ثقافة التعايش والسلام تجمع شباب الشرق والغرب

قدموا أطروحات عن «المواطنة ونبذ العنف» برعاية الأزهر و«كانتربري»

جانب من جلسات الشباب خلال منتدى «صناع السلام» في لندن
جانب من جلسات الشباب خلال منتدى «صناع السلام» في لندن
TT

ثقافة التعايش والسلام تجمع شباب الشرق والغرب

جانب من جلسات الشباب خلال منتدى «صناع السلام» في لندن
جانب من جلسات الشباب خلال منتدى «صناع السلام» في لندن

نقاشات وأطروحات الشباب من الشرق والغرب بمقر أسقفية كانتربري في لندن، كانت محل أنظار العالم، واستمع إليها القادة الدينيون باهتمام، لتقوم المؤسسات الدينية بعد ذلك بتبنيها ودعمها ومناقشة آليات توظيفها، ووضع خطط عملية لتنفيذها وتعميم فوائدها في الشرق والغرب.
فعلى مدار 10 أيام تحاور 25 شاباً من أوروبا اختارتهم كانتربري، و25 شاباً من العالم العربي اختارهم الأزهر من عدة دول عربية، حول مفاهيم التعايش السلمي والمواطنة ونبذ العنف، والاندماج بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة. بينما قدم الشباب المشاركون نماذج لمشاريع وأفكار تنموية يمكن أن تساعد في خلق بيئة يسودها التسامح والتعايش مستقبلاً.

هدف الشباب في لقاءاتهم بـ«منتدى شباب صناع السلام» خلال الفترة من 8 حتى 18 يوليو (تموز) الجاري إلى بناء فريق عالمي منهم الساعي للسلام، وذلك للمشاركة في مبادرات وفعاليات دعمها الأزهر ومجلس حكماء المسلمين بالتعاون مع أسقفية كانتربري... وجاء عقد المنتدى في إطار جولات الحوار بين الشرق والغرب، التي أطلق مبادرتها الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر قبل عدة سنوات، بهدف مد جسور الحوار والتعاون بين الشرق والغرب، حيث تم الاتفاق خلال جولة الحوار السابقة بين الأزهر وأسقفية كانتربري، على تولي نخبة من الشباب، أصحاب المبادرات الخلاقة، قيادة جولة المنتدى كمحاولة لتنسيق الجهود وتوحيد الرؤى تجاه القضايا المعاصرة كـ«المواطنة والسلام ومواجهة الفكر المتطرف».

- عناوين للتعايش
ركز برنامج المحاضرات وورش العمل للشباب، التي عقدت في قصر لامبث مقر أسقفية كانتربري، وفي كلية تشرشل بجامعة كامبريدج البريطانية، على خطوات إعداد وصناعة القادة، وكيفية صناعة شبكة مجتمعية قائمة على التأثير والتفاعل بهدف إيجاد كتلة نشطة من الشباب القيادي الواعي، القادر على إحداث التغيير وصناعة المستقبل وبناء السلام، وأوجه التشابه بين النصوص الدينية في ما يتعلق بإدارة الصراعات... ودار تساؤل حول «كيف نحل المشكلات التي لا حل لها؟». واستعرض المشاركون الآليات المختلفة لحل المشكلات الصعبة بجميع أنواعها، سواء كانت مشكلات شخصية أو دينية أو مجتمعية أو عالمية. وشدد الجميع على ضرورة الاستفادة من تعاليم الأديان المختلفة التي دعت إلى السلم والسلام والمحبة والتسامح ونبذ الفرقة والصراعات.
ودار تساؤل آخر حول «ماذا عن الصراع؟»، تطرق فيه المشاركون بالمنتدى إلى الحديث عن أنواع الصراعات وأسبابها المختلفة وبعض النماذج العالمية للصراعات التي نشأت في العالم، وذلك لتعظيم الاستفادة من هذه التجارب في إدارة الصراعات، ومعرفة دور القيادات العالمية في إنهاء الصراعات.
فضلاً عن محاضرات عن «قراءة في النصوص الدينية»، و«كيف نُسامح؟»، و«العدالة التصالحية»، و«مقدمة في دراسة النص الديني»، و«مَن نحن؟ وكيف نرى أنفسنا؟»، و«الوساطة»... وتم طرح العديد من الأسئلة حول مساهمة الأديان والعقائد في صناعة السلام، وكيفية تأثر بعض النزاعات بالمعتقدات الدينية والسياسية للأطراف المنخرطة فيها. وتم استعراض تجربة مشروع توأمة المسجد والكنيسة، وهو مشروع مبنيّ على الصداقة بين مجموعة من المسيحيين والمسلمين، ويُظهر كيف يمكن للإيمان أن يصبح عاملاً محفزاً للعلاقات الجيدة مع الآخر.
على هامش المنتدى عقد شيخ الأزهر، والدكتور جاستن ويلبي كبير أساقفة كانتربري، حواراً مفتوحاً مع الشباب. وشدد شيخ الأزهر على أن «الدين واحد، وإنْ اختلفت الرسالات، فكل الأنبياء حملوا نفس الدين، مع اختلاف التشريعات، فنحن كمسلمين نؤمن بمحمد وعيسى وموسى، ولا يكتمل إيماننا إلا بذلك».
ناصحاً الشباب بتجنب الحوار في العقائد، مؤكداً أنه «لا تحاور في الدين والعقيدة وإنما الحوار في المشتركات والقيم الإنسانية مثل التسامح والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وليس القوة أو العنف».

- ضحايا الإرهاب
قال شيخ الأزهر إن «عالمنا العربي والإسلامي لم يكد ينعم طويلاً بحياة الأمن والسلام التي تحياها بقية شعوب العالم في الشرق والغرب، حتى فقدنا السلام من جديد، ودخلنا في ما يسمى (حرب الإرهاب)، وهي نوع من الحروب جديد لا يعرف الحدود؛ وله قدرة على أن يحمل الموت والدمار إلى ضحاياه من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ في المنازل والشوارع والمتاجر والمدارس والمسارح والنوادي والتجمعات، حتى المصلين والمصليات في المساجد والكنائس ودور العبادات تعقبتهم عمليات هذا الإرهاب الجديد، وأغرقتهم مع أطفالهم في دمائهم وهم يصلون... ومع هذا الرعب الجديد لم يعد أي آدمي في أي مكان على ظهر الأرض في الشرق كما في الغرب آمناً على نفسه ولا على أسرته».
لافتاً إلى أنه يتحتم القول بأن الإرهاب لا يعبر بالضرورة عن الدين الذي يقتل الناس تحت لافتته؛ بل الإرهاب هو الذي يخطف الأديان بعدما يقوم بعملية تدليس وتزوير وخيانة في تأويل نصوصها وتفسير معانيها، لينفذ بها جرائم حرّمتها الأديان والكتب المقدسة، التي يلوحون بها بإحدى اليدين بينما يعبثون بنصوصها باليد الأخرى.
وقال الدكتور أحمد الطيب خلال جلسات المنتدى: «في اعتقادي أن أولى الخطوات الصحيحة هو التقاء الغرب والشرق على مصلحة واحدة إنسانية مشتركة، ووسيلته المثلى هو الحوار الذي يصحح أولاً صورة الغرب والحضارة الغربية في مرآة العرب والمسلمين، ويصحح صورة العرب والمسلمين في مرآة الغرب، لتنفتح بعد ذلك أبواب التعارف والتسامح والبحث عن مواطِن الاشتراك والاتفاق -وما أكثرها بين الأديان والعقائد والمذاهب- ولا أشك أنكم (أي الشباب) أقدر من يحمل هذه الشعلة ويبدأ المشوار على هذا الطريق الطويل».

- حوار مباشر
من جانبه، قال كبير أساقفة كانتربري، إن «الحوار بين الأزهر والكنيسة الإنجليكانية انطلق في عام 2002، أي بعد تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 في الولايات المتحدة بعدة أشهر، وقبل نحو عام من احتلال العراق، فيما كانت الانتفاضة مشتعلة في الأراضي الفلسطينية، ولذا فإن الحوار جاء في وقت كانت الأوضاع والتحديات في الشرق الأوسط صعبة». موضحاً أن «التحديات الآن ليست بأقل صعوبة مما كانت عليه في الماضي، خصوصاً في ما يتعلق بدور وقدرة القيادات الدينية على التأثير في الجماهير، وكيفية مشاركتها في صنع السلام وبناء عالم جديد، وذلك من خلال التركيز على ما تتضمنه الكتب المقدسة من قيم وتعاليم تحض على السلام والتعايش وقبول الآخر».
حضر جلسات المنتدى عدد كبير الشخصيات المصرية والعربية والغربية، وقالت السفيرة نبيلة مكرم، وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج، إن «الحوار المباشر مع الشباب كان له تأثير إيجابي كبير عليهم بما نراه من تعايش بين أتباع الأديان المختلفة... فأصبحنا نرى الفتيات والشباب يتشاركون الأحاديث الإيجابية والخلاقة، التي تنعكس على تعزيز التفاهم المشترك وتقريب وجهات النظر».
وأكد المستشار محمد عبد السلام، مستشار شيخ الأزهر، أن «منتدى شباب صناع السلام» بعث برسالة سلام من شيخ الأزهر إلى العالم أجمع مفادها «أننا إذا أردنا أن نصنع سلاماً حقيقياً ترتقي به مجتمعاتنا... فعلينا بالشباب فهم قادة المستقبل وأمل الغد»، مضيفاً: «حين التقيت هؤلاء الشباب شعرت بالأمل والتفاؤل والثقة... شباب العالم يصنعون السلام برعاية الأزهر و(حكماء المسلمين) وكنيسة كانتربري».

- العيش المشترك
في غضون ذلك، ركزت إحدى المناقشات على قضايا «التعايش السلمي والعيش المشترك». جاء ذلك في الوقت الذي أدى فيه الطلاب شعائر صلاة الجمعة الماضية، وألقى الخطبة أحد أبناء الأزهر، فيما تولى طالب أزهري آخر ترجمتها للغة الإنجليزية... وحضر الخطبة طلاب غير مسلمين، ليتعرفوا على الشعائر الدينية لدى المسلمين، حيث دار موضوع الخطبة حول محورية «قيم السلام والتعايش في الإسلام، وموقف الإسلام من حقوق الإنسان والتعايش مع غير المسلمين».
وأوفد شيخ الأزهر، مستشاره محمد عبد السلام إلى مقر انعقاد المنتدى في كلية تشرشل بجامعة كامبريدج البريطانية، رافقته خلالها سارة سيندر مستشارة كبير أساقفة كانتربري... وخلال المحاضرات استعرض المشاركون نصوصاً من القرآن الكريم والإنجيل، تحض على التعايش السلمي والعيش المشترك، ودار حوار حول كيفية تطبيقها على أرض الواقع في ظل الصراعات التي تنتشر في العالم بسبب التفسيرات الخاطئة للنصوص، أو إهمال نصوص أخرى تدعو للسلام والتعايش السلمي بين أتباع الأديان.
وركزت محاضرة أخرى بعنوان «كيف يتشابك الدين مع بيئتنا؟»، على دور الدين في السياق المحلي، وفي حياتنا اليومية، وكيفية استغلال هذا التأثير إيجابياً لنشر السلام والمودة، وخلق التعايش والاندماج الإيجابي بين الجميع، بدلاً من العزلة والصراع.
في ذات السياق، أبدى عدد من المشاركين من الشباب المصري في جلسات المنتدى سعادتهم بالحوار بين الشرق والغرب. وأشادت جهاد عامر، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، بدور «منتدى شباب صناع السلام» في تعميق مفهوم الحوار والتعارف والتسامح، مشيرة إلى أن مشاركة الشباب المتنوع الثقافات والحضارات في المنتدى شكلت عاملاً مهماً في نجاحه. موضحة أن المنتدى مثّل خطوة ينبغي أن تستكمل في دول أخرى في المستقبل القريب، لأنها تعمّق لمفاهيم متعددة، تبتغي التنمية والسلام والأمان للإنسانية جمعاء.
وقال الداعية مصطفى حسني، أحد المشاركين في المنتدى، إن «المنتدى غرس في الشباب فكرة أن الأديان لديها مشتركات كبيرة جداً، وأن البشرية يجب أن يسود بينها الحب حتى لو اختلفت في العقيدة، كما يعد المنتدى تنفيذاً للتعارف الذي أمر به الله عز وجل».


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».