تركيبتها بسيطة وطريقة صنعها سهلة، وهي تؤكل باردة وساخنة، كما تتصدر مائدة الفقراء والأغنياء لطعمها اللذيذ. إنها «المنقوشة» المعروفة في لبنان بوصفها من أشهر أصناف الفطور (الترويقة)، ويرتبط اسمها المشتق من كلمة «نقش» ارتباطا مباشرا بالصعتر والسمسم المخلوطين مع زيت الزيتون بحيث يتم مدّ هذا المزيج على عجينة رقيقة تخبز في الفرن فتتصاعد منها رائحة ذكية يسيل لها اللعاب.
«فالمنقوشة» هذه رافقت اللبنانيين عبر التاريخ، فكانت تتنافس مع «المشطاح»، (عجينة مستطيلة «ملوتة» بزيت الزيتون)، ورغيف المرقوق (خبز القرية اللبنانية) المخبوز على الصاج، وكذلك مع «طلمية التنور»، (تخبز في فرن عميق يعرف بالتنور). وجميعها ترتكز صناعتها على العجين ومعروفة بشكل أكبر في المناطق الريفية من لبنان. فلطالما شكل الصعتر مكونا أساسيا لأهالي القرى يصنعون منه الأقراص (أقراص الصعتر المقرمشة) ويخلطونه أحيانا مع اللبنة لإضفاء بعض التغيير على طعمه بعد خلطه مع السمسم وزيت الزيتون. وفيما كان الأقدمون يتحلقون حول جلسة خبز يكون نجمها «الصاج» على الحطب ليتناولوا هذه الأصناف من الفطور المغذي، فإن اللبنانيين اليوم يقفون في صفوف طويلة أمام الأفران والمخابز للحصول على منقوشة الصعتر التي ما زالت تتصدر لائحة أطباق الفطور في لبنان على طريقة «الدليفيري» وحتى على مائدة تتزين بالخضراوات (نعناع وبندورة وخيار) يرافقها كوب شاي ساخن في الشتاء وآخر من العصير أو «لبن عيران» بارد في الصيف.
- تطور المنقوشة مع الزمن
لحقت المنقوشة في لبنان تطورات كثيرة؛ فبعدما كانت أنواعها محصورة بالصعتر، فإنها اليوم تشهد لائحة طويلة من المكونات التي تدخلها تحت اسمها المشهور هذا. وبذلك لم تعد «منقوشة الصعتر» وحدها تتصدرها؛ إذ أضيفت إليها أنواع مناقيش أخرى: «منقوشة الكشك» و«منقوشة الجبن» (من أنواع العكاوي والبلغاري والحلوم والقشقوان) و«منقوشة القاورما مع البيض» و«منقوشة الصعتر مع البصل والسماق» و«منقوشة لبنة وصعتر» و«لحم بعجين» و«منقوشة الكفتا» مع الفلفل الحار... وغيرها. كما عمد البعض إلى تطوير طعمها الحلو الذي كان يقتصر في الماضي على رش العجينة بالسكر ليصبح اليوم شبيها بأنواع «الكريب» مع إدخال الشوكولاته (نوتيلا) وتلك المحشوة بالحلاوة والموز.
- «حنين المنقوشة»... يصيب المغتربين اللبنانيين وكل من يتذوقها
ترمز «المنقوشة» إلى بلاد الشام بشكل عام وإلى لبنان بشكل خاص. فمكوناتها ورائحتها الشهية راسخة ومحفورة في قلوب اللبنانيين، كأنها جزء لا يتجزأ من تراثهم المطبخي. ولذلك عادة ما يعاني المغتربون اللبنانيون المنتشرون بمختلف أقسام الكرة الأرضية من «حنين المنقوشة»، فيستذكرونها كلما رغبوا في التحدث عن بلادهم والتعريف بها. ويطلبونها بالاسم من زائر يقصدهم أو ضيف يحل عليهم في بلاد الاغتراب آتيا من بلاد الأرز، فيكون الجواب مقتضبا ويختصر بكلمة واحدة عندما يسأل عن الهدية التي يرغب في أن يحملها له معه، وهو «منقوشة». ويقصدون فرن الحي الذي يسكنون فيه ليتناولوا منقوشة من أيادي «أبو ساكو» أو «أم نجيب»، فهي بمثابة أول نزهة يقومون بها عندما يصلون أرض الوطن. وهذا الأمر يشمل أيضا السياح الأجانب؛ إذ يبقى طعم المنقوشة منقوشا في ذاكرتهم إلى حين قيامهم بزيارة أخرى إلى لبنان.
وإذا ما صدف واستمعت إلى مغترب لبناني يتحدث عن «منقوشة الصعتر» التي كان يشتريها من حي يسكنه فسيخيل إليك ولبرهة أنه يلقي عليك قصيدة شعر مكسورة الأبيات غنية بعبارات «رائحتها تشق القلب» و«طعمها يقتل» و«ملمسها غير»، وذلك في مقارنتها بطعم المنقوشة التي يتناولها في أحد المطاعم العربية في بلاد الغربة.
- «المنقوشة» يحتفل بها وذاع صيتها ليصل إلى أميركا
يحتفل في لبنان بـ«اليوم العالمي للمنقوشة» في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، وقد استحدثت هذه المناسبة في عام 2017 من قبل مطعم «زعتر وزيت» في لبنان الشهير بوصفات المنقوشة المختلفة.
كما ذاع صيت «المنقوشة» في العالم ليصل إلى أستراليا والمكسيك ودبي وتركيا وفرنسا. ووصلت شهرتها إلى أميركا من خلال مطعم «منقوشة» في منطقة نوليتا بمدينة نيويورك لصاحبه اللبناني زياد هرمز، فشكل العلامة الفارقة لهذا الفطور فيها. وكان هرمز قد قطع عهدا على نفسه بأن يضع حدا لحنين المنقوشة الذي يعاني منه منذ هجرته إلى أميركا، فعاد أدراجه إلى لبنان ليتعلم أصول صناعتها وكيفية تحضيرها من أربابها، وحمل معه إلى أميركا دروسه هذه؛ إضافة إلى مكوناتها الأساسية من بلده الأم ليعطيها فرصة «النجومية» المطلقة في أميركا. ويقول معلقا: «كنت أعيش في لبنان قبل أن أنتقل إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث عشت 10 سنوات، خلالها لم يمر يوم من دون أن أشعر بحنين إلى المنقوشة، ولم أتمكن من العثور على واحدة هناك. وفي خضم بحثي وسؤالي لكل من حولي، أدركت أنهم لا يعرفون عما أتكلم، فكان الأمر صادماً بالنسبة إلي. فقررت ابتكار مكان ليشعر فيه الناس الذين يفتقدون لبنان بأنهم ما زالوا هناك، ولمن لم يسمع به قبلا ليتمكن من التعرف إليه من خلال (المنقوشة)».
- مطاعم «المنقوشة» في لبنان... حدّث ولا حرج
قد يكون عدد مطاعم المناقيش هو الأكبر من نوعه في لبنان؛ فبين فرن وآخر يصنعها في أحد الأحياء، هناك ثالث يخبزها ويقدمها إلى زبائنه ساخنة وطازجة في شارع وطريق آخرين. وتطول أسماء الأفران والمطاعم التي تقدمها لتشمل «أرخص منقوشة» و«أطيب منقوشة» و«منقوشة عالنت» (تطلب عبر وسائل الاتصال الاجتماعي) و«بس منقوشة» و«عالصاج»... وغيرها من الأسماء التابعة لمطاعم اشتهرت بتقديمها بطرق حديثة وأخرى تقليدية مثل «الفلمنكي» و«زعتر وزيت» و«السنيور»... وغيرها. وعادة ما يتراوح سعرها بين ألف ليرة لمنقوشة الصعتر، وما فوق 1500 و3 آلاف ليرة لمنقوشة إكسترا (ملفوفة مع الخضراوات والزيتون) أو لأخرى ذات مكونات مغايرة.
- وصفة «المنقوشة»
ولتحضير منقوشة الصعتر في البيت ما على ربة المنزل إلا أن تحضر عجينة عادية، ومن ثم تقطعها إلى أرغفة صغيرة ترققها بواسطة الشوبك (لا يتجاوز قطرها 25 سنتيمترا) لتمد عليها خليط الصعتر مع السمسم وزيت الزيتون (نصف كوب من الصعتر المخلوط مع السمسم المحمص ومع كوب من زيت زيتون) وذلك حسب الرغبة (بكمية قليلة أو كبيرة). وليتم وضعها فيما بعد في الفرن لمدة لا تتجاوز 12 دقيقة على نار قوية وتقدم ساخنة مع طبق من الخضراوات الطازجة. وبالإمكان استبدال أي مكونات أخرى ترغب فيها بالصعتر؛ كشك مع البصل والبندورة، أو مع شرائح الجبن على أنواعه، وكذلك مع اللحم المفروم والبصل والبندورة والفلفل الأخضر الحلو، مما يكفي لتأليف مائدة فطور لبنانية بامتياز.
«المنقوشة»... من المائدة اللبنانية إلى شوارع العالم
يحتفل بيومها العالمي في 2 نوفمبر
«المنقوشة»... من المائدة اللبنانية إلى شوارع العالم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة