ثقافة التعايش والسلام تجمع شباب الشرق والغرب

قدموا أطروحات عن «المواطنة ونبذ العنف» برعاية الأزهر و«كانتربري»

جانب من جلسات الشباب خلال منتدى «صناع السلام» في لندن
جانب من جلسات الشباب خلال منتدى «صناع السلام» في لندن
TT

ثقافة التعايش والسلام تجمع شباب الشرق والغرب

جانب من جلسات الشباب خلال منتدى «صناع السلام» في لندن
جانب من جلسات الشباب خلال منتدى «صناع السلام» في لندن

نقاشات وأطروحات الشباب من الشرق والغرب بمقر أسقفية كانتربري في لندن، كانت محل أنظار العالم، واستمع إليها القادة الدينيون باهتمام، لتقوم المؤسسات الدينية بعد ذلك بتبنيها ودعمها ومناقشة آليات توظيفها، ووضع خطط عملية لتنفيذها وتعميم فوائدها في الشرق والغرب.
فعلى مدار 10 أيام تحاور 25 شاباً من أوروبا اختارتهم كانتربري، و25 شاباً من العالم العربي اختارهم الأزهر من عدة دول عربية، حول مفاهيم التعايش السلمي والمواطنة ونبذ العنف، والاندماج بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة. بينما قدم الشباب المشاركون نماذج لمشاريع وأفكار تنموية يمكن أن تساعد في خلق بيئة يسودها التسامح والتعايش مستقبلاً.

هدف الشباب في لقاءاتهم بـ«منتدى شباب صناع السلام» خلال الفترة من 8 حتى 18 يوليو (تموز) الجاري إلى بناء فريق عالمي منهم الساعي للسلام، وذلك للمشاركة في مبادرات وفعاليات دعمها الأزهر ومجلس حكماء المسلمين بالتعاون مع أسقفية كانتربري... وجاء عقد المنتدى في إطار جولات الحوار بين الشرق والغرب، التي أطلق مبادرتها الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر قبل عدة سنوات، بهدف مد جسور الحوار والتعاون بين الشرق والغرب، حيث تم الاتفاق خلال جولة الحوار السابقة بين الأزهر وأسقفية كانتربري، على تولي نخبة من الشباب، أصحاب المبادرات الخلاقة، قيادة جولة المنتدى كمحاولة لتنسيق الجهود وتوحيد الرؤى تجاه القضايا المعاصرة كـ«المواطنة والسلام ومواجهة الفكر المتطرف».

- عناوين للتعايش
ركز برنامج المحاضرات وورش العمل للشباب، التي عقدت في قصر لامبث مقر أسقفية كانتربري، وفي كلية تشرشل بجامعة كامبريدج البريطانية، على خطوات إعداد وصناعة القادة، وكيفية صناعة شبكة مجتمعية قائمة على التأثير والتفاعل بهدف إيجاد كتلة نشطة من الشباب القيادي الواعي، القادر على إحداث التغيير وصناعة المستقبل وبناء السلام، وأوجه التشابه بين النصوص الدينية في ما يتعلق بإدارة الصراعات... ودار تساؤل حول «كيف نحل المشكلات التي لا حل لها؟». واستعرض المشاركون الآليات المختلفة لحل المشكلات الصعبة بجميع أنواعها، سواء كانت مشكلات شخصية أو دينية أو مجتمعية أو عالمية. وشدد الجميع على ضرورة الاستفادة من تعاليم الأديان المختلفة التي دعت إلى السلم والسلام والمحبة والتسامح ونبذ الفرقة والصراعات.
ودار تساؤل آخر حول «ماذا عن الصراع؟»، تطرق فيه المشاركون بالمنتدى إلى الحديث عن أنواع الصراعات وأسبابها المختلفة وبعض النماذج العالمية للصراعات التي نشأت في العالم، وذلك لتعظيم الاستفادة من هذه التجارب في إدارة الصراعات، ومعرفة دور القيادات العالمية في إنهاء الصراعات.
فضلاً عن محاضرات عن «قراءة في النصوص الدينية»، و«كيف نُسامح؟»، و«العدالة التصالحية»، و«مقدمة في دراسة النص الديني»، و«مَن نحن؟ وكيف نرى أنفسنا؟»، و«الوساطة»... وتم طرح العديد من الأسئلة حول مساهمة الأديان والعقائد في صناعة السلام، وكيفية تأثر بعض النزاعات بالمعتقدات الدينية والسياسية للأطراف المنخرطة فيها. وتم استعراض تجربة مشروع توأمة المسجد والكنيسة، وهو مشروع مبنيّ على الصداقة بين مجموعة من المسيحيين والمسلمين، ويُظهر كيف يمكن للإيمان أن يصبح عاملاً محفزاً للعلاقات الجيدة مع الآخر.
على هامش المنتدى عقد شيخ الأزهر، والدكتور جاستن ويلبي كبير أساقفة كانتربري، حواراً مفتوحاً مع الشباب. وشدد شيخ الأزهر على أن «الدين واحد، وإنْ اختلفت الرسالات، فكل الأنبياء حملوا نفس الدين، مع اختلاف التشريعات، فنحن كمسلمين نؤمن بمحمد وعيسى وموسى، ولا يكتمل إيماننا إلا بذلك».
ناصحاً الشباب بتجنب الحوار في العقائد، مؤكداً أنه «لا تحاور في الدين والعقيدة وإنما الحوار في المشتركات والقيم الإنسانية مثل التسامح والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وليس القوة أو العنف».

- ضحايا الإرهاب
قال شيخ الأزهر إن «عالمنا العربي والإسلامي لم يكد ينعم طويلاً بحياة الأمن والسلام التي تحياها بقية شعوب العالم في الشرق والغرب، حتى فقدنا السلام من جديد، ودخلنا في ما يسمى (حرب الإرهاب)، وهي نوع من الحروب جديد لا يعرف الحدود؛ وله قدرة على أن يحمل الموت والدمار إلى ضحاياه من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ في المنازل والشوارع والمتاجر والمدارس والمسارح والنوادي والتجمعات، حتى المصلين والمصليات في المساجد والكنائس ودور العبادات تعقبتهم عمليات هذا الإرهاب الجديد، وأغرقتهم مع أطفالهم في دمائهم وهم يصلون... ومع هذا الرعب الجديد لم يعد أي آدمي في أي مكان على ظهر الأرض في الشرق كما في الغرب آمناً على نفسه ولا على أسرته».
لافتاً إلى أنه يتحتم القول بأن الإرهاب لا يعبر بالضرورة عن الدين الذي يقتل الناس تحت لافتته؛ بل الإرهاب هو الذي يخطف الأديان بعدما يقوم بعملية تدليس وتزوير وخيانة في تأويل نصوصها وتفسير معانيها، لينفذ بها جرائم حرّمتها الأديان والكتب المقدسة، التي يلوحون بها بإحدى اليدين بينما يعبثون بنصوصها باليد الأخرى.
وقال الدكتور أحمد الطيب خلال جلسات المنتدى: «في اعتقادي أن أولى الخطوات الصحيحة هو التقاء الغرب والشرق على مصلحة واحدة إنسانية مشتركة، ووسيلته المثلى هو الحوار الذي يصحح أولاً صورة الغرب والحضارة الغربية في مرآة العرب والمسلمين، ويصحح صورة العرب والمسلمين في مرآة الغرب، لتنفتح بعد ذلك أبواب التعارف والتسامح والبحث عن مواطِن الاشتراك والاتفاق -وما أكثرها بين الأديان والعقائد والمذاهب- ولا أشك أنكم (أي الشباب) أقدر من يحمل هذه الشعلة ويبدأ المشوار على هذا الطريق الطويل».

- حوار مباشر
من جانبه، قال كبير أساقفة كانتربري، إن «الحوار بين الأزهر والكنيسة الإنجليكانية انطلق في عام 2002، أي بعد تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 في الولايات المتحدة بعدة أشهر، وقبل نحو عام من احتلال العراق، فيما كانت الانتفاضة مشتعلة في الأراضي الفلسطينية، ولذا فإن الحوار جاء في وقت كانت الأوضاع والتحديات في الشرق الأوسط صعبة». موضحاً أن «التحديات الآن ليست بأقل صعوبة مما كانت عليه في الماضي، خصوصاً في ما يتعلق بدور وقدرة القيادات الدينية على التأثير في الجماهير، وكيفية مشاركتها في صنع السلام وبناء عالم جديد، وذلك من خلال التركيز على ما تتضمنه الكتب المقدسة من قيم وتعاليم تحض على السلام والتعايش وقبول الآخر».
حضر جلسات المنتدى عدد كبير الشخصيات المصرية والعربية والغربية، وقالت السفيرة نبيلة مكرم، وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج، إن «الحوار المباشر مع الشباب كان له تأثير إيجابي كبير عليهم بما نراه من تعايش بين أتباع الأديان المختلفة... فأصبحنا نرى الفتيات والشباب يتشاركون الأحاديث الإيجابية والخلاقة، التي تنعكس على تعزيز التفاهم المشترك وتقريب وجهات النظر».
وأكد المستشار محمد عبد السلام، مستشار شيخ الأزهر، أن «منتدى شباب صناع السلام» بعث برسالة سلام من شيخ الأزهر إلى العالم أجمع مفادها «أننا إذا أردنا أن نصنع سلاماً حقيقياً ترتقي به مجتمعاتنا... فعلينا بالشباب فهم قادة المستقبل وأمل الغد»، مضيفاً: «حين التقيت هؤلاء الشباب شعرت بالأمل والتفاؤل والثقة... شباب العالم يصنعون السلام برعاية الأزهر و(حكماء المسلمين) وكنيسة كانتربري».

- العيش المشترك
في غضون ذلك، ركزت إحدى المناقشات على قضايا «التعايش السلمي والعيش المشترك». جاء ذلك في الوقت الذي أدى فيه الطلاب شعائر صلاة الجمعة الماضية، وألقى الخطبة أحد أبناء الأزهر، فيما تولى طالب أزهري آخر ترجمتها للغة الإنجليزية... وحضر الخطبة طلاب غير مسلمين، ليتعرفوا على الشعائر الدينية لدى المسلمين، حيث دار موضوع الخطبة حول محورية «قيم السلام والتعايش في الإسلام، وموقف الإسلام من حقوق الإنسان والتعايش مع غير المسلمين».
وأوفد شيخ الأزهر، مستشاره محمد عبد السلام إلى مقر انعقاد المنتدى في كلية تشرشل بجامعة كامبريدج البريطانية، رافقته خلالها سارة سيندر مستشارة كبير أساقفة كانتربري... وخلال المحاضرات استعرض المشاركون نصوصاً من القرآن الكريم والإنجيل، تحض على التعايش السلمي والعيش المشترك، ودار حوار حول كيفية تطبيقها على أرض الواقع في ظل الصراعات التي تنتشر في العالم بسبب التفسيرات الخاطئة للنصوص، أو إهمال نصوص أخرى تدعو للسلام والتعايش السلمي بين أتباع الأديان.
وركزت محاضرة أخرى بعنوان «كيف يتشابك الدين مع بيئتنا؟»، على دور الدين في السياق المحلي، وفي حياتنا اليومية، وكيفية استغلال هذا التأثير إيجابياً لنشر السلام والمودة، وخلق التعايش والاندماج الإيجابي بين الجميع، بدلاً من العزلة والصراع.
في ذات السياق، أبدى عدد من المشاركين من الشباب المصري في جلسات المنتدى سعادتهم بالحوار بين الشرق والغرب. وأشادت جهاد عامر، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، بدور «منتدى شباب صناع السلام» في تعميق مفهوم الحوار والتعارف والتسامح، مشيرة إلى أن مشاركة الشباب المتنوع الثقافات والحضارات في المنتدى شكلت عاملاً مهماً في نجاحه. موضحة أن المنتدى مثّل خطوة ينبغي أن تستكمل في دول أخرى في المستقبل القريب، لأنها تعمّق لمفاهيم متعددة، تبتغي التنمية والسلام والأمان للإنسانية جمعاء.
وقال الداعية مصطفى حسني، أحد المشاركين في المنتدى، إن «المنتدى غرس في الشباب فكرة أن الأديان لديها مشتركات كبيرة جداً، وأن البشرية يجب أن يسود بينها الحب حتى لو اختلفت في العقيدة، كما يعد المنتدى تنفيذاً للتعارف الذي أمر به الله عز وجل».


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟