ليبيا... صراع النفط

منافسة محمومة على مواقع الإنتاج وموانئ التصدير

جندي من الجيش الليبي أثناء استعادة الجيش السيطرة على موانئ تصدير النفط في رأس لانوف الشهر الماضي (رويترز)
جندي من الجيش الليبي أثناء استعادة الجيش السيطرة على موانئ تصدير النفط في رأس لانوف الشهر الماضي (رويترز)
TT
20

ليبيا... صراع النفط

جندي من الجيش الليبي أثناء استعادة الجيش السيطرة على موانئ تصدير النفط في رأس لانوف الشهر الماضي (رويترز)
جندي من الجيش الليبي أثناء استعادة الجيش السيطرة على موانئ تصدير النفط في رأس لانوف الشهر الماضي (رويترز)

يتسبب الصراع على النفط بين شرق ليبيا وغربها وجنوبها، في تعطيل عمل موانئ التصدير، وحرق مصافي النفط، وغلق صمامات على يد مسلحين، لمنع تدفق البترول والغاز إلى الدول المستوردة من ساحل البحر المتوسط، وعلى رأسها أوروبا. وفي المقابل، تستفيد دول وشركات عدة من غياب الحصة الليبية في سوق الطاقة، في وقت أصبح يعاني فيه عموم الليبيين من الفاقة وقلة السيولة المالية في المصارف، وكذا من نقص المواد الغذائية، وانقطاع الكهرباء، وغياب الخدمات الصحية.
وتعتمد موازنة الدولة على صادرات النفط والغاز، بنسبة تزيد على 95 في المائة. وكان حجم التصدير في عهد معمر القذافي يصل إلى نحو 1.6 مليون برميل يومياً، إضافة إلى صادرات الغاز، إلا أن كل هذه الكميات تقلصت بشكل كبير بعد إطاحة نظامه في 2011.
ولنحو سبع سنوات، ظلت مراكز استخراج الطاقة محل صراعات وانتشار للميليشيات المسلحة، بما فيها الجماعات المتطرفة. ففي الهلال النفطي الواقع بين بلدة أجدابيا في غرب بنغازي، وسرت في شرق طرابلس، استمرت أطول عملية إغلاق، بعد تدهور الوضع الأمني في عموم البلاد، خصوصاً في أعقاب سيطرة مسلحين على مناطق واسعة من ليبيا انطلاقاً من بنغازي، منذ عام 2013.
واستمر هذا الوضع لمدة ثلاث سنوات. وظهرت خلال تلك الفترة دعوات لانفصال المنطقة الشرقية الغنية بالنفط عن باقي عموم ليبيا. وظهر اسم إبراهيم الجضران ابن قبيلة المغاربة، على الساحة، بصفته آمر حرس المنشآت النفطية في المنطقة، حيث يتركز وجود قبيلته في منطقة موانئ التصدير في الشمال الأوسط من ليبيا.
ويوجد النفط والغاز الذي ينتج بتكاليف زهيدة مقارنة بدول أخرى، في ثلاثة أحواض رئيسية ضخمة، هي حوض سرت في وسط البلاد (الذي يوجد فيه الهلال النفطي)، وحوض مرزق في الجنوب، وحوض غدامس في الغرب.
- إشكالية الهلال النفطي
يعد اسم الهلال النفطي هو الأشهر، رغم أن الاسم الصحيح لهذه المنطقة التي تقع بين سرت وشرق أجدابيا، هو «حوض سرت» الذي يضم أكثر من 15 حقلاً منتجاً للنفط، أكبرها «حقل السرير». وتترقب الكثير من شركات النفط الدولية اقتناص فرص للاستثمار مع الجانب الليبي في هذه الحقول مستقبلاً، أو إحياء الاتفاقيات القديمة التي عطلتها أحداث سياسية مرت على ليبيا منذ بداية العقد الحالي.
وتقع غالبية حقول الهلال النفطي القادرة على إنتاج أقل قليلاً من ربع مليون برميل يومياً، في وسط الصحراء، جنوب أجدابيا، وحتى حقول الواحات، وتمتد منها أنابيب تصل إلى مصافٍ للتكرير وموانئ للتصدير على ساحل البحر المتوسط، قرب طبرق، وفي بنغازي، وأجدابيا نفسها، وفي رأس لانوف، والسدرة، غربي بنغازي.
ومن القبائل المنتشرة ما بين حقول الإنتاج في المناطق الصحراوية للهلال النفطي، وحتى ساحل البحر المتوسط، حيث مصافي التكرير والتصدير، هناك قبائل العبيدات، والمنفة، والقطعان، والعواقير، وغيرهم، إضافة إلى قبيلتي زوية والتبو، كثيرتي التخاصم، إلى جانب قبيلة المغاربة الأكبر في تلك المساحة، وهذه الأخيرة ينتمي إليها الآمر السابق لحرس المنشآت النفطية إبراهيم الجضران. وجرى طرده وطرد قواته، الشهر الماضي، من المنطقة على يد الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، وذلك للمرة الثانية خلال نحو عامين.
ومنذ خمسينات القرن الماضي، عند اكتشاف النفط في ليبيا، بدأت شركات أميركية وبريطانية، مناصفة مع الجانب الليبي، في العمل في حوض سرت، حيث مدت عشرات من الطرق الترابية في عمق الصحراء من أجل الوصول إلى مناطق الاكتشافات والتنقل بين الحقول. ويصل طول بعض هذه الطرق إلى مئات الكيلومترات. وفيما بعد أسست عدد من المطارات الصغيرة القادرة على استقبال طائرات نقل الموظفين والخبراء، وهي طائرات يتسع كل منها لنحو عشرة أفراد.
وغادرت غالبية الشركات الأجنبية ليبيا بعد قرارات تأميم اتخذها القذافي في سبعينات القرن الماضي، وأصبحت المؤسسة الليبية للنفط هي العمود الفقري لإدارة هذه الثروة في البلاد. وتولى الجيش وحرس المنشآت وما يعرف بـ«قوات الشعب المسلح» في عهد القذافي، حماية الطرق بين حقول النفط وموانئ تصديره.
لكن منذ 2011، استغلت جماعات خارجة عن القانون - بما فيها من جماعات متطرفة وأخرى وافدة من الخارج - الفوضى للاستيلاء على هذه الطرق والمواقع النفطية للتنقل والاختباء وتقوية نفسها، وسرقة سيارات المنشآت النفطية، وأجهزة الاتصالات اللاسلكية، والحواسب وغيرها.
وتعرض كثيرون من العاملين في هذه الحقول للقتل في السنوات القليلة الماضية إثر هجمات مباغتة، كان من بينها عمليات نفذها تنظيم داعش. كما فضلت شركات نفط، وخبراء أجانب، التوقف عن العمل، والرحيل من ليبيا، بانتظار استقرار الأوضاع.
وبخلاف الصراع الخفي، المحلي والدولي، على حوضي النفط والغاز في منطقتي مرزق جنوباً وغدامس غرباً، تصدرت الخلافات حول حوض سرت، أو الهلال النفطي، واجهة الأحداث بسبب وقوع هذا الحوض قرب خطوط التماس بين أكبر قوتين تاريخيتين في ليبيا، هما إقليم برقة في الشرق، وإقليم طرابلس في الغرب.
لقد كان التنافس دائماً، ولمئات السنين، بين إقليمي برقة وطرابلس، سواء في أيام الاحتلال العثماني أو الاحتلال الإيطالي. وأعطت الخلافات التي نشبت حول الثروة النفطية بين الأفرقاء الليبيين، عقب انتهاء عهد القذافي، زخماً جديداً للصراع، مع بروز أطراف إقليمية ودولية لديها شهية للنفط والغاز.
وبدأ الشقاق الكبير حول منطقة الهلال النفطي عندما جرت الانتخابات البرلمانية في 2014، وفاز بالأغلبية فيها تيار مدني؛ إذ أقصى الناخبون الليبيون، معظم مرشحي التيار الإسلامي. ولجأ هذا التيار إلى السلاح، وطردت ميليشياته البرلمان من طرابلس إلى طبرق.
وفي تلك السنة، لملم المشير حفتر ما تبقى من الجيش، وأعلن «عملية الكرامة»، وبدأ في شن حرب ضد المتطرفين المدعومين من قيادات في مصراتة وطرابلس. وكان ينبغي على الجضران أن يحدد موقفه مع الجيش أم ضده. ولم يصمد آمر حرس المنشآت طويلاً؛ إذ انحاز في نهاية المطاف إلى الجبهة المعادية لحفتر.
ومنذ ذلك الوقت جرت محاولات مستميتة من جانب قادة الغرب الليبي للاستحواذ بشكل كامل على منطقة الثروات في حوض سرت (الهلال النفطي)، وحوضي غدامس ومرزق. وفي المقابل، شاركت قوات من قبائل ليبية عدة، بينها التبو، مع الجيش، للحيلولة دون استحواذ فريق على النفط منفرداً.
وظلت حقول الهلال النفطي وموانئ التصدير معطلة معظم الوقت، وهي تحت سلطة الجضران. ويقول محققون عسكريون، إن العدادات التي تحسب الكميات المصدرة إلى الخارج جرى تخريبها؛ إذ يسود اعتقاد بأنه تم بيع مئات الآلاف من براميل النفط لحساب ميليشيات عن طريق سماسرة في البحر المتوسط.
وتعرضت الصادرات من الهلال النفطي لخسائر كبيرة طوال عامي 2014 و2015، إلى أن تمكن الجيش في العام التالي من طرد الجماعات المتطرفة من بنغازي والتمركز في المدينة الاستراتيجية، وبالتالي الاتجاه إلى فرض سلطته المستمدة من البرلمان على الهلال النفطي بالكامل.
ولعبت القبائل التي كان يعتمد عليها الجضران في سيطرته على الموانئ النفطية دوراً كبيراً، خصوصاً قبيلته المغاربة، في تسليم المنطقة بالكامل للجيش من دون قتال يذكر. لكن سبق انسحاب الجضران هجوم مباغت من «داعش»، انطلاقاً من مدينة سرت المجاورة على موانئ عدة في رأس لانوف والبريقة، حيث جرى حرق خزانات عدة بما فيها من نفط.
وأعطى حفتر المنتصر الحق للمؤسسة الوطنية للنفط، عبر مقرها من طرابلس، في بيع النفط، وإيداع عائداته في المصرف المركزي في العاصمة، رغم أن المقر الأساسي للمؤسسة يفترض أنه في بنغازي. ورغم أن البرلمان كان قد أقال رئيس المصرف المركزي في طرابلس، فإن الأمور سارت بهدوء بعد أن أخذ المصرف المركزي على عاتقه تقسيم العوائد بين المتنافسين في غرب البلاد وشرقها.
واختفى الجضران من المشهد حينذاك، إلى أن ظهر مجدداً في أحداث الشهر الماضي بهجومه على الهلال النفطي، حيث اشتعلت النيران في ثلاثة خزانات على الأقل لشركة الهروج في رأس لانوف والساحل المجاور لها. ويقول مصدر في إدارة التصدير في المؤسسة الوطنية للنفط، إن كمية ما تعرض للحرق داخل هذه الخزانات كانت تبلغ نحو 700 ألف برميل خام. ويضيف، أن معظم الخزانات في المنطقة أسستها شركات أجنبية قبل عشرات السنين، وأنه «يبدو أن الشركات نفسها هي من ستعيد بناء ما جرى تخريبه»، موضحاً أن «كلفة إصلاح هذه الخزانات تبلغ مئات ملايين الدولارات... لقد بدأت أجهزة الإبراق تدق. وفي كل مرة نتلقى عرضاً من شركة أجنبية لإصلاح ما تعرض للدمار. وبالطبع هذا كله على نفقة الليبيين».
وقرر حفتر نقل إدارة موانئ الهلال النفطي إلى المؤسسة في بنغازي شرقاً، متهماً قيادات في غرب البلاد باستخدام أموال النفط في تمويل الإرهاب، قبل أن يعود عن قراره استجابة لمناشدة من رئيس المؤسسة في طرابلس.
- صراع في الجنوب
يدور صراع خفي في الجنوب الغربي على ثروات النفط والغاز بين قبائل رئيسية تتمركز في الجنوب. ومنذ سقوط نظام القذافي نشبت حروب مستعرة على النفوذ في تلك المنطقة المنسية. ويشعر غالبية السكان من هذه القبائل، بالغبن من سطوة إقليمي برقة وطرابلس في الشمال، واستحواذ هذين الإقليمين على غالبية عوائد الثروة النفطية.
ويغرق الجنوب في أزمات نقص الوقود والكهرباء، وغياب الخدمات، رغم أنه يضع تحت أقدامه بحيرة من البترول والغاز تعرف باسم «حوض مرزق»، نسبة إلى إحدى البلدات التي تحمل الاسم نفسه. وتخرج من هذا الحوض العملاق أنابيب للتصدير إلى أوروبا، عبر موانئ في مصراتة والزاوية، على ساحل البحر قرب طرابلس. ويبلغ طول الأنابيب في بعض المناطق نحو 800 كيلومتر. واستضاف متنافسون أوروبيون على التواجد في الجنوب الليبي الغني قيادات محلية من الجنوب في الشهور الماضية، لبحث تنمية المنطقة.
كما تدخلت دول إقليمية عدة، من أجل ضمان سلامة الجنوب، أو على الأقل منع الآخرين من الوصول إلى ثروات فزان وعاصمته التاريخية مدينة سبها. وبعد أن ظل مسلحون من قبلتي الطوارق والتبو يتبادلون الكر والفر في هجمات دامية فوق حوض مرزق، من أجل حيازة أراضٍ وحقول نفط، اشتعلت حرب مماثلة بين قبيلتي أولاد سليمان، من جانب، وكل من القذاذفة والمقارحة، من جانب آخر، قرب مدينة سبها، ثم تفجرت الأوضاع أخيراً للأسباب نفسها بين قبيلتي أولاد سليمان والتبو.
ولا توجد في الجنوب قوات ذات شأن كبير، سواء كانت تابعة للمجلس الرئاسي في طرابلس، أو للجيش في بنغازي. وكثيراً ما تؤدي اشتباكات المسلحين جنوباً في إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة «القوة القاهرة»، أي تعليق التصدير للخارج. وتمر خطوط الأنابيب من حوض مرزق في اتجاه الشمال عبر مناطق نفوذ قبلية أخرى بينها الزنتان والزاوية.
ويقول مسؤول أمني، إن بعض الدول الأوروبية تتدخل لتأمين تدفق النفط والغاز إليها عن طريق أموال لمسلحين. ويضيف، أن «هذا حدث، على سبيل المثال، على خط أنابيب الرياينة، المجاور للزنتان. كان فتح صمام الخط مقابل أموال لقادة مجاميع مسلحة. أعتقد أن مثل هذا الأمر هو ما يشجع على استمرار طمع حاملي السلاح لأنهم يتربحون من الفوضى».
- عين على غات
وأشهر حقلين في «حوض مرزق» هما حقل شرارة الذي ينتج أقل قليلاً من نصف مليون برميل يومياً، وحقل الفيل وينتج نحو 125 ألف برميل يومياً. واكتشفت الحقول في «حوض مرزق»، وشاركت في استغلالها بحصص مختلفة النسب، ولأوقات متفرقة، شركات غربية وآسيوية منذ عقدي الثمانينات والتسعينات، من بريطانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا، ورومانيا، والنمسا، وكوريا. وفي الوقت الراهن، تتنافس أطراف غربية، على رأسها فرنسا، وإيطاليا، وبريطانيا، للهيمنة على هذا المخزون الضخم من الطاقة.
وعلى سبيل المثال، دار جدل لافت في أحد أروقة المجلس الرئاسي في العاصمة، حول السبب الذي يجعل مسؤولين إيطاليين يطلبون إقامة مخيمات للهجرة غير الشرعية في بلدة غات التي تقع في منطقة «حوض مرزق»، وبالقرب من حقل الفيل الذي يعتقد أنه يحتوي في باطنه على مخزون ضخم من النفط والغاز.
ودار النقاش عقب دخول عضو في المجلس الرئاسي على خط مباحثات إيطالية - ليبية لإقامة مخيمات لاجئين في غات. ورد عليه مسؤول في مؤسسة النفط بأن الإيطاليين لديهم رغبة في التواجد في غات من أجل النفط، وليس من أجل اللاجئين؛ لأن «المنطقة التي وضع الإيطاليون أعينهم عليها، بعيدة عن طرق الهجرة الآتية من وسط أفريقيا، وهي في الحقيقة منطقة تجري فيها استكشافات بواسطة المؤسسة الليبية للنفط، منذ ما قبل 2011».
- ملابسات حوض غدامس
أما حوض غدامس للنفط والغاز، فيقع في الشمال الغربي من ليبيا، وبالقرب من الحدود مع الجزائر. ووفقاً لتقارير أمنية، فقد حاولت شركات دولية العمل من داخل الجزائر للاستثمار في استكشافات الغاز قرب الحدود مع ليبيا، وهو أمر ينظر إليه الليبيون، وبعض شركائهم الأوروبيين، باعتباره يمكن أن يؤثر على مخزون الغاز المتعاقد عليه سلفاً داخل الحقل الليبي، في حوض غدامس، والمعروف باسم حقل الوفاء، الذي يقابله من الجانب الغربي للحدود، حقل الرار الجزائري.
وتنتشر أعمال تهريب النفط، قبل دخوله لموانئ التصدير، في غرب طرابلس. وينشط في تلك المنطقة مشترون من السوق السوداء في البحر المتوسط. وتذهب العائدات إلى جماعات مسلحة تنتشر في تلك المنطقة من دون ضابط ولا رابط.
وبالتزامن مع هذا الواقع المرير، يتحدث مسؤولون في طرابلس عن أن هناك أطرافاً قامت بتوسعات كبيرة في حقل الرار المجاور لحقل الوفاء، من أجل زيادة الصادرات الجزائرية، خصوصاً إلى أوروبا. ويقول أحد هؤلاء المسؤولين، إن الجانب الليبي يقوم حالياً بتقييم الوضع على الحدود، وإعادة النظر في مشروع اتفاقية سابقة بخصوص حقلي الوفاء والرار.
وفي خضم الصراع بين الليبيين، يسود اعتقاد بأن معظم المتداخلين الدوليين والإقليميين في الملف الليبي «لديهم رغبة»، وهم يتدافعون بالأكتاف، بالحصول على نصيب من الكعكة، وعلى رأسها موارد النفط والغاز، والأهم إعادة إعمار ما خربه الاحتراب الأهلي، سواء في الغرب أو الشرق أو الجنوب، حيث تقدر كلفة الاستثمارات في الطاقة، وكلفة الإعمار المتوقعة، بمئات المليارات من الدولارات.


مقالات ذات صلة

النفط يوسع مكاسبه مع تأكيد ترمب عدم نيته إقالة باول... والعقوبات على إيران

الاقتصاد عامل يقوم بصيانة المرافق على منصة حفر نفطية تابعة لشركة الصين الوطنية للنفط البحري (رويترز)

النفط يوسع مكاسبه مع تأكيد ترمب عدم نيته إقالة باول... والعقوبات على إيران

ارتفعت أسعار النفط يوم الأربعاء؛ حيث قيَّم المستثمرون جولة جديدة من العقوبات الأميركية على إيران، وانخفاض مخزونات الخام الأميركية.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)
الاقتصاد إحدى محطات «الدريس» في السعودية (الشركة)

أرباح «الدريس» ترتفع 29.3 % في الربع الأول بدعم من تحسن الإيرادات الاستثمارية

ارتفعت أرباح «الدريس» 29.3 في المائة إلى 100.1 مليون ريال (26.7 مليون دولار) خلال الربع الأول، بدعم من نمو المبيعات والإيرادات الاستثمارية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد مرافق تخزين النفط التابعة لشركة الصين الوطنية للنفط البحري (CNOOC) في تشانجيانغ (رويترز)

النفط يرتفع بفضل تغطية مراكز البيع على المكشوف

ارتفعت أسعار النفط يوم الثلاثاء، حيث استغل المستثمرون خسائر اليوم السابق لتغطية مراكز البيع على المكشوف رغم استمرار المخاوف بشأن الرياح الاقتصادية المعاكسة.

الاقتصاد شعار شركة «شيفرون» على شاشة في قاعة بورصة نيويورك (رويترز)

«شيفرون» تعلن عن أول إنتاج للنفط في مشروع «باليمور» في خليج المكسيك

أعلنت شركة «شيفرون»، عملاق النفط الأميركي، يوم الاثنين، أنها بدأت إنتاج النفط والغاز من مشروع في خليج المكسيك بالولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (هيوستن)
الاقتصاد جانب من توقيع «برنامج استدامة الطلب على البترول» مذكرة تفاهم مع شركة «هيونداي موتور»... (واس)

«استدامة الطلب على البترول» السعودي يوقع مذكرة تفاهم مع «هيونداي»

وقّع «برنامج استدامة الطلب على البترول»، التابعُ لوزارة الطاقة السعودية، مذكرة تفاهم مع شركة «هيونداي» بالعاصمة الكورية بهدف تسريع وتيرة الابتكار في قطاع النقل.

«الشرق الأوسط» (سيول)

رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

رياك مشار
رياك مشار
TT
20

رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

رياك مشار
رياك مشار

مجدداً يبرز اسم رياك مشار، السياسي المخضرم والمثير للجدل، وسط مخاوف من أن تدخل دولة جنوب السودان نفق حرب أهلية أخرى، قبل أن تتعافى من تداعيات سابقتها، التي انتهت عام 2018. مشار، الذي يشغل منصب نائب الرئيس، وُضع أخيراً تحت الإقامة الجبرية، ما يمثل أحدث منعطف في علاقته المضطربة مع رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت. وما يجدر ذكره أن مشار لعب دوراً بارزاً في تاريخ السودان منذ منتصف الثمانينات، ولطالما كان نشاطه في حروب جنوب السودان من أجل الاستقلال عن السودان مثيراً للجدل، وحمل الرجل ألقاباً عدة، بدت متعارضة في بعض الأحيان، من «زعيم تمرد» إلى «أمير حرب» إلى «رجل سلام».

اشتهر رياك مشار بين أقرانه بالمكر السياسي، لا سيما، لقدرته الفائقة على تغيير ولاءاته والتنقّل بين معسكر وآخر، طوال عقود من الصراع بين شمال السودان وجنوبه، وذلك في إطار سعيه المحموم لتعزيز مكانته ومكانة «النوير»، قبيلته أو جماعته العرقية، في المياه السياسية العكرة في السودان أولاً، ثم في جنوب السودان في وقت لاحق.

كان مشار ومنافسه الأشهر الرئيس سلفا كير ميارديت، اللذان تجاوزا السبعين من عمرهما، قد أشعلا صراعاً قبلياً عام 2013 أسفر عن مقتل أكثر من 400 ألف شخص، وإجبار نحو ثلث السكان على النزوح. ومع أن الحرب انتهت باتفاق سلام عام 2018، يبدو أن تنافس كير، المنتمي إلى «الدينكا» كبرى قبائل جنوب السودان، ومشار، المنتمي إلى «النوير» - الثانية من حيث الحجم السكاني - لم ينتهِ، لتعود الخلافات إلى الظهور منذرة بتجدد الصراع القبلي العرقي.

المواجهة الأحدث

الخلاف الأخير اندلع عقب اشتباكات في ولاية أعالي النيل بين قوات جنوب السودان و«الجيش الأبيض»، الذي هو ميليشيا غالبية مقاتليها من قبيلة «النوير» قاتلت إلى جانب قوات مشار في الحرب الأهلية.

ولقد اتهمت حكومة سلفا كير، في مارس (آذار) الماضي، حزب «الحركة الشعبية لتحرير السودان» المعارض الذي يتزعمه مشار، بالتعاون مع «الجيش الأبيض»، وهو أمر نفاه الحزب، وادعى في بيان معلناً وضع زعيمه تحت الإقامة الجبرية، «إننا ندين بشدّة الإجراءات غير الدستورية التي اتّخذها اليوم وزير الدفاع ورئيس الأمن الوطني باقتحامهما، برفقة أكثر من 20 مركبة مدجّجة بالسلاح، مقرّ إقامة النائب الأول للرئيس. لقد جُرِّد حرّاسه الشخصيون من أسلحتهم، وصدرت بحقّه مذكرة توقيف بتهم غامضة». وفي المقابل، سارعت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان «يونميس» إلى التحذير من أنّ هذه الخطوة تضع البلاد «على شفا حرب»، داعية كل الأطراف إلى «ضبط النفس».

المهندس ابن «النوير»

وُلد رياك مشار تيني دورغون عام 1953 في مدينة لير بولاية «الوحدة» الغنية بالنفط في جنوب السودان. وكما سبقت الإشارة، ينحدر مشار من قبيلة النوير، التي تعيش من الرعي وتربية الأبقار، وتعد ثاني أكبر قبيلة في جنوب السودان بعد «الدينكا»، التي ينحدر منها رئيس جنوب السودان سلفا كير، وعدد من أبرز الزعماء الجنوبيين... على رأسهم الزعيم التاريخي جون قرنق.

لم يحترف الطفل مشار كأقرانه مهنة الرعي، كما لم توسم جبهته بالندوب الـ6 التقليدية التي تميز جبهات رجال «النوير»، في طقس احتفالي يشير إلى الانتقال من مرحلة الطفولة إلى البلوغ. بل أرسلته أسرته إلى المدرسة، وواصل تعليمه ليحصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة الخرطوم بالعاصمة السودانية، قبل أن يسافر إلى بريطانيا وينال درجة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية من جامعة برادفورد عام 1984.

تزوّج مشار عام 1991 بعاملة الإغاثة البريطانية إيما ماكون، التي توفيت في حادث سير في العاصمة الكينية نيروبي عام 1993، وهي لم تتجاوز بعد الـ29 سنة. وصارت حياة إيما ومشار في غابات جنوب السودان موضوعاً لمقالات صحافية وكتاب حمل عنوان «حرب إيما». وبعد وفاة إيما تزوّج مشار من أنجلينا تيني، وهي سياسية شغلت سابقاً منصب وزير الدفاع في جنوب السودان، وعيّنت عام 2023 وزيرة للداخلية.

على الرغم من دراسته الجامعية، لم يستقر مشار في بريطانيا، مفضّلاً العودة إلى «الغاب»، وهذا تعبير يستخدم في جنوب السودان لوصف أولئك الذين يتجهون إلى القتال والعمل المسلح.

إذ إنه بعد اندلاع الحرب الأهلية بين السودان وجنوبه عام 1983، عاد مشار إلى بلاده ليلتحق بالعمل المسلح، وانضم عام 1984 إلى ميليشيا «الجيش الشعبي»، الجناح العسكري لـ«الحركة الشعبية لتحرير السودان»، التي قادت التمرد الانفصالي ضد سلطات الخرطوم.

دعم وانشقاق

في بداية الأمر نشط مشار وقاتل تحت قيادة مؤسس «الحركة الشعبية» جون قرنق. وفي حوار سابق مع «الشرق الأوسط» قبل أكثر من عقد من الزمان، قال مشار إن «أول مهمة كلفه بها قرنق كانت السفر إلى ليبيا للقاء رئيسها الراحل معمر القذافي عام 1984». وأوضح أن المهمة، يومذاك، كانت تتعلق بجلب السلاح للثوار الجدد، نظراً لأن القذافي كان يخوض نزاعاً ضد الرئيس السوداني (في حينه) جعفر نميري.

في تلك المرحلة بدأت رحلة مشار مع التمرّد المسلح. وفي هذه الرحلة نال تدريباً عسكرياً ومُنح رتبة رائد، وعمل في منطقة غرب أعالي النيل للمساعدة في تجنيد أبناء قبيلته وإلحاقهم بـ«الثورة».

في الواقع، تسببت رؤية قرنق الوحدوية للسودان في انشقاقات داخل ميليشيا «الجيش الشعبي»، لا سيما بين قياداته من قبيلة «النوير»، عام 1984، غير أن مشار آثر البقاء في صفوف الحركة مستكملاً عمله في دعم العمل العسكري. وهو ما فسّره عدد من قيادات الحركة آنذاك بـ«انحناءة في مواجهة العاصفة»، لافتين إلى أن مشار «المتعلم في أرقى الجامعات لم يرغب في الانشقاق والعمل تحت قيادة صمويل قاي توت غير المتعلم».

وبالفعل، لم تطل فترة سكون مشار، إذ بعد نحو 7 سنوات - تحديداً عام 1991 - برزت ميوله الانفصالية القوية، وقاد تمرّداً ضد قيادة قرنق وقادة آخرين من بينهم سلفا كير ميارديت (وكل من قرنق وسلفا كير من «الدينكا»).تمرّد مشار على قرنق

قاد مشار في حينه ما عُرف بـ«انقلاب الناصر». ومع انقسام جيش المتمردين على أسس قبلية، اتُّهم مشار بارتكاب «مذبحة وحشية» في بلدة بور، التي تضم غالبية من «الدينكا» عام 1991، فيما وُصفت بأنها من أسوأ فظائع الحرب، وهكذا اشتعلت دوامة من الانتقام والعنف بين «الدينكا» و«النوير».

بل لقد قيل يومذاك إن الذين قُتلوا في ذلك النزاع القبلي فاق عدد الذين قُتلوا في الحرب بين المتمردين الجنوبيين والحكومة المركزية في الخرطوم.

بعدها، شكّل مشار جماعة منشقة عرفت باسم «حركة تحرير جنوب السودان»، انضم إليها أفراد من قبيلة «الشِّلُك» (ثالث كبرى القبائل الجنوبية)، وعدد من مؤسسي «الحركة الشعبية» من بينهم سلفا كير. ومن ثم، تزعّم فصيله الدعوة «إلى تقرير المصير» في جنوب السودان بهدف تقويض شعبية قرنق بين الجنوبيين، ما دفع قرنق لوضع حق «تقرير المصير» على أجندة حركته. وقال قرنق عن مشار، آنذاك، «إن التاريخ سيظل يذكر رياك مشار على أنه الشخص الذي طعن الحركة في ظهرها حينما كنا على وشك الانتصار».

تنقل... وتهم خيانة

نعم، أجاد مشار التنقّل بين معسكرات مختلفة، وإن اتهمه بعض رفاقه بالخيانة. وفي عام 1997، أبرم مشار معاهدة مع حكومة السودان، وجرى تنصيبه مساعداً للرئيس السوداني عمر البشير ومسؤولاً عن إقليم جنوب السودان، على أن يجري الاستفتاء بعد 4 سنوات من تنفيذ الاتفاقية. وتركّزت مهمة مشار - بالنسبة للخرطوم - في حماية آبار النفط بولاية «الوحدة» ومناطق غرب النيل.

بعد ذلك، أصبح رئيساً لـ«قوات دفاع جنوب السودان» المدعومة من الحكومة، لكنه سرعان ما تركها في عام 2000 مشكِّلاً ميليشيا جديدة باسم «قوات دفاع شعب السودان/الجبهة الديمقراطية».

بيد أن التحالف مع الخرطوم لم يدم طويلاً. وحقاً، عام 2002 عاد مشار مرة أخرى إلى صفوف المتمردين والتحق بـ«الجيش الشعبي» بوصفه قائداً بارزاً، بعد مفاوضات النائب الأول لقرنق في «الحركة الشعبية» سلفا كير، وبالتالي، حصل مشار على منصب النائب الثاني لرئيس «الحركة الشعبية».

هذه الوساطة تكرّرت ولكن بشكل معاكس، عقب خلاف بين قرنق وسلفا كير استطاع مشار أن ينهيه، ويعقد مصالحة بين الرجلين في نهاية عام 2004. وبعد مقتل جون قرنق بحادث تحطم هليكوبتر أوغندية عام 2005، بعد 21 يوماً من تنصيبه نائباً أول للبشير، أصبح مشار وسلفا كير حاكمين للجنوب. وقادا معاً الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام بين الخرطوم وجوبا من 2005 حتى استقلال جنوب السودان يوم 9 يوليو (تموز) 2011، حين تولى سلفا كير الرئاسة، واحتفظ مشار بمنصب نائب الرئيس.

طموح الرئاسة

ولكن مرة أخرى، تظهر نزعات مشار الانشقاقية وطموحه للزعامة والسلطة، عقب إعلانه عام 2013 عن رغبته في الترشح لانتخابات الرئاسة عام 2015، الأمر الذي دفع سلفا كير لإقالته من منصبه (نائب الرئيس) في يوليو 2013. غير أن احتفاظ مشار بمنصب النائب الأول لرئيس الحزب، أفسح المجال أمامه للتحرك. وهكذا، عقد تحالفاً مع أرملة قرنق، ريبيكا قرنق، لتصبح ضمن المجموعة المناوئة لسلفا كير في التنافس على قيادة الحزب والدولة.

لقد كانت إقالة مشار من العوامل الرئيسية التي فجّرت الحرب الأهلية مجدداً في ديسمبر (كانون الأول) 2013؛ إذ تحدّى مشار سلفا كير علناً، واصفاً إياه بـ«الديكتاتور»، ليرد الأخير بخطاب مطول ذكر فيه فترة الأحداث الدموية في التسعينات، وهدد من يُظهرون «انعدام انضباط».

ولم تمضِ أيام قليلة حتى اندلع إطلاق نار في جوبا، وتحدثت الحكومة عن محاولة انقلاب لجنود من قبيلة «النوير»، وهو ما أنكره مشار مدعياً أن «الدينكا كانوا يسعون لمذبحة ضد النوير». وبينما لم تجد لجنة تحقيق تابعة للاتحاد الأفريقي أي أساس لادعاء الانقلاب، اندلعت حرب أهلية تعيد للأذهان مشاهد التسعينات. وفشلت محاولات عدة لعقد اتفاقيات سلام من بينها اتفاق عام 2015، الذي أوقف الأعمال العدائية لفترة وجيزة، لكنه انهار بعد عودة مشار إلى جوبا في العام التالي.

عام 2016، عاد مشار إلى «حكومة الوحدة الوطنية» نائباً للرئيس بموجب اتفاق سلام انهار بعد ثلاثة أشهر من أدائه اليمين الدستورية. وتفاقمت الحرب إلى أن نجح اتفاق سلام عُقد عام 2018 في وقفها. وعقب انتهاء الحرب تبنى مشار نبرة تصالحية. لكن تلك النبرة لم تُنهِ التوتر والعداء الشخصي. بدليل ما حدث أخيراً، ووضع مشار تحت الإقامة الجبرية. أجاد مشار عبر حياته السياسية والعسكرية التنقّل

بين معسكرات مختلفة وإن اتهمه بعض رفاقه بالخيانة