«الشرق الأوسط» في مهرجان كان السينمائي 12 : انتهى «كان»... فحطت سينما المسلسلات

«ديدبول 2» ضد «أفنجرز»... و«صولو» ضدهما معاً

TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان كان السينمائي 12 : انتهى «كان»... فحطت سينما المسلسلات

انتهى مهرجان «كان» بجوائزه وأتاح للهواة الالتفات إلى يوميات حياتهم المعتادة مرّة أخرى، بدأت تتراءى الآن إخفاقات البعض في تسجيل نجاح ما على شاشة أكبر مهرجانات الدنيا في مقابل عودة الحديث عن السينمات التي لا تحتاج لمهرجانات.
- أزقة وحوارات
في أيامه الأخيرة، وبعد أكثر من أسبوع على سلسلة من العروض المضجرة، نهض بمستوى عروضه وإن لم يكن بقيمتها الإجمالية. عرض فيلم نادين لبكي الجديد «كفرناحوم» الموزع بين حسنات وسيئات متساوية. من ناحية هو فيلم جيّـد في مستويات فنية لا تخترق سقف الإجادة، ومن ناحية أخرى هو فيلم يميل للادعاء والفبركة. يكفي تكبير صورة حي صغير ما ومعالجته كومبيوترياً ليبدو كما لو أنّ بيروت كلها عبارة عن أكواخ وزرائب.
هذا ورد في «مليونير العشوائيات» لداني بويد بشكل مقنّع كون أحداثه تقع في مدينة هندية، كل حي منها بحجم مدينة بيروت ذاتها. لكن عند لبكي الصورة مكبّـرة على لا شيء فعلي على الرّغم من أنّها ترجمت شعورها السينمائي بأنّ ذلك هو المطلوب لإيصال رسالة اجتماعية مناسبة.
فيلم «كفرناحوم»، على ذلك، عمل ناجح وشركة صوني كلاسيكس التي اشترت من لبكي فيلمها السابق، تحمّست واشترت حقوق الفيلم لأميركا الشمالية. لكن من بين الأفلام القليلة التي تلته في العروض، عملان آخران لهما الوقع ذاته: جيد في التشكيل وضعيف في المضمون.
أحدهما هو الفيلم التركي «شجرة الإجاص البري» لنوري بيلج شيلان وأحد الزملاء من النّقاد راهن على أنّه سيكون أفضل ما عرضه المهرجان في دورته. لكنّ النتيجة خاوية. دراما حول شاب يؤلف كتاباً (بعنوان الفيلم) وينشره بعد ساعتين ونيف من بدء الفيلم الذي تصل مدة عرضه إلى ثلاث ساعات. ما سبق ذلك هو مشاهد تقع (في معظمها) بالبلدة الصغيرة التي يقطن فيها مع والديه. هو لا يؤمن كثيراً بمستقبله وأقلّ من ذلك بحسنات أبيه والمحور العائلي يزداد ترسخاً مع استمرار الوضع في تكرار لا يؤدي إلى إضافات. مع كم من الحوار يملأ المسامع ولا يتوقف... عشر دقائق حوار... ربع ساعة حوار... وهناك مشهد حسبت دقائقه: 25 دقيقة حوار.
يحق للزّميل تفاؤله لأنّ شيلان كان نجماً من نجوم المهرجان الفرنسي أكثر من مرّة وهناك العديد من المعجبين به، لكن هذه هي ثمار الشجرة التي زرعها في هذه الدورة وكانت بلا طعم.
الفيلم الآخر «الرجل الذي قتل دون كيشوت» للأميركي الذي يعيش ويعمل في بريطانيا تيري غيليام. ردّد قبل العرض وبعده وربما خلاله أنّه أمضى 25 سنة في تحقيقه. عند مطلع الفيلم يذكر ذلك. يتفاءل المرء راغباً في مشاهدة عمل تجاوز كل المعيقات والمصاعب ومنح المخرج وقتاً طيباً لكي يسدّ ثغراته المحتملة. لكنّ غيليام الأمس لا يزال غيليام اليوم: مشاهد معجوقة ومشغولة ببعض الإتقان، لكن لا شيء داخلها (وداخل الفيلم بالتالي)، له روح قادرة على الوصول إلى ما بعد تيري غيليام ذاته.
- إنقاذ الكون
بعيداً عن كان، وفي العاصمة الإنتاجية الأولى هوليوود، لا شيء مما ورد أعلاه يهم. ملايين البشر يؤمون العروض التجارية وموسم الصيف يبدأ بثلاثة أفلام، اثنان منها ينجزان المتوقع من نجاحهما. الثالث سيهبط للعروض في أيام، لكنّ كل التوقعات هي أنّه سيلتهم الفيلمين الآخرين ويتبوأ مركزاً متقدماً بين كل ما سيعرض خلال هذا الموسم.
الثلاثة تنتمي إلى مسلسلات. النوع الذي يمكن لهوليوود المراهنة على أنّه سيملأ جيوب منتجيها بالمال وحب الحياة.
أولها وصولاً إلى الشاشات كان «أفنجرز: حرب أبدية» لأنطوني وجو روسو. انطلق مدوياً: 258 مليون دولار في أسبوعه الأولى. مليار و610 ملايين في عروضه العالمية حتى فجر يوم أمس. هذا يوازي ما أنجزه الجزء السابق «أفنجرز: عصر الترون» سنة 2015 وقريب من الفيلم الأول من السلسلة «ذا أفنجرز» (2012).
حسنة أكيدة في هذا الجزء هو أنّه لا يتعب من تكرار مشاهد القتال وفصول الحروب وبأفضل طريقة لاهثة ممكنة. المخرجان الشقيقان يؤكّدان على جوهر هذا النوع من الأفلام: مشاهد قتال متوالية لا يفصل بينها إلّا التحضير للمعركة التالية. تلك الاستراحات مملوءة بالشخصيات وتنوّعاتها إذ لدينا نحو 16 «سوبرهيرو» كل واحد يريد احتلال ركنه المتميز، ولو أنّ الصّف الأول محجوز لثلاثة منهم هم كابتن أميركا (كريس إيفانز) وثور (كريس همسوورث) وآيرون مان (روبرت داوني جونيور).
غالبية الباقين من مالئي الكراسي في حفل كهذا ومن بينهم توم هولاند وشادويك بوزمان وبندكت كمبرباتش.
المهمّـة كالعادة هي إنقاذ الكون بكامله.
وإذا كنت متابعاً جيداً لسينما الكوارث والرّعب والخيال العلمي والفانتازيا ستلحظ أنّ المهمّـة المذكورة كانت في حدود بلدات وسط أميركية صغيرة في الخمسينات، ثم اتسعت لتشمل مدناً كبيرة. هذا لم يكن كافياً فأصبح التهديد بالدمار والانطلاق للإنقاذ يخص كل الولايات المتحدة. ومع أنّه في كل مرّة يخرج الأبطال منتصرين وقد قضوا على العدو وشرّه، إلّا أنّ الأعداء يعودون وفي البال ما هو أكبر: ها هو كوكب الأرض بأسره في خطر أو عرضة لطوفان أو لنيازك طائشة.
هذا بدوره لم يعد كافياً ومنذ بضعة أعوام والحديث يتناول إنقاذ الكون بأسره. شيء مضحك لكنّه فعلي. 16 بطلاً خارق القوى والقدرات في مقابل شرير كبير واحد (اسمه ثانوس ويؤديه جوش برولِن) ينوي دمار الأرض وما يحيط بها.
- جمهور غير مخلص
بقي «أفنجرز: حرب أبدية» على قمة العروض الأميركية ثلاثة أسابيع ليخلفه هذا الأسبوع «ديدبول 2». الوحيد بين «السوبر هيروز» الذي يوفر، لجانب حركاته القتالية وقدراته الخارقة، بعض الفكاهة والهزل. ليس أنّها تصيب الهدف غالباً، لكنّها تحمل بعض التغييرات بالمقارنة مع الوجوه المكفهرة للأبطال الآخرين.
أنجز الجزء الأول محلياً 363 مليونا و070 ألفا و709 دولارات. وتمتع بإقبال عالمي أودى به إلى أكثر من 783 مليون دولار من الإيرادات. في المقابل ما يزال الجزء الثاني في مطلع عهده وأنجز للآن 425 مليون دولار عالمياً.
ما دفع هذا الناقد لكره الفيلم الأول يدفعه الآن لكره الجزء الثاني: ذلك التباهي بالذات الذي يحوّل بطله (رايان رينولدز) إلى أضحوكة وفزاعة في الوقت ذاته. القدرة على الفذلكة صوراً وحوارات وكمفهوم عام لحياة تبدو عبارة عن اسكتشات قصيرة. الحوارات هي لطشات لسانية بعضها يقصد الضحك وبعضها يقصد الإعلان عن الذات الفردية وكم تستحق إعجاب الجميع بها وبينهم الشخصية الأساسية ذاتها.
هنا مارفل (المؤسسة العملاقة التي وفرت هؤلاء الأبطال على الورق أولاً، والآن تنقلهم إلى الشاشة الكبيرة بأضخم صورة ممكنة) تسخر من نفسها ومن شخصيات أخرى ابتدعتها شركات أخرى (مثل شخصية «رجال إكس» لفوكس) ولا تبالي.
هذا لا بأس به على أساس لا شيء من هذه الأفلام لا يستأهل الضحك عليه، بما فيها هذا الفيلم. وعلى أساس أنّ الجمهور لم يعد مخلصاً لأبطال معينين ولا لمن يمثلهم على الشاشة. لكنّ «ديدبول 2» كما سابقه، قريب الشبه بشخص يلقي نكاتاً لا تثير الضحك ثم يصرّ على تكرارها.
حين وصول «صولو: حكاية من ستار وورز» سينسى الجمهور الكاسح كلا الفيلمين كما ترجح التقديرات. هذا الفيلم ينتمي مثل كل ما ذكرناه من أفلام القوى الخارقة والخيال العلمي إلى مسلسل سينمائي معروف. لكنّه على المتوفر من مسلسلات أخرى، هو الوحيد الذي استند، منذ بدايته، إلى كتابة وتأليف غير مستمدين من حكايات منشورة على نحو أو آخر.
- فعل أمومة
كذلك هو المسلسل الأقدم بينها جميعاً كون جورج لوكاس ابتدع الفيلم الأول في أواخر السبعينات. لكن كما لو كان شجرة باسقة يتم قضم أحد غصونها لزرعه وتحويله إلى شجرة أخرى. فصولو هو شخص واحد من شخصيات «ستار وورز» كان هاريسون فورد مثله سابقاً في الحلقات الثلاث الأولى (وعاد إليه كضيف شرف لاحقاً سنة 2015) والآن يلعب دور هذا المغامر ألدن إرنرايتش.
ألدن من؟ قد تسأل. ألدن إرنرايتش. لا يهم إنّه ليس معروفاً إلّا لمن لاحظه في «مرحى يا قيصر» (2016)، أو في «القواعد لا تطبق» (2016)، فحتى هاريسون فورد لم يكن معروفاً عندما لعب لجانب كاري فيشر ومارك هاميل بطولة «ستار وورز».
ليس أنّ كل الأفلام المعروضة مع مطلع موسم الصيف هي من هذا النوع الجانح صوب الأكشن والمغامرة و«تعالوا لأريكم العجائب»، بل هناك أفلام ذات بطولات إنسانية ويقوم بتمثيلها بشر وليس بيكسلز.
هناك الفيلم التشويقي المتمثل في «اقتحام» (Breaking In) لجيمس ماكتيغ وهو أفضلها: حكاية أم (غبريال يونيون) التي تسعى لاستعادة ابنها المخطوف بكل ما تملكه من عناد وعاطفة أمومة.
هناك الفيلم الكوميدي «حياة الحفل» (Life of the Party) لبن فالكوني حيث - وفي واحدة من تلك الخروقات للعادة - تقرر الأم ماليسا ماكارثي حضور دروس ابنتها الشّابة في الصف ذاته، لأنّها الطريقة التي ستعالج بها الكآبة بعدما تركها زوجها لأخرى.
ثم هناك الفيلم الاحتفائي بالشخصيات التي تجاوزت سنوات منتصف العمر (والبعض يقول سنوات ما بعد ذلك أيضاً)، وهو «نادي الكتاب» وهن أربع ممثلات محدّدات هن جين فوندا (80 سنة)، دايان كيتون (72 سنة)، كانديس برغن (أصغر من كتون بأربعة أشهر) وماري ستينبرغن (65 سنة). لجانب هؤلاء الممثلات بضعة رجال من الذين عاشوا ردحاً على الشاشة أيضاً مثل آندي غارسيا وكريغ ت. نلسون ورتشارد دريفوس وإد بكلي جونيور.

- أفلام موسم الصيف 2018
سبعة أفلام أخرى ذات ضخامة إنتاجية (وضحالة فكرية؟) قادمة في الطريق لتشبع نهم الهواة.
The Incredibles 2
رسوم متحركة من النوع غير البريء عن تلك العائلة التي تعيش في فقاعتها الخاصة مع شخصياتها الغريبة.
Jurassic World‪:‬ Fallen Kingdom
الديناصورات ضد البشر والبشر ضد بعضهم البعض في هذا الجزء الجديد من المسلسل الذي ينتجه ستيفن سبيلبرغ لكل الأعمار.
The First Purge
مرادف للفيلم الناجح The Purge وفيه نظرة على عالم مستقبلي باتت فيه الجريمة معفاة من العقاب.
The Ant‪ - ‬Man and the Wasp
من ابتداعات مارفل العديدة هذا الجزء الثاني من «الرجل النملة» (في كل شيء ما عدا ضخامة الإنتاج). الجزء الأول حقق نجاحاً كبيراً بالطبع.
Skyscraper
هذا ليس جزءاً لشيء لكن من يدري، قد يكون فاتحة. دواين جونسون مقاتل ينتقل من العراق إلى الصّين في مهمة لإنقاذ العالم مرة أخرى.
Mission Impossible‪ - ‬ Fallout
عودة توم كروز (55 سنة) إلى بطولة تلك الحلقات التي يتصدّى فيها لمهام تبدأ مستحيلة ثم تذوب تدريجياً بعد كل مشهد جديد.
Ocean‪’‬s 8
عوض جورج كلوني ومات دامون وبراد بت ودون شيدل، سنشاهد ساندرا بولوك وكايت بلانشت وسارا بولسون وريحانا وهن يخططن للسرقة الكبرى.


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)