تداعيات تحرير درنة الليبية (1 من 3) : دخول حفتر درنة يرعب خصومه السياسيين في طرابلس

تطورات المعركة على الأرض تعزز حظوظه في الرئاسة

صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)
صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)
TT

تداعيات تحرير درنة الليبية (1 من 3) : دخول حفتر درنة يرعب خصومه السياسيين في طرابلس

صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)
صورة أرشيفية لحفتر وهو يؤدي التحية لجنوده خلال حضور عرض عسكري شرق بنغازي (أ.ف.ب)

بينما كانت الرياح تحمل عبق الزهور على حواف الجبل الأخضر تحت شمس الصباح، اقتحم الجنرال الليبي المخضرم خليفة حفتر، آخر معاقل المتطرفين في شرق البلاد، وأصبح يثير مخاوف خصومه في طرابلس، أكثر من أي وقت مضى. لكنه قد يكون في حاجة إلى خوض حروب أخرى في الغرب من أجل بسط كامل سيطرته على الدولة الغارقة في الفوضى.
«الشرق الأوسط» تقدم ثلاث حلقات عن تداعيات تحرير الجيش الوطني، بقيادة حفتر، على الوضع السياسي والعسكري والأمني في عموم ليبيا. وتدور حلقة اليوم عن الحملة السياسية التي تحاول التقليل من انتصارات الجيش وتضخيم اتهامات بارتكاب جرائم ضد مدنيين، خصوصاً بعد قيام عسكريين بإعدام معتقلين يُعتقد أنهم متطرفون، خارج القانون.
في أثناء تمركزهم تحت هوائيات طويلة مع سيارتين تابعتين لسلاح الإشارة العسكرية، تحدث ضباط في الجيش عن الوضع في درنة، مؤكدين أن الجنرال يتعرض في الوقت الحالي لحملة سياسية شرسة من أعدائه، «بسبب أخطاء ثلاثة أو أربعة جنود متهورين»، وأن هذا التصرف «يمكن أن يؤدي إلى تشويه جهوده»، حيث تجري علميات حربية شرسة يقودها في مدينة درنة.
ومن أعلى الهضبة الصخرية، بدت بيوت المدينة، بيضاء. وبين الحين والآخر يتصاعد دخان اشتباكات من منطقة الشلال جنوباً، حيث ما زالت مجموعة من المسلحين تتحصن داخلها.
في صباح اليوم التالي جاءت ثلاث عائلات كانت قد هربت من سطوة المتطرفين، الذين فرضوا سيطرتهم على درنة منذ عام 2011. لكن آمال العبيدي، وهي إعلامية معروفة وابنة المدينة، قالت إنها لم تتمكن من العودة إليها منذ سنوات بسبب سيطرة جماعة «أبو سليم» على مقاليد الأمور فيها. (يطلق اسم «أبو سليم» اختصاراً على خليط من المتطرفين استوطنوا درنة). موضحة أن الوضع في المدينة ما زال صعباً، وأن عملية الجيش، التي تؤيدها، ينبغي أن تكون أكثر احترافية، بالنظر إلى قيام متطرفين بتوريط أطفال في القتال معهم عنوة.
وقال مرافق آخر: «بعض أهالي درنة ظلوا رهائن لدى تنظيمي داعش والقاعدة. وهذا ما ينبغي أن يعرفه الجيش، وهو يتقدم داخل المدينة، حتى يتجنب سقوط أبرياء لا ذنب لهم». في إشارة إلى آخر واقعة عرفتها المعارك، حيث أصيب طفل يدعى عادل فايز في درنة إصابة بالغة.
تقول العبيدي موضحة حقيقة ما حدث «خرج فايز البالغ من العمر 14 سنة لكي يشتري الخبز لوالدته، وبمجرد أن مشى عدة خطوات نحو المخبز في ضاحية إمبخ حتى اعترضته سيارة»، كان يستقلها ثلاثة مسلحين حسب رواية شاهد آخر.
وتوضح الرواية التي استقتها «الشرق الأوسط» من مصادر مختلفة إلى أن راكباً ملثماً نزل من السيارة، وصوب المسدس نحو رأس الطفل، وأجبره على الركوب لكي «يجاهد مع المجاهدين». وفي مساء اليوم نفسه أصيب الطفل بطلقة رصاص في أثناء اشتباكات مع قوات الجيش على المحور الغربي. وهو الآن محتجز بجروحه، لدى محققين في بنغازي.
فيما تقول معلومات أمنية إن «داعش» اختطف العشرات من أطفال درنة، تتراوح أعمارهم بين 13 و17 عاماً بغرض الحرب في صفوفهم، لتعويض النقص في عدد المقاتلين خلال الأسابيع الأخيرة.
وقبل عودتها، ألقت العبيدي نظرة على تخوم درنة ومضت إلى حال سبيها، في انتظار تحرير ما تبقى من أوكار المتطرفين داخل المدينة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 120 ألفاً، لكن نحو ربع هذا العدد نزح إلى بلدات مجاورة طيلة السنوات الماضية، هرباً من الجماعات المسلحة ومن حصار الجيش. وارتكب المتطرفون عدة مذابح، كان أشهرها إعدام خصوم لهم في ساحة مسجد الصحابة بوسط درنة. أما غالبية المهجرين فيقيمون لدى أقارب لهم في مدن طبرق، والقبة، والبيضاء، وشحات، وغيرها.

- درنة موطن المبدعين
في فترة الراحة بدأ جندي من أبناء درنة يتلو مقاطع شعرية للشاعر الشعبي نصيب السكوري، تتحدث عن زملائه الذين وقعوا في السنوات الماضية بأيدي «الدواعش»، الذين قاموا بنحرهم أمام العامة في وسط المدينة، ومن بينهم رجل أمن جرى قتله بطريقة بشعة يدعى غيث نجيب.
وللشعر الشعبي في ليبيا أثر كبير في تشكيل الرأي العام. وفي قصيدة السكوري هناك بيت يهاجم مسلك المتطرفين، متخذاً من واقعة قتل نجيب مثالاً على همجيتهم. وبعد قليل ارتفع صوت العزف على المزمار من جندي «درناوي» يجلس أعلى صخرة، ووجهه إلى المدينة، كأنه يحاول إخراج الثعابين منها. ومن جوار صندوق السيارة، ينظر ضابط في الجيش، من أبناء درنة أيضاً، إلى المدينة من أعلى، كأنه يبحث عن مكان بيته الذي لم يدخله منذ مقتل معمر القذافي، واستقواء المسلحين واستيلائهم على مرافق المدينة.
لقد كانت درنة في ما مضى واحة للإبداع، والعلم، والفنون. ويقول هذا الضابط إن عدداً كبيراً من أبناء درنة، الذين هاجروا إلى أوروبا، أصبحوا ناجحين في أعمالهم، ومن بينهم أطباء جرى تكريمهم من طرف الأجانب.

- تحديات في انتظار حفتر
يرد العسكريون المرابطون على مداخل درنة الجنوبية بأن الجنرال حفتر تعهد بأن يحرر المدينة، وأن يأتي ليصلي في مسجد الصحابة. وحول ذلك تعلِّق العبيدي قائلة: «إذا تمكن حفتر من أداء الصلاة في هذا المسجد بالفعل فسيكون ذلك رسالة قوية للجميع بأنه رجل يمكن الاعتماد عليه لإعادة الأمن في ليبيا». مضيفة أنه «يمكن أن يكون رئيسا للدولة أيضاً»، وهو ما يتفق عليه عدد كبير من أنصار المشير.
لكن حفتر يواجه صعوبات مباشرة، تتسبب فيها أحياناً رعونة بعض الجنود في الميدان. وأخرى غير مباشرة، يديرها خصومه في محاولة لتفتيت القوى التي يستند إليها في أوساط قبائل الشرق، وفي البرلمان.
فقد نسب شريط مصور لبعض جنود الجيش قيامهم بإطلاق النار، دون تحقيق أو محاكمة، على اثنين يعتقد أنهما من المتطرفين في درنة. وتلقف خصوم الجنرال الواقعة بسرعة. وجرى الترويج لها على نطاق واسع، مع التذكير بواقعة ضابط بنغازي الشهير، الرائد محمود الورفلي، الذي ظهر العام الماضي، وهو يفرغ الرصاص في رؤوس متهمين بالإرهاب، دون تحقيق أيضاً، ما تسبب في لغط دولي، وإحراج كبير لحفتر.
وفي محاولة منه لتجنب الانتقادات، شدد حفتر على رجال الجيش ضرورة التزام الانضباط في الحرب، وتسليم الإرهابيين إلى الجهات العسكرية المختصة، والتحقيق في صحة مقطع الفيديو الجديد، وإحالة المتهمين إلى التحقيق.
يحدث هذا في وقت يسعى فيه بعض القوى الرافضة لوجود حفتر في مستقبل ليبيا، لإرباك المشهد في البلاد، أكثر مما هو مرتبك أصلاً، وذلك لعرقلة تقدمه عبر دعم تحركات عسكرية في الغرب الليبي لاستهداف عصب الاقتصاد؛ أي مصافي تصدير النفط الرئيسية في الشمال الأوسط من ليبياً.
كما تأتي هذه التطورات بالتزامن مع نشاط خلايا إرهابية تحاول توجيه طعنات إلى تمركزات الجيش الوطني من الخلف، خصوصاً على جبهتي «سرت»، شمالاً، و«براك الشاطئ» جنوباً، إضافة إلى بنغازي ودرنة.
لقد كان حفتر طوال أكثر من عام قاب قوسين أو أدنى من دخول عملية سياسية توحد البلاد المنقسمة على نفسها، إلا أن الرياح تأتي أحياناً بما لا تشتهي السفن.
وفي هذا السياق يرى ضابط كبير في الجيش أن ما يعرقل عمل حفتر بشكل عام هو الاتفاق السياسي، الذي جرى توقيعه بين خصوم ليبيين في مدينة الصخيرات المغربية أواخر عام 2015، إذ وضع هذا الاتفاق سلطة موازية لسلطة البرلمان، الذي أجبره مسلحون في طرابلس على العمل من بلدة طبرق في أقصى شرق ليبيا. ومن مخرجات البرلمان هناك الحكومة المؤقتة، التي يرأسها عبد الله الثني، وهناك قائد الجيش الوطني نفسه، حفتر.
لقد خلق اتفاق الصخيرات سلطة جديدة برئاسة فايز السراج، أطلق عليها «المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق»، واستحدث مجلساً أطلق عليه «المجلس الأعلى للدولة»، يضم نصيباً من أعضاء البرلمان السابق (كان يسمى «المؤتمر الوطني»)، ومعظمهم أعضاء رفض الليبيون إعادة انتخابهم في 2014.
ويعمل المجلسان المشار إليهما من طرابلس، تحت حماية خليط من العسكريين والميليشيات المدججة بالأسلحة الثقيلة، وهؤلاء لا يفضلون وجود حفتر. وعلى كل حال كان ينبغي، وفقاً لاتفاق الصخيرات نفسه، أن تحظى حكومة الوفاق بمصادقة البرلمان في طبرق، لكنّ هذا لم يحدث.
وتعمل حكومة السراج دون أي مرجعية تشريعية، ودون أي رقابة برلمانية. وهي متهمة من جانب جهاز المحاسبة في طرابلس بإنفاق نحو ثلث تريليون دولار «دون نتيجة، حيث يعاني الليبيون الفاقة والتشرد والأمراض ونقص الخدمات»، كما يقول أحمد قذاف الدم، المسؤول في جبهة النضال الوطني، وأحد أبرز المقربين من العقيد الراحل معمر القذافي.
كما كان ينبغي، لتفعيل مخرجات الصخيرات منذ بداية 2016، عقد جلسة للبرلمان في طبرق لضم الاتفاق السياسي ضمن الإعلان الدستوري الذي يجري العمل به في البلاد كدستور مؤقت. لكنّ هذا أيضاً لم يحدث أبداً. ومع ذلك استمرت حكومة الوفاق في العمل بذريعة أنه معترف بها دولياً. وبالتزامن مع هذا الارتباك السياسي، لم يتوقف حفتر عن ملاحقة الجماعات المسلحة، بما فيها تلك الموالية للمجلس الرئاسي ومجلس الدولة.

- معضلة اتفاق الصخيرات
على الهضبة المطلة على درنة، جاء وقت تناول الطعام، وتقدم خمسة جنود صغار السن من الحواف الصخرية المجاورة، حيث يراقبون مدخل منطقة الشلال لأخذ نصيبهم من المعكرونة المطبوخة على النار بالطماطم. يقول أحد الضباط وهو يمسح لحيته «كلما تقدم الجيش نصب له بعض رجال الصخيرات الفخ تلو الآخر. رأينا هذا حين طردنا الإرهابيين من بنغازي السنة الماضية. ونراه اليوم، لكننا ماضون في طريقنا إلى أن نحرر طرابلس نفسها».
إن لفت الانتباه إلى معضلة اتفاق الصخيرات أمر حاضر في أذهان كثير من العسكريين والسياسيين، ليس على مشارف درنة فقط، ولكن حتى في مناطق كثيرة في ليبيا. ومما يذكره أحد الضباط أن من بين ما تسبب فيه هذا الاتفاق، قيام نواب من البرلمان السابق (المؤتمر الوطني)، وغالبيتهم من المتشددين الإسلاميين، باستغلال الوضع، وتشكيل «مجلس الدولة» ذي الطابع الاستشاري، إلا أنه أصبح واجهة سياسية مهمة.
ويقول هذا الضابط إنه جرى في البداية انتخاب الدكتور عبد الرحمن السويحلي، كواجهة مدنية، رئيساً لمجلس الدولة، حيث بدأ العمل فيه دون انتظار لضمّ الاتفاق في الإعلان الدستوري عن طريق البرلمان. ويعمل هذا المجلس، مثله مثل حكومة الوفاق، دون مرجعية في الدستور والقانون الليبيين حتى الآن. وهذا في حد ذاته مثير لحنق كثيرين، حتى ممن لا يوالون حفتر.
يقول عبد الله ناكر، رئيس حزب القمة، الذي كان يرأس «مجلس ثوار طرابلس»، «هذا أمر غريب للغاية. فنحن لا نعرف من هي الجهة التي يمكن أن تحاسب حكومة السراج. هذه حكومة لم ينتخبها الليبيون، ولم تحصل على الشرعية من جهة منتخبة من الشعب».
ومنذ مطلع عام 2016، أي منذ دخول السراج طرابلس لتطبيق اتفاق الصخيرات، أصبح الوضع السياسي معقداً ويصعب حله، كما اتضح من محاولات تبذلها دول إقليمية، منها مصر والإمارات، ورعاة دوليون عدة، كان آخرهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أواخر الشهر الماضي.
وفي تلخيص لجذور المشكلة، يقول العقيد المهدي البرغثي، وزير الدفاع في حكومة الوفاق: «نحن نعمل حتى الآن دون مصادقة البرلمان، وهذا أمر يزيد الأمور تعقيداً، ولا يشجع على الوصول إلى تسوية. نحن أشبه بوزراء تسيير أعمال. تصحيح المسار السياسي وتوحيد الصفوف هو القادر على إنقاذ ليبيا مما هي فيه».
وعلى كل حال، يعتقد أنصار المشير حفتر بثقة أن الواقع على الأرض أصبح يقول إن حفتر هو القوة الضاربة في الشرق، ويستند في عمله إلى مرجعية سياسية تتمثل في البرلمان المنتخب، أما السراج فيبدو لدى كثيرين كرجل يعتمد في وجوده على التأييد الدولي.
وتضغط فرنسا ودول أخرى على الخصوم الليبيين لتهيئة البلاد لانتخابات قبل نهاية هذا العام. وفي هذا الصدد يقول ناكر إن الحل في الانتخابات، وهي الفيصل بين الجميع. لكن وولفغانغ بوتشاي، المحلل الأمني والسياسي الغربي، يقلل من إمكانية هذا الأمر وفقاً للظروف الراهنة.
يحدث كل هذا اللغط، بينما تحول الجنوب إلى إقليم هش، لا توجد فيه سلطة قوية قادرة على حسم الولاء لهذا أو ذاك. وأصبح مصدر خطر على الدولة الليبية وحتى دول الجوار أيضاً، وذلك بسبب سهولة تحرك المتطرفين والمسلحين ومهربي البشر، كما يشير العقيد البرغثي نفسه. وقد عرفت الشهور الماضية أكثر من مبادرة سياسية للم الشمل، وللقبول باتفاق الصخيرات. لكن من خلال بوابة البرلمان.
ودخلت البلاد في حراك كبير بفضل تولي المبعوث الأممي الجديد، الدكتور غسان سلامة، هذه المسؤولية. وفي تلك الأثناء أبدى الدكتور السويحلي، مرونة غير مسبوقة للدخول في مفاوضات، وأرسل مندوبين منه لاجتماعات عُقدت في مصر وتونس والجزائر. ولعب دوراً في تلطيف الأجواء في أوساط سياسيين أقوياء بمدينته مصراتة، وسياسيين من طرابلس من الموالين للسراج.
ويقول مسؤول في الجيش إن حفتر قرر منذ البداية ترك الأمور للسياسيين، على أن يقتصر عمله على محاربة الجماعات المتطرفة. ورسخت حرب الجيش لتحرير بنغازي، ثم أخيراً درنة، مفاهيم جديدة عن الدور الإقليمي في ليبيا. وتبين أن هناك محورين رئيسيين: محور يطلق عليه البعض «محور الاعتدال»، وتعد مصر أحد أطرافه لأنها تعاني من خطر المتطرفين الذين يسعون لاستهدافها عبر حدودها مع هذا البلد. والمحور الثاني عُرف لدى ضباط في الجيش الليبي باسم «محور الشر»، وفيه قطر وتركيا، حيث يتهم العميد أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش، هاتين الدولتين تحديداً بدعم المتطرفين في بلاده.
وأدت انتصارات الجيش في بنغازي إلى ارتفاع أسهم حفتر محلياً ودولياً، وزار دولاً لم تكن لتقبل به في السابق. وقد وجه إنذاراً إلى السياسيين أواخر العام الماضي بضرورة حل خلافاتهم، وإلا سيضطر الجيش إلى اتخاذ الإجراءات المنوطة به لحماية مقدرات الشعب. كما ارتفعت أصوات تدعو إلى ترشحه كرئيس للدولة. وشعر تيار المتطرفين بالخطر، مثل بعض الخصوم السياسيين الذين يخشون تمدد حفتر خارج بنغازي.
وفي أثناء ظهور الحشود العسكرية استعداداً لتحرير درنة من باقي الجماعات المتطرفة، قبل شهرين، تمكن «الإسلاميون»، من أعضاء «مجلس الدولة»، من قلب الطاولة السياسية، والإطاحة بالدكتور السويحلي من رئاسة المجلس، وانتخاب رئيس جديد هو خالد المشري، الذي يتباهى بانتمائه إلى جماعة «الإخوان»، المصنفة في عدة بلدان، منها مصر، كـ«منظمة إرهابية». ووفقاً لهذا التحول السياسي المثير، تشجع نائبان اثنان على الأقل، في المجلس الرئاسي، لكي يتصرفا وفقاً للمرجعية الأصلية التي ينتميان إليها، حيث بدآ يثيران الفزع في كل مكان من تداعيات الحرب التي يشنها حفتر. أحدهما قادم من جماعة «الإخوان»، والثاني قادم من الجماعة الليبية المقاتلة (الأقرب إلى تنظيم القاعدة).
في هذا السياق يقول ضابط في الجيش «كلما تقدمنا في الحرب ضد الإرهاب، ضيَّقنا الخناق على داعمي (المتطرفين) في الداخل والخارج، ممن يتسترون في ملابس سياسيين ومسؤولين».
وحين دعا الرئيس الفرنسي ماكرون الأفرقاء الليبيين للحضور إلى فرنسا، أواخر الشهر الماضي، كان معلوماً، كما يقول بوتشاي، أن حفتر هو الوحيد من بين القادة المشاركين في مؤتمر باريس، الذي يملك تغيير الواقع على الأرض، أكثر من الآخرين، سواء كان السراج أو المشري، أو حتى المستشار عقيلة صالح رئيس البرلمان المؤيد لحفتر.
ولا تقتصر العملية السياسية، التي تستهدف النيل من حفتر، على تضخيم الأخطاء التي يرتكبها بعض جنوده في ميادين الحرب. لكنّ هناك مسارات أخرى، أهمها محاولة مجلس الدولة، في ثوبه الإسلامي الجديد، استقطاب المستشار صالح في مفاوضات ترمي إلى وقف الحملة العسكرية على درنة.
وسبق أن التقى صالح، في أواخر أبريل (نيسان) الماضي مع المشري في المغرب، التي يوجد فيها نشاط ملحوظ لجماعة «الإخوان». وفي الأسبوع الماضي أرسل المشري، الذي أعلن عدم اعترافه بحفتر، رسالة إلى صالح يبدي فيها استعداده لزيارته في طبرق. وقبل أيام أيضاً وصل إلى صالح وفد من مدينة درنة، من بينهم قيادات مناوئة لحملة الجيش على المدينة. وتابعت قيادات من جماعة «الإخوان» اللقاء عن كثب. وبدا للوفد أنه لم تكن هناك تأكيدات لموقف حاسم لوقف الحرب. ورغم هذه النتيجة فإن زعماء في «الإخوان» يصرون على الاستمرار في طَرْق أكثر من باب، في محاولة لتشتيت جهود الجيش.
ومن أعلى هضبة درنة، حيث تأتي رياح المساء برائحة بارود الاشتباكات، يقول ضابط الإشارة: «المعركة شارفت على الانتهاء هنا، وستبدأ في أماكن أخرى. فالطريق ما زال طويلاً لإخضاع ليبيا لسلطة موحدة».



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.