تطريز «التلِّي» مهارة تعكس تراث الأجداد

مصدر رزق لمئات الفتيات والنساء في صعيد مصر

نساء يُطرّزن التلي في ورشة عمل
نساء يُطرّزن التلي في ورشة عمل
TT

تطريز «التلِّي» مهارة تعكس تراث الأجداد

نساء يُطرّزن التلي في ورشة عمل
نساء يُطرّزن التلي في ورشة عمل

حينما يتحدث المصريون عن «التلَّي»، فإن بشائر الأفراح والسهرات الجميلة تفوح من كلماتهم، كما أن الذاكرة تستعيد بتلقائية شديدة قيم العراقة والأصالة، والخصوصية المصرية الصميمة، وتراث هذه الحرفة الضاربة في القِدم التي تنتشر في عدد من القرى، بمحافظتي سوهاج وأسيوط، في جنوب مصر، وتحظى قرية «جزيزة شندويل» بصفة خاصة بشهرة عالمية في ذلك.
وقد ظهرت ملكة مصر «نازلي» في إحدى الصور الرسمية لها تلبس فستاناً من التلي، كما ارتدته ملكة جمال الكون المصرية شارلوت واصف في المسابقة الرسمية خلال حفل تتويجها قبل 84 سنة، ليكون فستانها عنوان مصريتها وأصالتها هناك.
هذه الأصالة والخصوصية جعلت خبيرة أقمشة التلي المصرية أمال حسن تنشئ كياناً أسمته «الجمعية التعاونية الإنتاجية المشغولات اليدوية التراثية» ينتج أنواعاً مختلفة من نسيجه، كما أنها لم تكتفِ بذلك، بل تحلم بافتتاح مدرسة لتصميمات التلي، تنقل من خلالها أفكارها في إنتاج أشكال متنوعة من أقمشته في «شندويل» من أجل زيادة إنتاجه وصادراته إلى بلدان أوروبا وأميركا، فضلاً عن الكثير من الدول العربية.
قصة حسن مع التلي، حسب ما قالت لـ«الشرق الأوسط»، بدأت أثناء عملها في أحد برامج تنظيم الأسرة؛ ما أعطاها فرصة لدخول الكثير من البيوت، ومعرفة أن معظم الخلافات التي تنشأ بين أهلها سببها ضعف الدخل، وقتها قرّرت أن يكون من ضمن الفعاليات ورش للحرف اليدوية تتعرّف السيدات في إحداها على فن صناعة قماش التلي، أحضرت مسنات من حفظة أسرار الفن في صعيد مصر وراحت تتأملهن أثناء العمل، فاستهواها كثيراً وسعت لإتقانه حتى يتسنّى لها تعليم غيرها.
لم تستغرق مغرمة التلي وقتاً طويلاً، وكانت البداية مع 10 فتيات، قدّمنّ بعد فترة وجيزة إنتاجاً حاز إعجاب الكثيرين، ودفع الصندوق الاجتماعي للتنمية التابع للحكومة إلى تقديم دعم لها، ودعوتها للاشتراك في معارضه المحلية والدولية.
استمرار حسن في الإنتاج، كان رهن انضمام نساء أخريات إلى مشروعها، تعلمن منها، وأجدن فنون التصنيع، ووصل عددهن إلى 250 سيدة، لكنّ مشكلة تسويقه كادت تعوق تقدمها، وحسبما تقول: «كان لا بد من إيجاد حلول لترويجه وفتح قنوات اتصال مع مصادر استخدامه والباحثين عنه، وعرضت منتجاتنا في المعارض التي يشارك فيها المعنيون بقماش التلي من منتجين ومستهلكين ومصدرين. يعتبر التلي نوعاً من التطريز بخيوط رقيقة جداً مصنعة من النحاس، وتنسجه السّيدة بيدها على أنواع معينة من الأقمشة القطنية أو الحريرية، فضلاً عن قماش التل الشبكي نفسه».
لم يتوقّف عمل أمال حسن عند هذا الحد، بل شاركت مع مركز تحديث الصّناعة الحكومي لتدريب 75 سيدة، كما تعاونت مع المجلس القومي للمرأة وجهاز الصناعات الحرفية ودرّبت 25 سيدة، في دورة استمرت 6 أشهر، طرّزن خلالها العباءات والإيشاربات والمفروشات وغيرها من المنسوجات. هي مهنة نسائية بامتياز، لا يعمل فيها رجال مطلقاً، وتتميز مشغولاتهن، حسب أمال، بشكل جميل وقدر عالٍ من المهارة والحرفية؛ لأن خيوط التلّي دقيقة جداً لا يتعدى عرضها 3 مللي، وتُصنع غالباً من الفضة ونادراً من الذهب وكثيراً من النحاس المطلي بالنيكل أو الفضة، وهذا يفرض وجود نوع من التركيز والفن والحرص الكبير لدى السيدات والفتيات، يفرض منتجاتهن على الأسواق في أميركا وإيطاليا وفرنسا وقبرص والإمارات والكويت، وغيرها من بلدان تحرص أمال على الوصول إليها، وتعمل بشكل مستمر على تطوير ما تقدمه من تلي ليناسب الأسواق العالمية.
وتتراوح أسعار فساتين السهرة والزفاف التي تقدّها أمال ما بين 10 آلاف جنيه، و20 ألفاً، وهي مبلغ كبير نوعاً ما، ترى أمال أن سببه اختفاء الإنتاج المصري من التلي والاعتماد على الخارج.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)