وسائل الإعلام ترغم المؤرخ على الاهتمام بالحاضر

«التاريخ الآني» أصبح فرعاً من فروع التاريخ المعترف به

وسائل الإعلام ترغم المؤرخ على الاهتمام بالحاضر
TT

وسائل الإعلام ترغم المؤرخ على الاهتمام بالحاضر

وسائل الإعلام ترغم المؤرخ على الاهتمام بالحاضر

أصدرت المجلة العربية السعودية في عددها الأخير كتاباً جديداً (العدد 260) بعنوان: «الحدث ووسائل الإعلام» لمؤلفه خالد طحطح، الذي يثير فيه قضية طغيان الحاضر على مشهد حياتنا، فالبشرية أصبحت غارقة في بحر الأحداث التي تباغتنا من كل جانب، دون أن تترك لنا فرصة التنفس، خاصة مع تطور وسائل التواصل التي لم يعد دورها مقتصرا على الإخبار بالواقع فقط بل هي أصبحت تسعى إلى صهرنا فيه، وهو ما أثر على مجال التاريخ أيضا، الذي كان في السابق يهتم بالماضي فقط، وبالوقائع بعد أن تكون قد ماتت تماما، ليصبح معانقا للحاضر، فالراهنية أصبحت لها سطوتها.
يؤكد الكتاب على دور «الحدث» في زماننا، والحدث ليس ذلك الذي نهتم بأسبابه، بل الذي نركز فيه على مآلاته، ويذكر الكتاب من الأحداث الأمثلة التالية: هجوم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، خروج الشباب في «الربيع العربي»، سقوط حائط برلين، انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991... فهذه الأحداث العظمى وأخرى أصبحت توجه تاريخنا الحاضر، وهي تشكل موضوعات آنية وفورية لوسائل الإعلام، بل تطرح نفسها على نقاشات المؤرخين.
ويرى المؤلف أن الطفرة الإعلامية والتقدم الهائل في وسائل التواصل، قد تمخض عنهما تحول في مفهوم «الحدث»، وهو ما غير حتى عمل المؤرخ، فالحدث أصبح ينقل في اللحظة وبشكل مباشر صوتا وصورة، مما جعل التاريخ يقع في طزاجة الحدث، فالزمن الرقمي فرض صعود نجم ما يسميه المؤلف «التاريخ الآني»، الذي أصبح فرعا من فروع التاريخ المعترف به اليوم عند المتخصصين. وهنا يذكر لنا المؤلف بعض المعاهد المعاصرة التي أقحمت الحاضر في مجال التاريخ: كمعهد التاريخ المعاصر بميونيخ الألمانية الذي تأسس عام 1952 والذي اهتم بداية بالثورات ثم بالنازية وأحداث الحرب العالمية الثانية، وأيضا المعهد الوطني لتاريخ حركة التحرير بميلانو الإيطالية الذي ظهر عام 1949. أما فيما يخص مصطلحات «الزمن الحاضر» و«التاريخ الآني» و«الراهن» فهي انتشرت وهيمنت منذ أواخر السبعينات خصوصا بفرنسا للدلالة على حوادث الأمس القريب والتي ما زالت آثارها جاثمة على الحاضر، وهنا نذكر معهد تاريخ الزمن الحاضر(IHTP).
ويشير المؤلف خالد طحطح في الفصل الثاني من الكتاب الذي جاء بعنوان: «وسائل الإعلام وصناعة الحدث» إلى أن الاتصال بين الشعوب ليس أمرا جديدا على البشرية، بل هو قديم قدم الإنسان، لكن أدواته تغيرت وتطورت بشكل لم يسبق له مثيل، فالبداية كانت مع اختراع الطباعة التي ساهمت في نشر الكتب وظهور الصحافة، فظهور السينما التي ركزت على الاتصال بالصورة ثم الصورة والصوت، ليأتي بعدها الراديو الذي بدأ ينقل أخبار العالم إلى كل بيت، فالتلفزيون الذي سيعمم في أواسط القرن العشرين والذي كان بمثابة الثورة والنقلة النوعية في إيصال الأحداث إلى عقر المنازل وبشكل مباشر مما عمق انخراط الناس فيما يروج عالميا وفي اللحظة نفسها، لكن في الأخير سيتربع الإنترنت على عرش وسائل الاتصال، حيث يتمكن الإنسان بواسطته من تأمين حاجاته إلى المعلومات وبسرعة هائلة ومن مصادر مختلفة، والذي زاد من قوة ذلك ظهور الهواتف الذكية التي تجعلك في قلب الحدث بحيث لا تترك لك فرصة التنفس لتباغتك فورا بحدث آخر. لقد أصبحت وسائل الاتصال تتحكم في الحياة العالمية: سياسيا، ثقافيا، ماليا... فهي تسطو على مجمل حياتنا، إذ لم نعد نقدر على تخطيها بل أصبحت عند البعض إدمانا خطيرا.
إن الفترة التاريخية المعاصرة تعرف بحسب المؤلف «فورة حدثانية»، فالأحداث أصبحت تفرض وجودها علينا جراء التداول الإعلامي المفرط، كالثورة الثقافية الصينية في 1966 وثورة ماي سنة 1968 وانهيار المعسكر الشرقي، ورحيل ديغول وانفجار 11 سبتمبر، والربيع العربي... إنها أحداث تسلط وسائل الإعلام الضوء عليها وتعيد لها نضارتها، إلى حد يقول فيه المؤلف: «إن الحدث أصبح ديكتاتورا يفرض نفسه علينا بالقوة»، ويصنع في آلة إنتاج الخبر بدقة عالية ليغدو العالم في نهاية المطاف مفعولا إعلاميا، فالإعلام لم يعد يخبر بالحدث فقط بل يجعل منه كيانا ذا معنى.
ولفهم ذلك يضرب لنا المؤلف خالد طحطح مثالين بسيطين وهما: الأول وهو أنه لا أحد يتحدث عن القطارات رغم وجودها الدائم ولا أحد ينتبه لها إلا حينما تحيد عن مساراتها، وكلما كان عدد الضحايا أكثر زاد الحديث عن القطارات... والثاني مرتبط بوجود الطائرات التي لا نتذكرها ولا تعود إلى الذكر المكثف على الألسن إلا حينما تختطف أو تسقط مخلفة القتلى.
باختصار، يلعب الحدث المسلط عليه الضوء إعلاميا دورا هائلا في توجيه نظرنا إلى أمور نغفل عنها، فهو من يجعل نظرنا يتجه نحو الأشياء التي نكون قد أهملناها لتصبح لها الصدارة والأولوية. إن الحدث الطارئ في اللحظة والمشار إليه بكثافة إعلاميا يخرج قضايا إلى السطح كانت مغمورة لا يعبأ بها أحد قط.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!