) و2 ديسمبر (كانون الأول)، وفقاً للبيانات الرسمية.

وفي هذا السياق، حذّر رئيس هيئة الرقابة المالية الروسية، نجل أحد أقرب حلفاء بوتين، بوريس كوفالتشوك، من أن رفع أسعار الفائدة «يحد من إمكانات الاستثمار في الأعمال، ويؤدي إلى زيادة الإنفاق في الموازنة الفيدرالية». كما انتقد الرئيس التنفيذي لشركة «روسنفت» الروسية، إيغور سيتشين، البنك المركزي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، مؤكداً أن ذلك أسهم في زيادة تكاليف التمويل للشركات وتأثر أرباحها سلباً.

وفي تصريح أكثر حدّة، حذّر رئيس شركة «روس أوبورون إكسبورت» المتخصصة في صناعة الأسلحة، سيرغي تشيميزوف، من أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة قد يؤدي إلى إفلاس معظم الشركات الروسية، بما في ذلك قطاع الأسلحة، مما قد يضطر روسيا إلى الحد من صادراتها العسكرية.

كما شدّد قطب صناعة الصلب الذي يملك شركة «سيفيرستال»، أليكسي مورداشوف، على أن «من الأفضل للشركات أن تتوقف عن التوسع، بل تقلّص أنشطتها وتضع الأموال في الودائع بدلاً من المخاطرة بالإدارة التجارية في ظل هذه الظروف الصعبة».

وحذّر الاتحاد الروسي لمراكز التسوق من أن أكثر من 200 مركز تسوق في البلاد مهدد بالإفلاس بسبب ارتفاع تكاليف التمويل.

وعلى الرغم من أن بعض المديرين التنفيذيين والخبراء الاقتصاديين يشيرون إلى أن بعض الشركات قد تبالغ في تقدير تأثير أسعار الفائدة المرتفعة، في محاولة للحصول على قروض مدعومة من الدولة، فإن القلق بشأن الوضع الاقتصادي يبدو مشروعاً، خصوصاً أن مستويات الديون على الشركات الروسية أصبحت مرتفعة للغاية.

ومن بين أكثر القطاعات تأثراً كانت صناعة الدفاع الروسية، حيث أفادت المستشارة السابقة للبنك المركزي الروسي، ألكسندرا بروكوبينكو، بأن الكثير من الشركات الدفاعية لم تتمكّن من سداد ديونها، وتواجه صعوبة في تأمين التمويل بسبب ارتفاع تكاليفه. وقالت إن بعض الشركات «تفضّل إيداع الأموال في البنوك بدلاً من الاستثمار في أنشطة تجارية ذات مخاطر عالية».

كما تحدّث الكثير من المقاولين علناً عن الأزمة الاقتصادية المتزايدة في روسيا. ففي أوائل نوفمبر، أشار رئيس مصنع «تشيليابينسك» للحديد والصلب، أندريه جارتونغ، خلال منتدى اقتصادي إلى أن فروعاً رئيسة من الهندسة الميكانيكية قد «تنهار» قريباً.

وفي الثالث من ديسمبر (كانون الأول)، أفادت وكالة «إنترفاكس» الروسية بأن حالات عدم السداد انتشرت في مختلف أنحاء الاقتصاد، حيث تأخرت الشركات الكبرى والمتوسطة بنسبة 19 في المائة من المدفوعات بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول)، في حين تأخرت الشركات الصغيرة بنسبة 25 في المائة من المدفوعات في الفترة نفسها.

وحسب وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، فقد انخفض الاستثمار في البلاد، وتسببت العقوبات في ارتفاع تدريجي لتكاليف الواردات والمعاملات المالية، مما أدى إلى زيادة التضخم. كما قال مسؤول مالي روسي كبير سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الموضوع: «ما يحدث هو صدمة إمداد نموذجية في البلاد».

صناعة الدفاع مهددة

تأتي هذه التحديات في وقت حساس بالنسبة إلى صناعة الدفاع الروسية. فعلى الرغم من ضخ بوتين مبالغ ضخمة من التمويل الحكومي في هذا القطاع، مع تخصيص 126 مليار دولار في موازنة العام المقبل، فإن معظم الزيادة في الإنتاج كانت ناتجة عن تعزيز القوة العاملة لتشغيل المصانع العسكرية على مدار الساعة وتجديد مخزونات الحقبة السوفياتية. ومع ذلك، ومع استمرار الحرب ودخولها عامها الثالث، وارتفاع خسائر المعدات العسكرية، فإن القوة العاملة في القطاع قد وصلت إلى أقصى طاقتها، وإمدادات الأسلحة السوفياتية تتضاءل بسرعة.

وتقول جانيس كلوغ، من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إن التكاليف المتزايدة والعقوبات المشددة على واردات المعدات تجعل من الصعب على قطاع الدفاع الروسي بناء الأسلحة من الصفر. ووفقاً لتقرير صادر هذا العام عن الباحثَين في المعهد الملكي للخدمات المتحدة بلندن، جاك واتلينغ ونيك رينولدز، فإن 80 في المائة من الدبابات والمركبات القتالية المدرعة التي تستخدمها روسيا في الحرب ليست جديدة، بل جُدّدت من المخزونات القديمة. ويضيف التقرير أن روسيا «ستبدأ في اكتشاف أن المركبات بحاجة إلى تجديد أعمق بحلول عام 2025. وبحلول عام 2026 ستكون قد استنفدت معظم المخزونات المتاحة».

ثقة الكرملين

على الرغم من هذه التحديات يبدو أن الوضع لا يثير قلقاً في الكرملين. وقال أكاديمي روسي له علاقات وثيقة مع كبار الدبلوماسيين في البلاد: «لا يوجد مزاج ذعر». وأضاف أن المسؤولين في الكرملين يعدّون أن «كل شيء يتطور بشكل جيد إلى حد ما». ووفقاً لهذا الرأي، فإن روسيا تواصل تحقيق تقدم عسكري، وفي ظل هذه الظروف، لا يرى الكرملين حاجة إلى تقديم أي تنازلات جادة.

وتزيد الاضطرابات السياسية في العواصم الغربية -بما في ذلك التصويت بحجب الثقة في فرنسا، مع التصويت المرتقب في ألمانيا، بالإضافة إلى اعتقاد الكرملين أن ترمب قد يقلّل من دعمه لأوكرانيا- من الثقة داخل روسيا.

وقد تصدّى بوتين لانتقادات متزايدة بشأن زيادات أسعار الفائدة ورئيسة البنك المركزي، إلفيرا نابيولينا، قائلاً في مؤتمر الاستثمار إن كبح جماح التضخم يظل أولوية بالنسبة إليه. ومع الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل البطاطس التي ارتفعت بنسبة 80 في المائة هذا العام، يواصل بوتين دعم نابيولينا وزيادات أسعار الفائدة، رغم شكاوى الشركات الكبرى. وقالت كلوغ: «من وجهة نظر بوتين، لا يمكن السماح للتضخم بالخروج عن السيطرة، لأنه يمثّل تهديداً لاستقرار النظام السياسي، ولهذا السبب منح نابيولينا تفويضاً قوياً».

لكن المستشارة السابقة للبنك المركزي، ألكسندرا بروكوبينكو، ترى أن الضغط من الشركات الكبرى لن يهدأ. وقالت: «عندما يكون التضخم عند 9 في المائة، وسعر الفائدة عند 21 في المائة، فهذا يعني أن السعر الرئيس لا يعمل بشكل صحيح، ويجب البحث عن أدوات أخرى. أولوية بوتين هي الحرب وتمويل آلتها، ولا يمتلك الكثير من الحلفاء، والموارد المتاحة له تتقلص». وأضافت أنه من المحتمل أن تتعرّض نابيولينا لمزيد من الضغوط مع استمرار الوضع الاقتصادي الصعب.

ومع تزايد الضغوط على بوتين، أصبحت الصورة في الغرب أكثر تفاؤلاً بشأن فرص التغيير في روسيا، وفقاً لمؤسسة شركة الاستشارات السياسية «ر. بوليتيك» في فرنسا، تاتيانا ستانوفايا.

وأضافت: «بوتين مستعد للقتال ما دام ذلك ضرورياً... لكن بوتين في عجلة من أمره. لا يستطيع الحفاظ على هذه الشدة من العمل العسكري والخسائر في الأرواح والمعدات كما كان في الأشهر الأخيرة».