رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

برع في تغيير ولاءاته.. وخاصم قرنق وسلفا كير وحاربهما

رياك مشار
رياك مشار
TT

رياك مشار... سياسي مخضرم لعب دوراً حيوياً في تاريخ جنوب السودان

رياك مشار
رياك مشار

مجدداً يبرز اسم رياك مشار، السياسي المخضرم والمثير للجدل، وسط مخاوف من أن تدخل دولة جنوب السودان نفق حرب أهلية أخرى، قبل أن تتعافى من تداعيات سابقتها، التي انتهت عام 2018. مشار، الذي يشغل منصب نائب الرئيس، وُضع أخيراً تحت الإقامة الجبرية، ما يمثل أحدث منعطف في علاقته المضطربة مع رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت. وما يجدر ذكره أن مشار لعب دوراً بارزاً في تاريخ السودان منذ منتصف الثمانينات، ولطالما كان نشاطه في حروب جنوب السودان من أجل الاستقلال عن السودان مثيراً للجدل، وحمل الرجل ألقاباً عدة، بدت متعارضة في بعض الأحيان، من «زعيم تمرد» إلى «أمير حرب» إلى «رجل سلام».

اشتهر رياك مشار بين أقرانه بالمكر السياسي، لا سيما، لقدرته الفائقة على تغيير ولاءاته والتنقّل بين معسكر وآخر، طوال عقود من الصراع بين شمال السودان وجنوبه، وذلك في إطار سعيه المحموم لتعزيز مكانته ومكانة «النوير»، قبيلته أو جماعته العرقية، في المياه السياسية العكرة في السودان أولاً، ثم في جنوب السودان في وقت لاحق.

كان مشار ومنافسه الأشهر الرئيس سلفا كير ميارديت، اللذان تجاوزا السبعين من عمرهما، قد أشعلا صراعاً قبلياً عام 2013 أسفر عن مقتل أكثر من 400 ألف شخص، وإجبار نحو ثلث السكان على النزوح. ومع أن الحرب انتهت باتفاق سلام عام 2018، يبدو أن تنافس كير، المنتمي إلى «الدينكا» كبرى قبائل جنوب السودان، ومشار، المنتمي إلى «النوير» - الثانية من حيث الحجم السكاني - لم ينتهِ، لتعود الخلافات إلى الظهور منذرة بتجدد الصراع القبلي العرقي.

المواجهة الأحدث

الخلاف الأخير اندلع عقب اشتباكات في ولاية أعالي النيل بين قوات جنوب السودان و«الجيش الأبيض»، الذي هو ميليشيا غالبية مقاتليها من قبيلة «النوير» قاتلت إلى جانب قوات مشار في الحرب الأهلية.

ولقد اتهمت حكومة سلفا كير، في مارس (آذار) الماضي، حزب «الحركة الشعبية لتحرير السودان» المعارض الذي يتزعمه مشار، بالتعاون مع «الجيش الأبيض»، وهو أمر نفاه الحزب، وادعى في بيان معلناً وضع زعيمه تحت الإقامة الجبرية، «إننا ندين بشدّة الإجراءات غير الدستورية التي اتّخذها اليوم وزير الدفاع ورئيس الأمن الوطني باقتحامهما، برفقة أكثر من 20 مركبة مدجّجة بالسلاح، مقرّ إقامة النائب الأول للرئيس. لقد جُرِّد حرّاسه الشخصيون من أسلحتهم، وصدرت بحقّه مذكرة توقيف بتهم غامضة». وفي المقابل، سارعت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان «يونميس» إلى التحذير من أنّ هذه الخطوة تضع البلاد «على شفا حرب»، داعية كل الأطراف إلى «ضبط النفس».

المهندس ابن «النوير»

وُلد رياك مشار تيني دورغون عام 1953 في مدينة لير بولاية «الوحدة» الغنية بالنفط في جنوب السودان. وكما سبقت الإشارة، ينحدر مشار من قبيلة النوير، التي تعيش من الرعي وتربية الأبقار، وتعد ثاني أكبر قبيلة في جنوب السودان بعد «الدينكا»، التي ينحدر منها رئيس جنوب السودان سلفا كير، وعدد من أبرز الزعماء الجنوبيين... على رأسهم الزعيم التاريخي جون قرنق.

لم يحترف الطفل مشار كأقرانه مهنة الرعي، كما لم توسم جبهته بالندوب الـ6 التقليدية التي تميز جبهات رجال «النوير»، في طقس احتفالي يشير إلى الانتقال من مرحلة الطفولة إلى البلوغ. بل أرسلته أسرته إلى المدرسة، وواصل تعليمه ليحصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة الخرطوم بالعاصمة السودانية، قبل أن يسافر إلى بريطانيا وينال درجة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية من جامعة برادفورد عام 1984.

تزوّج مشار عام 1991 بعاملة الإغاثة البريطانية إيما ماكون، التي توفيت في حادث سير في العاصمة الكينية نيروبي عام 1993، وهي لم تتجاوز بعد الـ29 سنة. وصارت حياة إيما ومشار في غابات جنوب السودان موضوعاً لمقالات صحافية وكتاب حمل عنوان «حرب إيما». وبعد وفاة إيما تزوّج مشار من أنجلينا تيني، وهي سياسية شغلت سابقاً منصب وزير الدفاع في جنوب السودان، وعيّنت عام 2023 وزيرة للداخلية.

على الرغم من دراسته الجامعية، لم يستقر مشار في بريطانيا، مفضّلاً العودة إلى «الغاب»، وهذا تعبير يستخدم في جنوب السودان لوصف أولئك الذين يتجهون إلى القتال والعمل المسلح.

إذ إنه بعد اندلاع الحرب الأهلية بين السودان وجنوبه عام 1983، عاد مشار إلى بلاده ليلتحق بالعمل المسلح، وانضم عام 1984 إلى ميليشيا «الجيش الشعبي»، الجناح العسكري لـ«الحركة الشعبية لتحرير السودان»، التي قادت التمرد الانفصالي ضد سلطات الخرطوم.

دعم وانشقاق

في بداية الأمر نشط مشار وقاتل تحت قيادة مؤسس «الحركة الشعبية» جون قرنق. وفي حوار سابق مع «الشرق الأوسط» قبل أكثر من عقد من الزمان، قال مشار إن «أول مهمة كلفه بها قرنق كانت السفر إلى ليبيا للقاء رئيسها الراحل معمر القذافي عام 1984». وأوضح أن المهمة، يومذاك، كانت تتعلق بجلب السلاح للثوار الجدد، نظراً لأن القذافي كان يخوض نزاعاً ضد الرئيس السوداني (في حينه) جعفر نميري.

في تلك المرحلة بدأت رحلة مشار مع التمرّد المسلح. وفي هذه الرحلة نال تدريباً عسكرياً ومُنح رتبة رائد، وعمل في منطقة غرب أعالي النيل للمساعدة في تجنيد أبناء قبيلته وإلحاقهم بـ«الثورة».

في الواقع، تسببت رؤية قرنق الوحدوية للسودان في انشقاقات داخل ميليشيا «الجيش الشعبي»، لا سيما بين قياداته من قبيلة «النوير»، عام 1984، غير أن مشار آثر البقاء في صفوف الحركة مستكملاً عمله في دعم العمل العسكري. وهو ما فسّره عدد من قيادات الحركة آنذاك بـ«انحناءة في مواجهة العاصفة»، لافتين إلى أن مشار «المتعلم في أرقى الجامعات لم يرغب في الانشقاق والعمل تحت قيادة صمويل قاي توت غير المتعلم».

وبالفعل، لم تطل فترة سكون مشار، إذ بعد نحو 7 سنوات - تحديداً عام 1991 - برزت ميوله الانفصالية القوية، وقاد تمرّداً ضد قيادة قرنق وقادة آخرين من بينهم سلفا كير ميارديت (وكل من قرنق وسلفا كير من «الدينكا»).تمرّد مشار على قرنق

قاد مشار في حينه ما عُرف بـ«انقلاب الناصر». ومع انقسام جيش المتمردين على أسس قبلية، اتُّهم مشار بارتكاب «مذبحة وحشية» في بلدة بور، التي تضم غالبية من «الدينكا» عام 1991، فيما وُصفت بأنها من أسوأ فظائع الحرب، وهكذا اشتعلت دوامة من الانتقام والعنف بين «الدينكا» و«النوير».

بل لقد قيل يومذاك إن الذين قُتلوا في ذلك النزاع القبلي فاق عدد الذين قُتلوا في الحرب بين المتمردين الجنوبيين والحكومة المركزية في الخرطوم.

بعدها، شكّل مشار جماعة منشقة عرفت باسم «حركة تحرير جنوب السودان»، انضم إليها أفراد من قبيلة «الشِّلُك» (ثالث كبرى القبائل الجنوبية)، وعدد من مؤسسي «الحركة الشعبية» من بينهم سلفا كير. ومن ثم، تزعّم فصيله الدعوة «إلى تقرير المصير» في جنوب السودان بهدف تقويض شعبية قرنق بين الجنوبيين، ما دفع قرنق لوضع حق «تقرير المصير» على أجندة حركته. وقال قرنق عن مشار، آنذاك، «إن التاريخ سيظل يذكر رياك مشار على أنه الشخص الذي طعن الحركة في ظهرها حينما كنا على وشك الانتصار».

تنقل... وتهم خيانة

نعم، أجاد مشار التنقّل بين معسكرات مختلفة، وإن اتهمه بعض رفاقه بالخيانة. وفي عام 1997، أبرم مشار معاهدة مع حكومة السودان، وجرى تنصيبه مساعداً للرئيس السوداني عمر البشير ومسؤولاً عن إقليم جنوب السودان، على أن يجري الاستفتاء بعد 4 سنوات من تنفيذ الاتفاقية. وتركّزت مهمة مشار - بالنسبة للخرطوم - في حماية آبار النفط بولاية «الوحدة» ومناطق غرب النيل.

بعد ذلك، أصبح رئيساً لـ«قوات دفاع جنوب السودان» المدعومة من الحكومة، لكنه سرعان ما تركها في عام 2000 مشكِّلاً ميليشيا جديدة باسم «قوات دفاع شعب السودان/الجبهة الديمقراطية».

بيد أن التحالف مع الخرطوم لم يدم طويلاً. وحقاً، عام 2002 عاد مشار مرة أخرى إلى صفوف المتمردين والتحق بـ«الجيش الشعبي» بوصفه قائداً بارزاً، بعد مفاوضات النائب الأول لقرنق في «الحركة الشعبية» سلفا كير، وبالتالي، حصل مشار على منصب النائب الثاني لرئيس «الحركة الشعبية».

هذه الوساطة تكرّرت ولكن بشكل معاكس، عقب خلاف بين قرنق وسلفا كير استطاع مشار أن ينهيه، ويعقد مصالحة بين الرجلين في نهاية عام 2004. وبعد مقتل جون قرنق بحادث تحطم هليكوبتر أوغندية عام 2005، بعد 21 يوماً من تنصيبه نائباً أول للبشير، أصبح مشار وسلفا كير حاكمين للجنوب. وقادا معاً الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام بين الخرطوم وجوبا من 2005 حتى استقلال جنوب السودان يوم 9 يوليو (تموز) 2011، حين تولى سلفا كير الرئاسة، واحتفظ مشار بمنصب نائب الرئيس.

طموح الرئاسة

ولكن مرة أخرى، تظهر نزعات مشار الانشقاقية وطموحه للزعامة والسلطة، عقب إعلانه عام 2013 عن رغبته في الترشح لانتخابات الرئاسة عام 2015، الأمر الذي دفع سلفا كير لإقالته من منصبه (نائب الرئيس) في يوليو 2013. غير أن احتفاظ مشار بمنصب النائب الأول لرئيس الحزب، أفسح المجال أمامه للتحرك. وهكذا، عقد تحالفاً مع أرملة قرنق، ريبيكا قرنق، لتصبح ضمن المجموعة المناوئة لسلفا كير في التنافس على قيادة الحزب والدولة.

لقد كانت إقالة مشار من العوامل الرئيسية التي فجّرت الحرب الأهلية مجدداً في ديسمبر (كانون الأول) 2013؛ إذ تحدّى مشار سلفا كير علناً، واصفاً إياه بـ«الديكتاتور»، ليرد الأخير بخطاب مطول ذكر فيه فترة الأحداث الدموية في التسعينات، وهدد من يُظهرون «انعدام انضباط».

ولم تمضِ أيام قليلة حتى اندلع إطلاق نار في جوبا، وتحدثت الحكومة عن محاولة انقلاب لجنود من قبيلة «النوير»، وهو ما أنكره مشار مدعياً أن «الدينكا كانوا يسعون لمذبحة ضد النوير». وبينما لم تجد لجنة تحقيق تابعة للاتحاد الأفريقي أي أساس لادعاء الانقلاب، اندلعت حرب أهلية تعيد للأذهان مشاهد التسعينات. وفشلت محاولات عدة لعقد اتفاقيات سلام من بينها اتفاق عام 2015، الذي أوقف الأعمال العدائية لفترة وجيزة، لكنه انهار بعد عودة مشار إلى جوبا في العام التالي.

عام 2016، عاد مشار إلى «حكومة الوحدة الوطنية» نائباً للرئيس بموجب اتفاق سلام انهار بعد ثلاثة أشهر من أدائه اليمين الدستورية. وتفاقمت الحرب إلى أن نجح اتفاق سلام عُقد عام 2018 في وقفها. وعقب انتهاء الحرب تبنى مشار نبرة تصالحية. لكن تلك النبرة لم تُنهِ التوتر والعداء الشخصي. بدليل ما حدث أخيراً، ووضع مشار تحت الإقامة الجبرية. أجاد مشار عبر حياته السياسية والعسكرية التنقّل

بين معسكرات مختلفة وإن اتهمه بعض رفاقه بالخيانة


مقالات ذات صلة

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حصاد الأسبوع حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

تعكس تعليقات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عن سياسات الرئيس دونالد ترمب ومواقفه من الحرب الروسية – الأوكرانية، الجدل الذي تنخرط فيه الطبقة السياسية الأميركية

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع انتُخب فاديفول نائباً لرئيس كتلة حزبه داخل «البوندستاغ» مشرفاً على السياسات الخارجية والدفاعية للكتلة. يقلق فاديفول احتمال انسحاب واشنطن من «أمن أوروبا» و«التباعد المتزايد في القيَم» بين أوروبا والولايات المتحدة

يوهان فاديفول... وزير خارجية ألمانيا الجديد سياسي محنك وله اهتمامات عسكرية

بعد مرور 60 سنة على تولي آخر قيادي ينتمي لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ في ألمانيا منصب وزير الخارجية، تعود هذه الوزارة إلى الحزب مع تعيين يوهان

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع براندت (غيتي)

ألمع وزراء الخارجية الألمان بعد الحرب العالمية الثانية

تعاقب على منصب وزير الخارجية في ألمانيا العديد من الشخصيات اللامعة منذ إعادة توحيد الألمانيتين الغربية والشرقية بعد انتهاء «الحرب الباردة» وسقوط «جدار برلين».

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع أحد المقترعين يدلي بصوتته خلال الجولة الأولى من الانتخابات في جبل لبنان (آ ف ب)

الانتخابات البلدية في لبنان... اختبار للنفوذ السياسي بغطاء محلي

على الرغم من الطابع الإنمائي والخدماتي المحلي للانتخابات البلدية والاختيارية في لبنان، فإنها شكلت «ساحةً سياسية» بامتياز تتواجه فيها القوى والأحزاب السياسية على

«الشرق الأوسط» (بيروت)
حصاد الأسبوع تظاهرة لناشطي الحركة الإسلامية ومناصريها (رويترز)

الأردن... جدلية العلاقة بين «الإخوان» والسلطة

بعد سنوات وعقود من «الصمت الرسمي» على تجاوزات «جماعة الإخوان المسلمين»، نفد صبر السلطات الأردنية أمام «اختراق» مهمٍّ نفذه أتباع ومنتمون للجماعة تستهدف «زعزعة»

محمد خير الرواشدة (عمّان)

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
TT

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)

تعكس تعليقات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عن سياسات الرئيس دونالد ترمب ومواقفه من الحرب الروسية – الأوكرانية، الجدل الذي تنخرط فيه الطبقة السياسية الأميركية ومراكز الأبحاث، حول تداعيات التغيير الذي أحدثه ترمب في علاقات واشنطن بكل من موسكو وكييف وبروكسل. بايدن اعتبر ضغوط إدارة ترمب على أوكرانيا للتنازل عن أراضٍ لروسيا «استرضاءً عصرياً»، في تلميح إلى سياسة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق نيفيل تشامبرلين، الذي فشل في أواخر الثلاثينات في استرضاء مطالب الزعيم النازي أدولف هتلر لتجنب حرب شاملة في أوروبا. ومع ذلك، حُمّل الرئيس الأميركي السابق والعديد من القادة الأوروبيين، مسؤولية التقصير في دعم كييف، ومحاولة استرضاء روسيا، رغم المعرفة المسبقة بمواقفه خلال السنوات الثلاث من الحرب، التي كانت تشير بشكل واضح إلى أنه سيقوم، ليس فقط بالتقرب من الرئيس الروسي، بل وزيادة الشقاق مع الحلفاء الأطلسيين في «ناتو».

بدلاً من السماح لها بتحقيق النصر، يقول محللون، إن أوكرانيا تلقت معدات من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وبولندا، كانت كافية فقط لاستنزاف روسيا. ولخّص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يونيو (حزيران) 2022 القيود الاستراتيجية على أوكرانيا؛ ما أجبرها في نهاية المطاف على القتال بيد واحدة خلف ظهرها، قائلاً: «علينا ألّا نُذلّ روسيا لكي نتمكن في اليوم الذي يتوقف فيه القتال من إيجاد مخرج عبر القنوات الدبلوماسية». وحقاً، خشي العديد من القادة والجنرالات من أنه في حال هزيمة روسيا، ستتبعها فوضى داخل الاتحاد الروسي، وسيفقد الرئيس فلاديمير بوتين سلطته. وكان هؤلاء يخشون ما يسميه العسكريون «نجاحاً كارثياً»، بحسب صحيفة «الإندبندنت». كذلك أعرب كبار المسؤولين في الحكومة البريطانية عن آرائهم بشأن أخطار انهيار الاتحاد الروسي، بالقول إنهم كانوا يخشون انتصاراً أوكرانياً ساحقاً لأن الاتحاد الروسي «إمبراطورية متماسكة بالخوف».

تحوّل التركيز

في الآونة الأخيرة، ورغم تغيير ميزان القوة لمصلحة موسكو، تحدثت معلومات استخباراتية جديدة راجعها مسؤولون أميركيون وغربيون، عن أن بوتين ربما أعاد ترتيب أهدافه المباشرة في حرب أوكرانيا، مع التركيز على ترسيخ السيطرة على الأراضي التي استولت عليها القوات الروسية وتعزيز الاقتصاد الروسي المتعثر. وفي حين يتناقض هذا التحول مع تقييمات سابقة أشارت إلى أن بوتين يعتقد أن الحرب تسير لصالحه؛ ما يدعم قتالاً مطولاً ضد أوكرانيا الضعيفة، بهدف الاستيلاء على البلاد بأكملها في النهاية أثار هذا التحوّل في نهج بوتين إلى احتمال أن يكون الآن أكثر ميلاً إلى التفكير في فكرة اتفاق سلام. ووفق مصادر أميركية، لعب هذا التحول دوراً في اعتقاد الرئيس ترمب بأن بوتين ربما بات أكثر استعداداً للتفاوض مما كان عليه في الماضي.

مع ذلك، لا يزال كبار المسؤولين الأميركيين حذرين بشأن نيات بوتين الحقيقية. ومع أنهم يشيرون إلى أن تأكيدات بوتين المستمرة بأنه يسعى للسلام، و«عروضه» المتقطعة لوقف إطلاق نار جزئي - رغم المقترحات الأميركية المواتية له التي تدعو كييف إلى التنازل عن معظم الأراضي التي استولت عليها روسيا – يعتقد هؤلاء أنه حتى لو قبل بوتين مثل هذا الاتفاق، فقد يكون قبوله إجراءً مؤقتاً، للعودة إلى التصعيد بمجرد استئناف الحرب.

أيضاً، بعدما وضعت الضغوط المستمرة من إدارة ترمب، وتهديدات نائبه جيه دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو بوقف «الوساطة» الأميركية، وفرض عقوبات إضافية - ناهيك من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها روسيا - بوتين في موقف صعب محتمل، يقول مسؤول استخبارات غربي كبير: «أعتقد أنه ربما يفكر في هدف معقول على المدى القريب». ومع توقيع الولايات المتحدة اتفاقية المعادن مع أوكرانيا، سُلط الضوء أيضاً على إمكانية استثمارات مماثلة مع روسيا بعد الحرب، في المباحثات التي وصفتها واشنطن بأنها فرصة «تاريخية».

بل، ولقد أشار المسؤول أيضاً إلى أن السؤال الرئيس هو ما الذي ترغب واشنطن في تقديمه لجعل اتفاق السلام جذاباً بما يكفي لبوتين لإيقاف الحرب، والتي قد يستأنفها لاحقاً بمجرد تحقيق نصر مؤقت. وهنا، يقول مايكل روبين، الباحث في معهد «أميركان انتربرايز» في حوار مع «الشرق الأوسط» إن تلك التهديدات لم تُسهم في حل الأزمة الأوكرانية، لكنها على الأرجح عكست تفكير ترمب، الذي بدا أنه يتخلى عن أي احتمال لحل سريع، ويُرجّح أن يعكس ذلك واقعية ترمب في أن بوتين لن يُحقّق السلام.

بوتين متمسك بأهدافه البعيدة

من جهة ثانية، تغير الأهداف المباشرة قد لا يغير تمسك بوتين بطموحات طويلة الأجل لتوسيع نفوذ روسيا الإقليمي في أوكرانيا. وقد يكون استعداده «للتوافق» مع واشنطن في الوقت الحالي تكتيكاً لتحسين العلاقات مع واشنطن، في انتظار فرصة مواتية أكثر لتحقيق أهدافه القصوى.

ووفق مسؤول أوروبي كبير «هناك العديد من الأدوات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية التي ستواصل روسيا استخدامها»، مضيفاً أن أهداف روسيا النهائية «ربما لم تتبدل رغم هذا التغيير التكتيكي». كذلك، أعرب العديد من المشرّعين الأميركيين عن مخاوفهم من أن بوتين قد يستخدم مباحثات السلام استراتيجيةً لكسب المزيد من النفوذ بدلاً من السعي الجاد لإنهاء الحرب، وهو ما قد يكون عزّز من مخاوف الكرملين من أن تكون تلك التهديدات حقيقية.

فقد أعلن السيناتور الجمهوري النافذ، ليندسي غراهام، الأسبوع الماضي، أنه يحظى بدعم مجلس الشيوخ لمشروع قانون يدعو إلى فرض عقوبات جديدة «ساحقة» على روسيا. ويسعى مشروع القانون هذا إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 500 في المائة على الواردات من الدول التي تشتري النفط أو الغاز أو اليورانيوم الروسي، ما لم تنخرط روسيا في مفاوضات جادة لإنهاء الحرب. وفي الأيام الأخيرة، ناقش مسؤولون أميركيون وأوروبيون فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، تؤثر على قطاعي البنوك والطاقة؛ بهدف الضغط عليها لدعم الجهود الدبلوماسية الأميركية لإنهاء الحرب.

بايدن وبنس يحذّران ترمب

ومع رفض أوكرانيا عرض بوتين الأخير بوقف إطلاق نار قصير خلال احتفالاته بيوم «النصر على النازية» ووصفه بـ«محاولة أخرى للتلاعب»، عدّه البعض «أقل من الحقيقة». وقال الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطاني، «إم آي 6» السير أليكس يونغر، إن الرئيس الروسي عازم على الاستيلاء على أكثر من مجرد أوكرانيا. وهو ما يتوافق مع آراء كل من جو بايدن، ونائب ترمب السابق مايك بنس.

بايدن سبق له القول إن بوتين يؤمن بأن «أوكرانيا جزء من روسيا»، وإن «أي شخص يظن أنه سيتوقف» إذا جرى التنازل عن بعض الأراضي بوصفه جزءاً من اتفاق سلام «هو ببساطة أحمق». وأضاف: «لا أفهم كيف يظن الناس أنه إذا سمحنا لديكتاتور بلطجي بأن يقرر الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي ليست ملكه، فإن ذلك سيُرضيه. لا أفهم ذلك تماماً». وتابع معرباً عن قلقه: «أوروبا ستفقد ثقتها بأميركا وقيادتها»، و«إن قادة القارة يتساءلون، حسناً، ماذا نفعل الآن؟ هل يمكننا الاعتماد على الولايات المتحدة؟ هل ستكون موجودة؟».

بدوره، أعرب بنس عن خيبة أمله من تراجع دعم الرئيس ترمب لكييف، وذكر أن الرئيس الروسي قد يضع ديمقراطيات أوروبية أخرى «نصب عينيه». وأضاف: «إذا كانت السنوات الثلاث الماضية علمتنا شيئاً، فهو أن فلاديمير بوتين لا يريد السلام. إنه يريد أوكرانيا». وتابع: «حقيقة أننا الآن نتابع منذ قرابة شهرين اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه أوكرانيا، واستمرار روسيا في المماطلة وتقديم الأعذار، إنما يؤكدان هذه النقطة». واستطرد: «أعتقد أن الدعم المتذبذب الذي أبدته الإدارة (لأوكرانيا) خلال الأشهر القليلة الماضية قد شجع روسيا... والأمر لا يقتصر عليّ أنا شخصياً. أعتقد حقاً أنه إذا اجتاح أوكرانيا، فستكون مسألة وقت فقط قبل أن يعبر الحدود، حيث سيضطر رجالنا ونساؤنا العسكريون إلى محاربته».

مايك بنس: «إذا كانت السنوات الثلاث الماضية علمتنا شيئاً، فهو أن فلاديمير بوتين لا يريد السلام. إنه يريد أوكرانيا»

اتفاقية المعادن لا تضمن أمن كييف

في أي حال، ورغم مناورات البيت الأبيض الكثيرة، انقضت الأيام المائة الأولى من إدارة ترمب الثانية من دون بصيص أمل في انتهاء القتال قريباً. وعلى الرغم من تعهد ترمب بإنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، وتوقيع واشنطن اتفاقية مع كييف تمنح الولايات المتحدة حصة من الإيرادات المستقبلية من احتياطيات أوكرانيا المعدنية، فإنه قد يقرر الانسحاب من البلاد كلياً إذا لم يحصل على تسوية سلمية يصبو إليها. وهنا يؤكد مايكل روبين لـ«الشرق الأوسط»، أن اتفاقية المعادن وحدها «لا تكفي لضمان ألا يغيّر ترمب رأيه مجدداً... ولكن بما أنه ينظر إلى العالم من خلال ميزانيته التجارية، فسيكون هذا مفيداً في إقناع ترمب».

من جهتها، تقول إيفانا سترادنر، الباحثة في الشأن الروسي في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» لـ«الشرق الأوسط»، إن «صفقة المعادن خطوة في الاتجاه الصحيح، والآن، الكرة في ملعب بوتين، وعلى واشنطن أن تمارس المزيد من الضغط على الكرملين، الذي سيلجأ إلى آلته الدعائية لتصوير الولايات المتحدة كقوة إمبريالية شريرة».

وبالفعل، توصلت إدارة ترمب إلى اتفاق منفصل مع أوكرانيا، أُعلن عنه في 30 أبريل (نيسان)، لمنح الولايات المتحدة حصة في مواردها المعدنية. ولكن مع أن الاتفاق يهدف إلى الإشارة إلى استثمار الولايات المتحدة في مستقبل أوكرانيا، فهو يبدو غير مرتبط إلى حد كبير بالمسألة الأكثر إلحاحاً لها والمتمثلة في حاضرها الذي مزقته الحرب.

لم يُنشر النص النهائي للاتفاقية بعد، ولكن لا يوجد ما يشير إلى أنها تتضمن ضمانات أمنية لأوكرانيا. وبصفته القائد الأعلى، يمكن لترمب تقليص الدعم الأميركي لأوكرانيا بشكل مفاجئ ودراماتيكي. وحتى مع سعيه لتحقيق مكاسب اقتصادية من أوكرانيا، قد تُقلّص الولايات المتحدة أو تُوقف الدعم العسكري والاستخباري، كما جرى بعد المشادة الكبيرة التي جرت أمام عدسات التلفزيون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي خلال مارس (آذار) الماضي. وما زاد من قوة الشكوك، تأكيد زيلينسكي أخيراً أن ترمب رفض طلباً بقيمة 15 مليار دولار لشراء 10 أنظمة صواريخ «باتريوت» للدفاع الجوي.

 

هدف بوتين النهائي تقويض الغرب وإظهار الناتو «نمراً من ورق»

سبق أن حذر مسؤولو الاستخبارات الأميركية من أن أولوية فلاديمير بوتين القصوى لا تزال هي السيطرة الروسية الكاملة على أوكرانيا، وأن أي مفاوضات قد تتلاعب بها روسيا لإطالة أمد الصراع. ولا تزال مسألة الحدود الإقليمية موضع خلاف، لا سيما فيما يتعلق بالأقاليم الخمسة التي تَعدّها روسيا معقلاً لها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمتها عام 2014. ولقد أشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى أن أوكرانيا قد لا تستعيد غالبية الأراضي التي خسرتها لصالح روسيا، ما أثار مخاوف بعض الحلفاء الأوروبيين من أن تؤدي اقتراحاته إلى اعتراف واشنطن بسيطرة روسيا على أجزاء من أوكرانيا. وفيما يتمحور النقاش الآن حول كيفية الموازنة بين التنازلات الإقليمية وضمان عدم استئناف روسيا لهجومها بمجرد التوصل إلى اتفاق سلام، يعتقد المسؤولون الأميركيون أن أوكرانيا تتوسل بشكل متزايد للحصول على مساعدات وضمانات أمنية، لا سيما مع تقدم مفاوضات السلام. أيضاً يقول تقرير في مجلة «فورين أفيرز»، إنه على الرغم من أن روسيا ستظلّ تُكافح لكسب الحرب بشكل كامل، لكنها لن تُضطر للقلق بشأن خسارتها أيضاً. إذ قد تُواصل استراتيجيتها القائمة على تدمير البنية التحتية المدنية لأوكرانيا وإرهاب الأوكرانيين لدفعهم إلى مغادرة البلاد. وبينما تمتلك كييف القوى البشرية والموارد والدعم اللازم للحفاظ على السيادة في معظم أنحاء البلاد، قد تتقدم القوات الروسية ببطء وتُحقّق مكاسب إقليمية، مُنجزةً بذلك هدف بوتين المتمثل في إخضاع أربع مناطق من أوكرانيا لسيطرته الكاملة. مع هذا، يرى التقرير أنه لا يوجد لدى روسيا مسار حقيقي للمضي قدماً في أوكرانيا. فخسائرها في الأرواح لن تتوقف حتى ولو تخلت واشنطن عن أوكرانيا، وستظل الحرب خطأً استراتيجياً لروسيا. غير أن التخلي الأميركي سيثقل كاهل أوروبا بشكل كبير، ويشكك في التزام واشنطن تجاه حلفائها الأوروبيين، ومن المرجح أن يولد توترات متصاعدة بين أوروبا وروسيا. وهنا تقول الباحثة سترادنر لـ«الشرق الأوسط»، إن بوتين غير مهتم بالمفاوضات الصادقة، «هو ليس بحاجة إلى وقف إطلاق النار، لكسب المزيد من الوقت، وإعادة تموضع جيشه، ومواصلة طموحاته الإمبريالية لاستعادة مجد روسيا وإظهارها قوة عظمى. إن هدفه النهائي إخضاع أوكرانيا وإظهار أن ناتو مجرد نمر من ورق في دول البلطيق وتقويض الاتحاد الأوروبي». وبالفعل، أعلن بوتين عن العمل على «تقويض الغرب» من خلال الهجمات الإلكترونية وحرب المعلومات التي تُثير شكوكاً عالمية في عصر «ما بعد الحقيقة». كما أن تشكيك ترمب بالعلاقات مع «ناتو»، وتهديداته بضم كندا وغرينلاند، وتسببه في اضطرابات اقتصادية من جراء حرب الرسوم التجارية التي يشنها على معظم دول العالم، كلها عوامل قد تساعد سيد الكرملين على مواصلة سياسة المماطلة حتى تحقيق أهدافه.