قراءة لنتائج «حزب الله» في الانتخابات اللبنانية

بحصرية السلاح وقوة المال عزز الحزب تمثيله للطائفة الشيعية

أنصار «حزب الله» يعربون عن تأييدهم في بعلبك لزعيم الحزب حسن نصر الله خلال ظهوره في جولة الانتخابات اللبنانية بداية الشهر الحالي (رويترز)
أنصار «حزب الله» يعربون عن تأييدهم في بعلبك لزعيم الحزب حسن نصر الله خلال ظهوره في جولة الانتخابات اللبنانية بداية الشهر الحالي (رويترز)
TT

قراءة لنتائج «حزب الله» في الانتخابات اللبنانية

أنصار «حزب الله» يعربون عن تأييدهم في بعلبك لزعيم الحزب حسن نصر الله خلال ظهوره في جولة الانتخابات اللبنانية بداية الشهر الحالي (رويترز)
أنصار «حزب الله» يعربون عن تأييدهم في بعلبك لزعيم الحزب حسن نصر الله خلال ظهوره في جولة الانتخابات اللبنانية بداية الشهر الحالي (رويترز)

أظهرت نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية التي أجريت أوائل شهر مايو (أيار) الحالي تقدما مهماً لـ«حزب الله»، وأعادت تثبيت موقعه بوصفه أحد أبرز الفصائل على الساحة اللبنانية، كما سلّطت النتيجة الضوء من جديد على مواصلة إطباق الحزب الميليشياوي على قاعدته الشعبية على الرغم من الصعوبات غير القليلة التي يواجهها داخلياً. ويرى مراقبون أن المكاسب الانتخابية المرتقبة التي حققها تشير من ناحية إلى سطوة حصرية السلاح، ومن ناحية أخرى إلى أن قطاعاً من الناخبين الشيعة لا يزال متجاوباً مع الخطاب الطائفي المتصاعد للحزب، وهو يقدِّم الشأن الأمني على الشأن الاقتصادي.

بعض المراقبين ركز على أن الأصوات التي صبّت لصالح «حزب الله» وحليفه الشيعي «حركة أمل»، اللذين حصلا معا على 26 من أصل 27 مقعداً شيعياً في البرلمان اللبناني، أكدت أن الطائفة الشيعية في لبنان، على عكس الطوائف الأخرى، ما زالت تعطي الأولوية للاعتبارات الأمنية على حساب الشأن الاقتصادي. وهذا الأمر تجلى بشكل واضح في مناطق نفوذ الميليشيا المدعومة من إيران في جنوب لبنان والبقاع على الرغم من ازدياد نسبة الفقر في المنطقة الأخيرة، وفقاً لتقرير «التقييم السريع للفقر في لبنان» الذي نشرته الأمم المتحدة، ويعد البقاع من أفقر المناطق في لبنان؛ حيث يعيش 38 في المائة من السكان تحت خط الفقر.
من ناحية أخرى، يشدد مراقبون لبنانيون على أنه يستحيل الفصل بين احتفاظ «حزب الله» بسلاحه حصراً - بخلاف سائر الأحزاب اللبنانية - وتمتعه بقوة تمويلية ضخمة مصدرها بصفة أساسية إيران، وهيمنته على الصوت الشيعي في مناطق نفوذه، وإغلاقه مناطق سيطرته في وجه القوة المنافسة.
- تفاوت جنوبي - بقاعي
إزاء هذا الواقع، بدأ في الفترة الأخيرة كثير من أفراد الطائفة الشيعية من منطقة البقاع، المتاخمة لسوريا في شرق لبنان، يعبِّرون عن امتعاضهم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعانيها المنطقة. وهؤلاء يشكون بالخصوص من التهميش الذي يطالهم، في حين يصب السواد الأعظم من أموال الحزب وتقام المشروعات التنموية في الجنوب اللبناني. وحسب هؤلاء، فإن الميليشيا المدعومة من إيران تخص باهتمام خاص منطقة الجنوب بحجة قربها الجغرافي من إسرائيل، التي أنهت احتلالها للبنان عام 2000 ومن ثم خاضت حرباً دمرت جزءاً لا بأس به من بنية لبنان التحتية بذريعة الرد على عملية لـ«حزب الله» عام 2006.
- نسبة الإقبال
في المقابل، على الرغم من أن «حزب الله» قاد حملة كبيرة داخل معاقل بيئته الطائفية لإقناعها بالاقتراع خلال انتخابات مايو الأخيرة، فلقد لوحظ أن نسبة الإقبال على التصويت لم تتعدّ 49 في المائة في جميع أنحاء لبنان.
ووفق الخبير المختص في شؤون «حزب الله»، علي فضل الله، الذي أشار إلى «تبدّل ولو بنسبة محدودة»، لدى جمهور «حزب الله» الذي بات مهتماً أكثر بالقضايا الخدماتية والتنموية، فالشعب لديه مطالب كثيرة ويشعر بأن الحزب لا يعطي أولوية للمسائل المعيشية. و«بغض النظر عن تأييد البيئة الشيعية المطلق للحزب في صراعه مع إسرائيل، فإنه عندما يتعلق الأمر بإدارة الملفات الاجتماعية والتنموية، فليس الكل راضياً عن أدائه في الدولة» حسب فضل الله. ومن ناحية أخرى، يرى مراقبون للحالة الشيعية في لبنان أن التململ الجماهيري ازداد بعد ظهور «قضايا فساد ارتبطت بها شخصيات تابعة للحزب في البقاع، في انتهاك واضح للمبادئ التي رفعها الحزب ورددها قادته، وسط غياب شبه تام للمشروعات التنموية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة»، والكلام هنا لأحد أبناء منطقة البقاع من الطائفة الشيعية.
- حجم ما تحقق
مع ذلك، وفق الصحافي المخضرم بول خليفة، لم تؤثر جميع هذه الانتقادات سلباً على النتائج التي حققها الحزب الذي عزز عدد مقاعده البرلمانية في الانتخابات؛ إذ سمح قانون التمثيل النسبي الجديد للائتلاف الشيعي بتحقيق نتائج مهمة؛ إذ صبَّ أكثر من 85 في المائة من أصوات الطائفة الشيعية لصالح «حزب الله» و«حركة أمل»، وأغلق عملياً مناطق بوجه منافسيه، في حين مكّنه هذا القانون من اختراق معاقل الطوائف الأخرى.
وبحسب الخبير الإحصائي كمال فغالي، فإن كتلة «حزب الله» ستضم 45 مقعداً برلمانياً؛ أي ثلث البرلمان، إذا جرى احتساب مقاعد حلفائه مثل الحزب القومي السوري الاجتماعي وحزب المردة المسيحي.
يذكر أن الحزب؛ مستقوياً بحصرية السلاح، كان فعلياً فرض اعتماد هذا القانون.
وفي السياق نفسه، كان أمين عام الحزب حسن نصر الله قد تعمَّد في خطاباته الانتخابية حضّ الناخبين على الاقتراع قائلا إنه سيذهب إلى مدن وقرى بعلبك - الهرمل (البقاع الشمالي) إذا وجد الإقبال على الانتخابات متدنياً. كذلك قال في حديث ما قبل 6 مايو؛ أي يوم الانتخابات: «على الجميع أن ينتخب، من دون التذرع بزيارة السيدة زينب أو الإمام الرضا أو الإمام الحسين لأنهم هم سيقولون لكم: اذهبوا وانتخبوا ومن ثم عودوا لزيارتنا». وفي خطاب آخر، اتهم نصر الله كل مَن ينتقد اللائحة الانتخابية لـ«حزب الله» في منطقة بعلبك - الهرمل بأنهم «حلفاء الجماعات المتطرفة»؛ أي «داعش» و«جبهة النصرة»، حسبما ذكرت وكالة الأنباء الوطنية، متعهداً: «لن نسمح لحلفاء (النصرة) و(داعش) بتمثيل سكان بعلبك – الهرمل».
بناءً عليه، ثمة من يرى أن الطائفة الشيعية اللبنانية ما زالت ترى في «حزب الله» الحامي الأول للبلاد في حال نشوب الحرب مع إسرائيل، وكذلك ضد «الإرهاب» (بمعنى قوى الإسلام السنّي المتشدد). ويقول بول خليفة في هذا الصدد: «لذلك ليس من معارضة جدية تُذكر للحزب ضمن قاعدته الشعبية، بل على العكس يتمتع الحزب بشرعية قوية عندما يتعلق الأمر بالنضال ضد إسرائيل والتكفيريين»، على حد تعبيره.
في المقابل، هناك من يقول إن ما قدَّمته الميليشيا المحسوبة على إيران لقاعدتها الطائفية يتعدى الشعور بالأمان في حال الحرب، بل يتمثل أساساً في زرع الشعور بالزهو والثقة والغلبة في المجتمع الشيعي، ودفعه إلى اعتبار أنه بات قوة رئيسية داخل الدولة اللبنانية. ذلك أنه حتى نهاية الحرب الأهلية (1975 - 1990) كان الاعتقاد الشاسع أن المجتمع الشيعي بمعظمه ينتمي إلى الفئات الاجتماعية المحرومة مثل الفلاحين والعمال اليدويين، ويعيش في المناطق الريفية والضواحي الفقيرة. وانعكس هذا الشعور بالتهميش أيضاً على الحكومات اللبنانية حتى بدايات التسعينات. وتُظهر الدراسات حول البيروقراطية اللبنانية التي سبقت الحرب الأهلية أن الطائفة الشيعية كانت - نسبياً - الأقل تمثيلاً في الإدارة. ووفق أحد المواطنين الشيعة - فضَّل عدم الكشف عن هويته - «قبل ظهور (حزب الله)، كانت النظرة إلينا نظرة تعالٍ، وكانت لدينا وظائف بسيطة، وكنا نشغل أدنى المناصب في الإدارات اللبنانية»... أضف أن الطائفة الشيعية كانت غير راضية عن قلة اكتراث الحكومة اللبنانية باحتلال إسرائيل أراضي واسعة من جنوب لبنان الذي يعد معقلاً للطائفة الشيعية، أو تحكُّم الفدائيين الفلسطينيين بالمنطقة هناك، أو الاحتلال العسكري الذي بدأ في الثمانينات.
ولكن، لاحقاً شهدت فترة أواخر الثمانينات - وبالتحديد عام 1989 - تغييرات كبيرة لصالح الطائفة الشيعية اللبنانية؛ إذ رفع «اتفاق الطائف» حجم التمثيل البرلماني الشيعي (من 19 مقعداً إلى 27 مقعداً، من إجمالي 128 مقعداً)، كما وضعها على قدم المساواة مع السنّة، والأهم من ذلك أنه سمح لـ«حزب الله» بالاحتفاظ بترسانته العسكرية بذريعة المقاومة ضد إسرائيل، في حين حُلت جميع الميليشيات الحزبية اللبنانية الأخرى.


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.