روبرت داوني جونيور ممثل وجد في شخصية «آيرون مان» فرصته الثانية

قال لـ «الشرق الأوسط» إنه يلجأ إلى ابتكار المواقف خلال التصوير عندما يصيبه الملل

كما يبدو في فيلمه الحالي «ذا أفنجرز: حرب أبدية»
كما يبدو في فيلمه الحالي «ذا أفنجرز: حرب أبدية»
TT

روبرت داوني جونيور ممثل وجد في شخصية «آيرون مان» فرصته الثانية

كما يبدو في فيلمه الحالي «ذا أفنجرز: حرب أبدية»
كما يبدو في فيلمه الحالي «ذا أفنجرز: حرب أبدية»

لا أحد يفكر هذه الأيام في منح روبرت داوني جونيور جائزة سينمائية عن «إتقان» دوره في «آيرون مان»: الشخصية التي ارتدى بذلتها الحديدية قبل عشر سنوات. ففي عام 2008 لعب أول مرّة دور توني ستارك، المليونير الخبير بتقنيات الأسلحة والمغامر الذي يعيش بلا قلب طبيعي ويًُقبل على المغامرة ضد أعداء الوطن. بمجرد ارتدائه تلك البذلة المليئة بالقدرات التقنية المعقدة ينقلب إلى محارب فريد يستطيع أن يطير في الفضاء ويقارع الأشقياء مهما كانت قدراتهم ويسهم في إنقاذ الأرض، أو الكون كما الحال في آخر ما يُعرض له من أفلام.
يقول في جلسة في فندق «فور سيزونز» بلوس أنجيلس: «بالنسبة إليّ ما زلت أشعر بالمتعة الفائقة عندما أمثّل هذه الشخصية». ويضيف، «أحدهم قال لي قبل أيام: لا بد أنك تعبت من هذا الدور، فأجبته: لا تفترض. لم أتعب بعد».
منذ عام 2008 قام داوني بالدور ثماني مرات: ثلاث مرات في ثلاثة أفلام من سلسلة «آيرون مان»، وثلاث مرات في ثلاثة أفلام من سلسلة «ذا أفنجرز»، ومرّتين في «سبايدر - مان»، ومرّة في «كابتن أميركا».
من باب الدقة ظهر أيضاً في مشهد عابر من «العملاق الفائق» (The Incredible Hulk)سنة 2008، لكن من دون ذكر اسمه في بطاقة الفيلم الفنية. هذا ما يجعل العدد يصل إلى تسعة.
«لا أريد أن أتباهى حين أقول إن شخصية هذا الرجل (توني ستارك) الذي يتحوّل إلى آيرون مان تمثل بالنسبة إليّ وجوداً يشغلني عن التفكير في سواه. ربما يبدو تمثيل الشخصية للغير نوعاً من العمل المتواصل الذي لا يخلو من التكرار. لكني لا أرضى له أن يكون كذلك. لا أستطيع أن أدخل الدور كما لو أنني منفّذ أنتمي إلى عقد مبرم فقط. هذا لا يعد تمثيلاً بل شغلاً يدوياً أو ربما ليس شغلاً بالمرّة»، يقول داوني.

تهديد جاد

مع هذا العدد في أربعة مسلسلات سينمائية متوازية كان من الطبيعي إلى حد بعيد لا أن يصبح روبرت داوني جونيور أحد أهم وأكبر نجوم السينما الأميركية فقط، بل أن يعيد لنفسه المكانة التي احتلها قبل متاعبه الشخصية في التسعينات ومطلع القرن الحالي، تلك التي لم يعد يسمح للصحافيين بسؤاله عنها.
العمل والمزيد منه كان الرد على تلك المرحلة التي شهدت إدمانه المستمر المخدرات والقبض عليه متلبساً ودخوله السجن والخروج منه عاطلاً عن العمل حتى سنة 2005 عندما منحه المنتج جووَل سيلفر فرصة العمل على فيلم بوليسي عنوانه «Kiss Kiss Bang Bang» من إخراج شاين بلاك وعرضه مهرجان «كان» حينها خارج المسابقة.
المنتج الذي وقف وراء الكثير من المشاريع الناجحة آنذاك كان له شرط واحد: «نعم، قال لي ستمثل دور البطولة وسوف يكون فيلم عودتك إلى المهنة التي تحب، لكني سأرميك من هذه النافذة، وأشار إلى نافذة مكتبه في الطابق العاشر على ما أعتقد، إذا أسأت التصرّف».
تحذير المنتج لداوني لم يكن عبثياً ولو أنه لم يعنِ أنه سيرتكب جريمة قتل لو اكتشف أن الممثل عاد إلى إدمانه بل سيكتفي بطرده من الفيلم ما سيجعل قدرة داوني على إيجاد عمل آخر احتمالاً بعيداً جداً. آنذاك كانت لسيلفر سطوة كبيرة كونه واحداً من أنشط وأكثر المنتجين نجاحاً. ومن ناحية أخرى كانت شركات التأمين امتنعت عن تأمين الممثل داوني بسبب سوابقه. أيُّ إخلال بالنظام الجديد كان سيدفع الممثل بعيداً جداً عن مراميه الفنية وربما إلى الأبد.
لكن على الرغم من هذا التهديد وجدّيّته، كان لا بد لروبرت داوني أن يعتمد على نفسه أولاً لكي يخرج من الدائرة التي وقع فيها. أن يبقى المدمن بمنأى عن العودة إلى إدمانه ونكث وعوده لنفسه قبل سواه من أصعب ما يمكن أن يواجهه من قرارات.
على ذلك، وجد الممثل نفسه أمام عهد جديد وهو الذي عرف التمثيل منذ سنة 1970 عندما كان في الخامسة من العمر وظهر في فيلم من إخراج أبيه روبرت داوني سنيور عنوانه «باوند».
في العشرين من العمر، عاد برغبة مندفعة للتمثيل المحترف. هو في دور مساند في فيلم مايكل أبتد التشويقي «فيرست بورن» ثم في سلسلة من الأفلام الكوميدية الشبابية (من بينها فيلم آخر من إخراج والده هو «أميركا»، 1986)، قبل أن يفوز بأول دور بطولة في فيلم رئيسي هو «فنان الحيلة» (The Pick‪ - ‬up Artist) سنة 1987، ليفوز بعد خمس سنوات و11 فيلماً آخر ببطولة «تشابلن» الذي وفّر له فرصة الفوز بـ«أوسكار أفضل ممثل».
على الرغم من متاعبه بعد ذلك، فإنه واصل العمل بلا توقف يذكر: ثلاثة أفلام سنة 1994، وثلاثة أخرى في كل سنة لاحقة حتى عام 1996، حين ظهر في فيلم واحد عنوانه «منطقة الخطر» (Danger Zone)، ثم عاد إلى منواله المتكاثر وصولاً لسنة 2005 التي برهن فيها على أن متاعبه هي جزء من الماضي.

القاعدة والاستثناء
يؤمن داوني بأن «هوليوود» فسحة متسامحة. وربما كان على حق، لكن ليس هوليوود فقط، بل جمهور السينما الأميركية أينما كانوا. متاعبه السابقة لم تَحُلْ دون العودة إليه حال بدا أنه تجاوز محنه. وربما هذا هو سر نجاحه وسر نجاح فيلم «آيرون مان» فكل منهما يمثل الآخر خير تمثيل.
شخصية المليونير ستارك الذي يعيش بقلب مستعار هي، على الأرجح، رمز لشخصية داوني وهو، في ذلك الحين، يبحث عن بديل فعلي ينجز عبره ما وعد به نفسه من نجاح. الإيراد الكبير لذلك الفيلم (بسعر تذكرة يقل عن سعره اليوم) وصل إلى 585 مليون دولار.
حسب ما أورده المؤلف ف. سكوت فيتزجرالد على لسان بطله جاي غاتسبي، في روايته «غاتسبي العظيم» (التي تم نقلها للشاشة عدة مرات أفضلها سنة 1974 عندما مثلها روبرت ردفورد)، لا وجود في أميركا للفرصة الثانية. لكن حياة روبرت داوني خير دليل على أن الفرص تتوالى والحياة ليست قاعدة واحدة لا يمكن اختراقها. يقول لي:
«انظر. ليس هناك من قاعدة بلا استثناء وربما نجد أن الاستثناء مع الوقت هو الذي يتحوّل إلى القاعدة والقاعدة تصبح الاستثناء. لا أريد أن أتجاهل قيمة فيلم (آيرون مان) بالنسبة إليّ، لكني أعتقد أن كلاً منا (هو والشخصية) صنع الآخر بشكل متكافئ. هل منحني (آيرون مان) النجاح الذي أستحقه؟ بلا شك، لكني منحته الوجود الناجح الذي كان يبحث عنه على الشاشة العريضة».
والواقع أن شخصية «آيرون مان» تحمل وجهين، ككل شخصية أخرى: سوبرمان يتظاهر بأنه مصور صحافي خجول (أو هكذا تم اختيار دوره في أواخر سبعينات القرن الماضي) باسم كلارك كينت، بينما هو في الحقيقة الرجل الذي يستطيع إيقاف قطار سريع بقوة يديه الاثنتين. باتمان يعيش حياة مستقرة كرجل أعمال اسمه بروس واين لكنه ينقلب إلى مقاتل يرتدي السواد ويظهر ليلاً ليقاتل الجريمة وأشرارها.
راي ستارك - آيرون مان لا يخرج عن هذا النطاق منذ ولادته على صفحات مجلات «الكوميكس»، لكن -وفي حدود المتاح- نجد أن روبرت داوني في الدورين منح الشخصية المدنية حقها من التبلور كرجل مثقف في مجال العلم لديه رسالة حياة يترجمها إلى عمل متواصل كمخترع أسلحة متقدمة.
داوني، لفهم مفتاحه للشخصية، أقدم على تمثيل راي ستارك بلهفة صبي صغير أدخله والده محل ألعاب. حين مراقبته في هذا الدور قبل ارتداء الخوذة والبذلة الكاملة، يتمكن المشاهد من متابعة ممثل يمزج السخرية بالجد في كل مناسبة متاحة. تريد أن تصدقه وتمتنع لأنه يذكّرك دائماً بأنه يلعب الدور لكي يتسلى هو أولاً وأنت ثانياً.
«أفهم ما تقوله وهذا صحيح. عندي هي الطريقة الوحيدة لتقديم دور كهذا. وأصارحك، في بعض الحالات أبتكر اللفتات الصغيرة من دون سابق تصميم».
متى؟ أسأله، فيجيب:
«غالباً عندما يصيبني الملل خلال التصوير، وهذا يحدث إذا ما طلب المخرج تكرار اللقطة ذاتها مرات ومرات. عليّ أن أجد شيئاً مختلفاً في المرّة العاشرة عن المرات السابقة. وفي المرّة الخامسة عشر عن المرّة العاشرة».
بعد ثمانية أفلام مثّل فيها شخصية آيرون مان يبقى التحدي، كما يقول، في كيفية لعب الدور مزدوجاً على نحو متساوٍ.
«إنها ليست مسألة سهلة أن تمنح الشخصيتين وجوداً متساوياً. لا أحد سوف يمنحني (أوسكار) عن التمثيل تحت بذلة حديدية محاطاً بالخدع الحديثة. ولا أعتقد أنني أو سواي سنُمنح جوائز عن لعب الشخصية الحقيقية خارج البذلة والخوذة. لكن السعي للتوازن بينهما حقيقي عندي وهو التحدي الدائم كلما لعبت هذه الشخصية».

العودة

هذا المنوال من التوازن حاول داوني تنفيذه في سلسلة أخرى بدأت سنة 2009 عندما وافق على بطولة «شرلوك هولمز» ثم كررها في الجزء الثاني سنة 2011. لكن ما ينجح في «آيرون مان» وتوابعه لا ينجح كثيراً في سلسلة التحري البريطاني المعروف لعدم وجود شخصية أخرى مناهضة. شرلوك هولمز في كل الحالات هي شخصية واحدة لا تحتمل التغيير، لذلك ما يبقى عالقاً في البال هو روبرت داوني مقدّماً لتفسيره الشخصي لشرلوك هولمز ضد كل ما هو معروف عن أذكى تحريِّي العالم.
في مقابلة أخرى سابقة مع داوني تناولنا هذا الموضوع ودافع عنه بالقول إنه لا توجد مشكلة في إعادة ابتكار شخصية هي أساساً مبتكرة. قال: «هي ليست شخصية تشابلن. لم أمثّل شخصية من لحم ودم، لذلك يرجع الأمر إليَّ وإلى صانعي الفيلم بالنسبة إلى كيفية تناولنا شرلوك هولمز. ربما ليست على النحو الذي تعوّد عليه المعجبون الأوفياء لهولمز، لكن ذلك ليس مشكلة عندي. حان الوقت للتجديد».
الآن ينظر الناقد إلى تحديات أخرى مر بها روبرت داوني في السنوات الأخيرة. قبل أربع سنوات خلع شخصية آيرون مان وارتدى شخصية محامٍ سيدافع عن أبيه القاضي (روبرت دوفال) في قضية مرفوعة ضده. الفيلم، وعنوانه «القاضي» أُريدَ له أن يتحدث عن علاقة مهزوزة بين أب وابنه. هذا الأخير قضى ردحاً طويلاً من النجاح في مهنته بحيث لم تعد العلاقة العائلية مهمّة بالنسبة إليه إلى أن يعود إلى بلدة أبيه ويترافع عنه.
الفيلم، وقد أخرجه ديفيد دبكين (وما زال آخر فيلم له) حمل مضموناً ولم يحمل إجادة تنفيذ. لكنه كان دراما واقعية التناول وخالية من صور البطولة. فوق ذلك فشلت في تحقيق النجاح على الرغم من اسم داوني الكبير.
هل يرى أن هذا الفشل، حتى وإن كان جزئياً، هو نتيجة حتمية للنجاح في أدوار تنتمي إلى النوع الترفيهي والفانتازي؟
«هذا تفسير قابل للاحتمال جداً. لا يزال إيماني بهذا الفيلم كبيراً. بالنسبة إليّ كان نوعاً من الخلاص من تمثيل المسلسلات. لا تفهمني خطأً. أحبها وما زلت أحبها بعد كل هذه السنين، لكن من حين لآخر يأتيك سيناريو مختلف لا علاقة له بما بات يومياتك العادية، تشعر بأنك بحاجة إلى قبوله، وهذا ما حدث».
ولن يمنع فشل «القاضي» من عودة داوني إلى الأفلام غير الفانتازية. داوني انتهى من تمثيل بطولة «ويك - إند كله نجوم» (All Star Week‪ - ‬End) الذي هو الفيلم الأول للممثل جايمي فوكس مخرجاً. بعده يقود بطولة «رحلة دكتور دوليتل»، ثم مجموعة من الأفلام التي يقدم عليها داوني منتجاً.
هل يخطط للتقليل من التمثيل والإكثار من الإنتاج؟
«لا. سأخلط بين الناحيتين. سأمثل ببعض ما سأقوم بإنتاجه وسأكتفي بالإنتاج وحده في أفلام أخرى. لا أحب القرارات النهائية. هذا كله يمكن أن يتغير في أي وقت، لكن يبدو لي أن الإنتاج هو استمرار سليم لحياة الممثل الناجح».


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)