ملك مطيعي... كرهه النظام وأحبّه الإيرانيون

جثمان النجم السينمائي ووري الثرى في طهران

جانب من جنازة ملك مطيعي
جانب من جنازة ملك مطيعي
TT

ملك مطيعي... كرهه النظام وأحبّه الإيرانيون

جانب من جنازة ملك مطيعي
جانب من جنازة ملك مطيعي

«قيصر، أين أنت؟ إنّهم يقتلون الناس». شعار من الشعارات التي هتف بها آلاف المعزّين في طهران أمس، أثناء حضورهم مراسم دفن واحد من أهم وأبرز نجوم السينما الإيرانية. رحل الأسبوع الماضي، عن عمر ناهز 88 سنة. كان اسم قيصر أحد ألقاب هذا النجم السينمائي اللامع.
بالأمس، أثناء مراسم العزاء، منعت قوات الأمن الإسلامية رفع أي صورة للنجم السينمائي تكريما له. كانت متخوفة من استغلال بعض المشاركين لهذه المناسبة وتحويلها إلى فعالية معارضة للنظام. ورغم ذلك فقد مرّت مراسم نقل الجثمان إلى مثواه الأخير بسلام كبير.
من أمام دار السينما، بدأت مراسم تشييع الجثمان، بحضور نخبة من ألمع نجومها ونجوم المسرح والفنون في إيران؛ بيد أنّ غالبية المشاركين، ويقدّر عددهم بنحو 30 ألف شخص، كانوا من المواطنين العاديين من كافة الأجيال التي عاشت مع أفلام الفنان ناصر ملك مطيعي طوال ثلاثة أجيال.
بعد فترة قصيرة من تولّي آية الله روح الله الخميني السلطة، مُنع ملك مطيعي وغيره من الممثلين والممثلات من العمل في السينما الإيرانية، وزُج كثيرون منهم في السجن، من بينهم كان مطيعي، كما مُنع ذكر أسمائهم تماما، ناهيك عن المشاركة في الفعاليات الفنية. ورغم ذلك، لم يختف المشهد السينمائي الذي كان موجوداً قبل نظام الخميني، وبفضل التكنولوجيا الحديثة شاهد ملايين الإيرانيين الأفلام الشّعبية عبر الإنترنت، أو قنوات التلفزة الفضائية التي كانت متواجدة خارج إيران.
سلّط ملك مطيعي الضوء على طبقة جديدة في المجتمع الإيراني، إذ كان يؤدي أدورا تعبّر عن حياة المواطنين العاديين إنّما بمواقف غير اعتيادية؛ فقراء لكن نبلاء؛ مهمشون لكن محبون. لقد كان الممثل المفضل لساموئل خاجيكيان، أحد الآباء المؤسسين لأفلام الجريمة والدراما الإيرانية. كرهه الملالي فيما أحبّه الإيرانيون.
ظهر عشق الكاميرا لوجه مطيعي جلياً في فيلمه الروائي الأول «المتشرد»، كما ظهر حبه المتبادل لها. جمع أسلوبه في التمثيل بين القوّة والمرونة والرفعة، وهو ما مكّنه تفادي الوقوع في فخ القولبة الذي كان يمثل خطرا يتعرّض له كافة نجوم السينما خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. في أفلام مثل «الفاتنة» و«مفترق الأحداث» أدّى مطيعي دور الرجل القوي الذي يواجه تحديات عسيرة. وتعلم لاحقاً فنّ التعامل مع التلفاز كوسيط جديد أضاف من خلاله مزيداً من التألق إلى نجوميته السينمائية الرّاسخة.
بدأت السينما الإيرانية عام 1906. من خلال إنتاج عدد من الأفلام القصيرة التي تُصنّف اليوم بأفلام وثائقية. شارك مطيعي في أول فيلم روائي له خلال عشرينات القرن الماضي. وكان «جعفر وجلنار» في عام 1936، الفيلم النّاطق الأول له، وقد أصبح من الأعمال الكلاسيكية في السينما الإيرانية. رغم ذلك، لم تتطوّر صناعة السينما الإيرانية إلّا في نهاية أربعينات القرن العشرين. جذبت أفلام مثل «ثمل بالحب» و«التائب» جمهورا عريضا، الأمر الذي ساعد في بقاء صناعة السينما واستمرارها.
بدأ مطيعي مسيرته المهنية في خمسينات القرن العشرين، وسرعان ما أصبح له جمهور يتابعه وينتظره. بحلول سبعينات القرن الماضي، باتت إيران واحدة من أكبر أربع دول منتجة للأفلام الروائية بعد الولايات المتحدة الأميركية والهند وفرنسا.
في نهاية الخمسينات، حين كنت مراسلا متجولاً لمجلة «روشنفكر» (المثقف) الأسبوعية، أجريت مقابلة مع ملك مطيعي في مناسبات عدّة. كما التقينا بصفتنا أعضاء في نادي سينما طهران الذي كان يرأسه آنذاك، هوشنك كاووسي الناقد السينمائي وصانع الأفلام الشهير.
لم يكن ملك مطيعي سياسيا يوما. لذا لطالما تساءلت عن سبب كراهية آية الله له إلى حد منعه من الظهور على الشاشة، بل ومنع أيضاً ذكر اسمه في وسائل الإعلام التابعة للدولة. قد يكون السبب أن مطيعي كان أول ممثّل إيراني يقبّل ممثلة على شفتيها، وهي الجميلة ويدا قهرماني، في مشهد كان وقعه كالزلزال على إيران بكاملها. انتشرت بعدها شائعة تزعم أنّ آية الله غولبيغاني من قمّ، كاد أن يصاب بأزمة قلبية بعد سماع نبأ هذا الـ«انتهاك» الذي حدث على الشاشة. وبعد مشهد القبلة، اضطرت قهرماني إلى التواري عن الظهور على نطاق واسع، ورفضت أداء أي دور لمدة عامين.
أجاب ملك مطيعي عن سؤال طرحته مجلة «روشنفكر» عليه، عن تلك القبلة التاريخية على شريط السينما قائلاً، إنّه لا يزال يتطلّع إلى «القبلات التي لم تحدث بعد».
من الممثلين المفضلين لمطيعي الفرنسي جان غابين، والإيطالي ألدو فابريزي، والروسي سيرغي بوندارشاك، والبريطاني أليك غينيس، والأميركي فريدريك مارش. كان ملك مطيعي، العاشق للأفلام أو «أغا ناصر»، كما يشتهر بين أصدقائه، يحبّ مشاهدة ثلاثة أفلام أسبوعياً على الأقل. لقد كانت السينما حياته، وظلّ هو حياة السينما الإيرانية وروحها لأجيال.
كان مطيعي الرجل المهذب رمزاً يجسّد كل ما هو جيد في إيران في زمن كثُرت به تلك الأمور.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».