اليوم...«الشرق الأوسط» تكمل عامها الأربعين

فكرة رائدة طورتها جهود جبارة

اليوم...«الشرق الأوسط» تكمل عامها الأربعين
TT

اليوم...«الشرق الأوسط» تكمل عامها الأربعين

اليوم...«الشرق الأوسط» تكمل عامها الأربعين

في مثل هذا اليوم قبل 40 سنة تماماً أبصرت صحيفة «الشرق الأوسط» النور.
في يوم 4 يوليو (تموز) 1978م، الموافق 29 رجب 1398هـ، خطت الصحافة العربية خطوة كبرى، فخرجت لأول مرة في تاريخها من الحيّز المحلي أو الوطني إلى الحلبة الدولية.
صحيح، صدر العدد من الصحف والمجلات العربية في مختلف دول العالم، ولا سيما، في المهاجر البعيدة بأميركا الشمالية والجنوبية، وكذلك في أوروبا وأماكن أخرى من المعمورة. غير أن كل تلك الدوريات، على الرغم من موقعها الجغرافي البعيد عن العالم العربي، كانت تخاطب، بالدرجة الأولى، جاليات مهاجرة تقيم في تلك الأصقاع وتعبّر عن همومها وآمالها، من دون ربط مباشر أو تفاعل شامل ومتكامل مع الوطن الأم.
تجدر الإشارة إلى أن أول صحيفة صدرت باللغة العربية كانت «الوقائع المصرية» التي أصدرها محمد علي والي مصر عام 1828م، وذلك في أعقاب إصدار نابليون بونابرت في مصر نشرة «التنبيه» إبان الحملة الفرنسية بين 1801 و1802. وبعد ذلك، أصدر رزق الله حسّون «مرآة الأحوال» من العاصمة العثمانية إسطنبول عام 1855. ثم أتبعها رشيد الدحداح بـ«برجيس باريس» عام 1858 في العاصمة الفرنسية باريس. أما باكورة الصحف العربية في القارة الأميركية فكانت «كوكب أميركا» التي أسّسها الأخوان السوريان إبراهيم ونجيب عربيلي في العام 1888.
في بريطانيا، تأخر الاختراق الإعلامي العربي نسبياً، مع أن الوجود العربي المهاجر ليس طارئاً أو حديث العهد فيها. ولعل من الأسباب أن لندن مدينة أعمال وسياسة أكثر منها مدينة ثقافة بالمقارنة مع منافستها باريس. ثم إن حملة نابليون في مصر، ورعاية فرنسا حُكم الأسرة العلوية وعلاقتها الخاصة بها - التي كان من علاماتها المهمة دور فرنسا في شقّ قناة السويس - من العوامل المؤثرة لتنامي الثقافة الفرنسية، ناهيك من دعم فرنسا القوى الثائرة على الدولة العثمانية في المشرق العربي. ثم إن كثيرا من الشخصيات التي نشطت في تأسيس الحركة الصحافية العربية المهاجرة جاءت من بلاد الشام التي كانت لها علاقات قديمة مع فرنسا، وتالياً، حكمها الانتداب الفرنسي بين 1920 و1943.
أضف إلى ما سبق أن الكثافة الأكبر للمهاجرين العرب إلى بريطانيا ما كانت في لندن بل في غرب إنجلترا وجنوب ويلز، وكانت إحدى أكبر الجاليات العربية فيها والأقدم هجرة، اليمنيين. ولكن في الجزء الثاني من عقد السبعينات من القرن الماضي بدأت الحركة الإعلامية العربية تنشط جدياً في بريطانيا، وخاصة في لندن. ولئن كانت الصحف والمطبوعات الأولى محلية الطابع جاء تأسيس «الشرق الأوسط» علامة فارقة، تجاوزت فعلياً مفهوم الإعلام العربي المهاجر إلى الإعلام العربي الدولي.
قصة البداية
في عام 2003 احتفلت «الشرق الأوسط» بـ«يوبيلها الفضي» (ذكرى مرور 25 سنة على تأسيسها)، ونشرت بتوجيه من عبد الرحمن الراشد، رئيس تحريرها يومذاك، عدداً خاصاً بالمناسبة أرّخ لظروف تأسيس الصحيفة التي غدت «صحيفة العرب الدولية» عن جدارة واستحقاق. وحمل ذلك العدد الخاص جانبا مهما من قصة التأسيس وفلسفته، كما يلي: «في العدد الأول من (الشرق الأوسط) نشر المؤسسان هشام ومحمد علي حافظ رسالة إلى القراء في الصفحة الأولى عرضا فيها أهدافهما وتصورهما للصحيفة التي أسساها»، وجاء في الرسالة: «إن إصدار صحيفة عربية يومية كان دائماً مطمحاً لكثيرين، حاول كل منهم تحقيق هذا الطموح بطريقته. ومن دواعي فخرنا وفخر جميع العاملين في (الشرق الأوسط) أن نكون أول من حول هذا الحلم إلى حقيقة». وتابعت الرسالة، مؤكدة على الشخصية العربية للصحيفة بالقول: «ستكون الصحيفة، كما هو واضح من اسمها، صحيفة لكل العرب وليست لدولة عربية واحدة، لأننا نؤمن بالعرب وبرسالتهم السمحة ونؤمن بواجبنا في نشر هذه الرسالة. فهي رسالة الإسلام التي بدأت قبل أربعة عشر قرنا ووحّدت العالم العربي بنشر التوحيد والسلام والأمن والفلاح في بقاع متعدّدة من العالم والشرق الأوسط، تنادي بالاعتدال، وتتحاشى التطرّف تمسّكاً بالآية الكريمة (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)».
تجاوز المحلية
وحقاً، حتى إصدار «الشرق الأوسط» يصح القول إن المحلية كانت السمة الغالبة على الصحافة العربية من المحيط إلى الخليج، بما في ذلك الأقطار العربية الطويلة الباع في مجال الصحافة. وكانت الصحيفة الوطنية هي الطاغية، وسط غياب لصحيفة عربية شاملة.
ومن جانب آخر، في مطلع عقد السبعينات من القرن الـ20 كانت الإمكانيات محدودة أمام القارئ العربي للاطلاع على صحف تصدر في أقطار عربية بعيدة عن سوقها المحلية. ووفق كتاب «اليوبيل الفضي» للصحيفة «ولكن وسط مؤثرات الحرب اللبنانية وتداعيات معاهدة كامب ديفيد، التي أضعفت كثيراً تأثير الصحف اللبنانية والمصرية، بدا مكان فسيح شاغر ينتظر مَن يشغله، وبالفعل شغلته الصحافة المهاجرة». وبالفعل، ما كان مفاجئاً في ظل الاضطراب الذي تعرّضت له خلال السبعينات بيروت والقاهرة، اللتان لعبتا لعقود دور «عاصمتي» الإعلام العربي، الاتجاه إلى مدن بديلة مؤهلة لتولي هذا الدور. وفي هذا السياق، أسست كثير من المطبوعات من شتى التوجّهات والمشارب في مختلف أنحاء العالم، غير أن النشاط الأكبر والأعظم وقعاً شهدته باريس ولندن، ولاحقاً، رجحت كفة لندن، وما زال لها قصب السبق. ووفق المراجع التي تناولت تلك الحقبة، تشير الأرقام إلى أنه بحلول عام 1986 بلغ عدد المطبوعات والدوريات العربية اليومية والأسبوعية والشهرية ورُبع السنوية والسنوية الصادرة في بريطانيا 52 مطبوعة. وهذا رقم كبير إذا ما علمنا أن إجمالي المطبوعات اليومية والأسبوعية الصادرة سنوياً في عموم أقطار العالم بلغ 155 مطبوعة. بيد أن غالبية المطبوعات الصادرة في بريطانيا كانت ذات ميزانيات ضئيلة وتوزيع محدود، ولذا لم تصمد كلها طويلاً.
صحيفة «العرب» التي أسّسها الوزير الليبي السابق أحمد الصالحين الهوني عام 1977، والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم تحت إدارة جديدة، كانت حالة مختلفة، غير أنها في المرحلة الأولى من مسيرتها وإن كانت قد ضمّت نخبة من الكتاب والمحرّرين من مختلف أنحاء العالم، ظلت قاعدتها محدودة في بريطانيا وأوروبا الغربية. ومن ثم، جاءت «الشرق الأوسط» في العام التالي لتفتح باب الصحافة العربية الدولية على مصراعيه.
ولادة فكرة
ولدت فكرة في يوليو 1977 بعد سنتين من تأسيس هشام ومحمد علي حافظ صحيفة «عرب نيوز» باللغة الإنجليزية في المملكة العربية السعودية، وذلك عندما كان أحد الناشرين - السيد هشام - في إجازة بإسبانيا، وخطر بباله التفكير بسبب غياب صحيفة دولية مثل «الإنترناشونال هيرالد تريبيون» ولكن باللغة العربية، فتمدّ العرب في الخارج بأخبار العالم العربي.
وبعكس كل الصحف الموجودة في السوق تلك الأيام، كانت مهمة الصحيفة الجديدة التوجّه إلى العرب جميعاً وليس إلى بلد واحد، مستفيدة من أحدث التقنيات وتصدر من لندن وتطبع في وقت واحد في بريطانيا والمملكة العربية السعودية. ولم يطل الوقت حتى وضع الشقيقان الفكرة موضع التنفيذ، واختير للصحيفة اسم «الشرق الأوسط».
اللبنات الأولى
الشركة الناشرة «الشركة السعودية للأبحاث والتسويق» (لاحقاً: «الشركة السعودية للأبحاث والتسويق - المملكة المتحدة») كانت قد اشترت عام 1976 وكالة «برس فوتو» للصور، وهي أقدم وكالة صور صحافية في بريطانيا، واشترت معها المبنى الذي كانت تشغله الوكالة في ساحة غف سكوير التاريخية الصغيرة، على مرمى حجر من «شارع الصحافة» الأشهر... فليت ستريت. وكان من الطبيعي أن يغدو أول مقر للصحيفة.
وبعد، هذا المقر انتقلت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي إلى مقرها الثاني في شارع هولبورن، بوسط لندن، على مسافة غير بعيدة من المتحف البريطاني وحي بلومزبري الشهير بخلفيته الثقافية والتعليمية. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 انتقلت إلى مقرها الحالي في حي تشيزيك بغرب لندن.
كما سبقت الإشارة، كانت فلسفة الصحيفة، وما زالت، أن تكون «صحيفة العرب الدولية» التي يقرأونها في أي مكان من العالم، وفي الوقت نفسه صحيفتهم الثانية بعد صحيفتهم المحلية التي اعتادوا قراءتها. وحقاً، كانت أسرتا التحرير والإنتاج منذ 1978 «جامعة دول عربية مصغّرة» ضمت أبناء وبنات كل الأقطار العربية تقريباً.
أيضاً، منذ البداية، اختير أن يكون للصحيفة تميّزها الإخراجي. واستقر الرأي على أن يكون للصفحتين الأولى والثانية، الأخيرة وقبل الأخيرة لون مميز، وبالفعل اختير اللون الأخضر الفاتح. ومن ناحية أخرى، سجلت «الشرق الأوسط» عبر مكاتبها ومراكز طبعها المتعدّدة منجزات تقنية وتحريرية مُبهرة. فكانت لها على الصعيد التقني ريادة النقل بالفاكسميلي، مايو (أيار) - 1980، وكانت من أوائل الصحف العالمية التي اعتمدت الكومبيوتر في التحرير والإنتاج عام 1989. وفي طليعة الصحف العالمية في الاهتمام بخدمة الأونلاين، ولقد ظهرت أول نسخة منها على الإنترنت عام 1995، ثم يوم 10 أغسطس (آب) 2000 أطلقت النسخة الإلكترونية كاملة. وعام 2003 تعززت الريادة التقنية بالمباشرة في تطبيق الطباعة الملّونة.
أما على الجانب التحريري، فكان لها قصب السبق في اتفاقيات حقوق النشر، وتميّزت عبر السنين بالمذكرات والمقابلات المتميزة، واستكتاب أعلام في السياسة والأدب والفكر والعلوم. كما اهتمت على امتداد مسيرتها، بالتحقيقات والتغطيات الميدانية، والصفحات التخصّصية، كما شكلت «الشرق الأوسط» حجر الزاوية، بعد نمو المجموعة القابضة في حقب، فيما غدت إحدى أكبر المجموعات الصحافية المتكاملة تحريراً وإعلاناً وتوزيعاً في العالم العربي.
مرحلة الأمير أحمد بن سلمان
على صعيد آخر، تطورّت المجموعة القابضة في أعقاب تولّي المغفور له الأمير أحمد بن سلمان بن عبد العزيز رئاسة مجلس إدارتها، وقاد الأمير أحمد عملية تطوير جبارة عزّزت مكانة الصحيفة وشقيقاتها في عالمي الإعلام والنشر، واستمر في قيادتها حتى وفاته المفاجئة عن 43 سنة يوم 22 يوليو من عام 2002. وجاءت بداية عملية التطوير عام 2000 مع تحويل المجموعة إلى شركة مساهمة. وكان من أهم منجزات الأمير الراحل تحويله مؤسسة قيمتها السوقية تقدر بنحو 90 مليون دولار أميركي إلى مؤسسة رأسمالها 160 مليون دولار وتربو موجوداتها على 533 مليون دولار.
بعد ذلك، تولى رئاسة مجلس الإدارة كل من الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز (2002 - 2013)، فالأمير تركي بن سلمان بن عبد العزيز (2013 - 2014)، فعبد الله باحمدان (2014 - 2015)، فالأمير بدر بن عبد الله بن فرحان (2015 - 2018)، ثم الدكتور غسان الشبل حالياً.
أما فيما يخص التحرير فقد تعاقب على رئاسة تحرير الجريدة كل من السادة جهاد الخازن (1978 - 1980) فالناشران هشام ومحمد علي حافظ (1980) فمحمد معروف الشيباني (1980 - 1982) ثم عرفان نظام الدين - أول مدير تحرير للصحيفة (1982 - 1987)، ثم عثمان العمير (1987 - 1998)، ثم عبد الرحمن الراشد (1998 - 2003). وخلفه بالوكالة محمد العوّام (2003 - 2004)، ثم طارق الحميّد (2004 - 2012)، فالدكتور عادل الطريفي (2012 - 2014)، فسلمان الدوسري (2014 - 2016)، وحالياً غسان شربل منذ 2016.


مقالات ذات صلة

إصابة مصورَين صحافيَين بنيران إسرائيلية في جنوب لبنان

المشرق العربي جنود إسرائيليون يقودون مركباتهم في منطقة قريبة من الحدود الإسرائيلية اللبنانية كما شوهد من شمال إسرائيل الأربعاء 27 نوفمبر 2024 (أ.ب)

إصابة مصورَين صحافيَين بنيران إسرائيلية في جنوب لبنان

أصيب مصوران صحافيان بجروح بعد إطلاق جنود إسرائيليين النار عليهما في جنوب لبنان اليوم الأربعاء.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي نازحون في أثناء عودتهم إلى قراهم بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله» الذي دخل حيز التنفيذ يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024... الصورة في أبلح شرقي لبنان (أ.ب)

«انتصار للبيت الأبيض»... صحف تحلل اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان

رأى موقع «بوليتيكو» أن اتفاق وقف إطلاق النار «انتصار كبير للبيت الأبيض»، وقالت «نيويورك تايمز» إن بايدن يريد تذكّره بأنه وضع الشرق الأوسط على طريق تسوية دائمة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
آسيا خلال احتجاج نظمته حركة «طالبان» في أفغانستان (رويترز - أرشيفية)

إحصاء 336 اعتداءً ضد الصحافيين في 3 سنوات من حكم «طالبان» في أفغانستان

أفادت الأمم المتحدة، الثلاثاء، بأنها سجّلت 336 اعتداءً على صحافيين وعاملين في وسائل إعلام منذ عودة «طالبان» لحكم أفغانستان في أغسطس 2021.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا مبنى التلفزيون المصري في ماسبيرو (الهيئة الوطنية للإعلام)

تشكيلة جديدة للهيئات الإعلامية بمصر وسط ترقب لتغييرات

استقبلت الأوساط الإعلامية والصحافية المصرية، التشكيلة الجديدة للهيئات المنظمة لعملهم، آملين في أن تحمل معها تغييرات إيجابية.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
المشرق العربي المسؤول الإعلامي في «حزب الله» محمد عفيف خلال مؤتمر صحافي بالضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب) play-circle 00:40

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

باغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف تكون إسرائيل انتقلت من اغتيال القادة العسكريين في الحزب إلى المسؤولين والقياديين السياسيين والإعلاميين.

بولا أسطيح (بيروت)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».