«داعش» واستغلال البريق الدعائي

«ولايات» إرهابية متناثرة يتم التحكم فيها عن بُعد

آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
TT

«داعش» واستغلال البريق الدعائي

آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)

كل الحيثيات التي تحاك حول تنظيم داعش لا تعكس إلا مدى براغماتيته، واستغلاله لكل ما حوله من أجل إثبات استمرارية وجوده ومدى قوته، وإن أثبت ذلك مدى تناقض توجهاته الأخيرة مع الرسالة المحورية أو الأهداف الرئيسة التي بُني عليها التنظيم. إذ إن تكثيف الهجمات الإرهابية في دول أخرى بعيداً عن مناطق الصراع التي بات استهداف التنظيم فيها علنياً من قبل القوات الدولية، والانتقال إلى ما سمّاه التنظيم «ولايات» تتضمن ولاية خراسان التي تشمل أفغانستان والمناطق الحدودية في باكستان وآسيا الوسطى، إضافة إلى مناطق أخرى مثل ولاية سيناء وليبيا والقوقاز والجزائر، يعد هدفاً من أجل الابتعاد عن المركزية والمخطط الأوّلي لتأسيس ما يسمى دولة الخلافة، ومحاولة لتعويض الخسائر التي تكبّدها تنظيم داعش، لا سيما من خلال استهداف دول تحوي أقليات ممن يشتكون من تهميشهم واختلافهم عن بقية المجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى سهولة تجييشهم وحثهم على الانضمام للتنظيم، والاستفادة من تسترهم خلف جنسياتهم الأوروبية كما يحدث في الآونة الأخيرة في كل من فرنسا وبريطانيا ودول أخرى. الأمر الذي يظل كما هو دون تغيير هو تحوُّل تنظيم داعش الجديد من خلافته الواقعية في سوريا والعراق إلى ما سماه التنظيم «ولايات» متناثرة يتم التحكم فيها عن بُعد.

استمرارية «المد الداعشي»
يظل الأمر الأدهى والأصعب في معالجته من قبل المجتمع الدولي هو محاولة إيقاف المد الداعشي ومدى تأثيرهم على الآخرين من خلال استحواذهم على العالم الإلكتروني واستمرارهم في بث رسائلهم ليس فقط المشفَّرة منها وإنما كذلك عبر برامج مثل «يوتيوب» و«تويتر» وكذلك موقع «غوغل»، حيث لا يزال أعضاء التنظيم يتواصلون مع الآخرين ويسهمون في استقطاب الذئاب المنفردة أو الجماعات الإرهابية في المناطق التي يسهل التغلغل فيها مما ينعدم فيها الأمن أو يضعف. ويبقى الهم الإرهابي الأعمق هو كيفية إثارة الرأي العام وتخويف الآخرين سواء عبر حملات تهديدية مثل ما يحدث مؤخراً من تهديد للاعبي كرة القدم مثل الصور الدموية التي انتشرت في المواقع الإلكترونية والتي يظهر فيها كل من اللاعبين ميسي ورونالدو، أو حتى تهديد تنظيم داعش لمقر كأس العالم القادم في روسيا واختصارهم لتهديداتهم بمقولتهم المتداولة في الآونة الأخيرة: «نحن في روسيا». وصورة الاستاد الرياضي «لوجنيكي» في روسيا مع عبارة: «ستمتلئ الأرض بدمائكم». مثل هذه الحملات الدعائية التي بات التنظيم الداعشي ينثرها في أرجاء العالم السيبراني ليست فحسب بدافع إثارة الرعب وإنما استغلال عامل الإثارة والتشويق من أجل دفع من تمده مثل هذه الرسائل الإعلامية المتطرفة للانضمام إليهم والقيام بهجمات إرهابية وإن كانت من خلال ذئاب منفردة أو عبر الحصول على دعم معنوي أو لوجيستي عن بُعد، وهو ما يرتكز عليه التنظيم في الآونة الأخيرة من استعراض مسرحي يبحث عن المتهافتين عليه.
وتستمر هذه الحملات في الازدهار على الرغم من تضافر الجهود الدولية من أجل التخلص منها، على سبيل المثال جهدت السلطات البريطانية في هجماتها على وكالة «الأعماق» الداعشية، إضافة إلى اكتشافها أماكن وجود بعض المتطرفين من خلال أنشطتهم الإلكترونية مثل ما حدث في كل من بلغاريا وفرنسا ورومانيا. وفي الوقت ذاته يظهر استغلال المناسبات الدينية مثل شهر رمضان الذي يشن فيه تنظيم داعش حملات مكثفة من أجل تحريض الآخرين على القيام بهجمات إرهابية، وإن كانت عشوائية دون تقنين مثل التحريض على طعن الآخرين في أماكن اكتظاظ الناس، بما انحرف عن المسار التقليدي للتنظيمات الإرهابية ليستحيل بشكلٍ أو بآخر إلى ما هو أشبه بعصابات إجرامية بفروع متناثرة.

استغلال توقيت رمضان
ويأتي توقيت الهجمات التي تكثفت مؤخراً متزامناً مع شهر رمضان، كعادة التنظيم في تركيزه على الهجمات في هذا التوقيت واستغلاله له من أجل تجييش مشاعر المتعاطفين معهم من التخريبيين ممن يؤمنون بزيادة مكاسبهم الدينية في حال قتلهم «الكفار» في مثل هذا التوقيت، وتأليب الآخرين وحثهم على اقتراف المزيد من الهجمات الإرهابية. من جهة أخرى يظهر سعي تنظيم داعش لإثبات وجودهم في القارة الأوروبية، من خلال الهجمات التي تم اقترافها عبر «الذئاب المنفردة» أو الخلايا الصغيرة، ويتجلى ذلك من خلال حادثة الطعن في باريس مؤخراً، والتي ارتكبها الفرنسي من أصل شيشاني حمزة عظيموف فأسفر عن قتل شخص وإصابة أربعة آخرين، الأمر الذي يجسد زيادة نشاط التنظيم في القارة الأوروبية. وقد كشفت السلطات الفرنسية عن 416 متبرعاً شاركوا في تمويل تنظيم داعش من خلال مبالغ زهيدة تظهر أشبه بتبرعات خيرية وإن كانت بغرض تمويل التنظيم الإرهابي. الأمر الذي يثبت استمرارية وجود أرض خصبة متقبلة للتطرف في أماكن عديدة من العالم.

توجه عشوائي نحو قارّة آسيا
لم يكن من قبل هناك أي دلائل تشير إلى توجه تنظيم داعش إلى توسعة نطاق دائرته إلى منطقة جنوب شرقي آسيا. إلا أنه مؤخراً يمعن في استغلال المناطق التي تتسع لتلقِّي التنظير وأدلجة تنظيم داعش مثل ما حدث مؤخراً في إندونيسيا التي يصعب التحكم بالأعداد المفاجئة من المتطرفين فيها مؤخراً، بالأخص وأن ذلك لم يقتصر على شبان أو رجال شرسين، وإنما تضمن أسراً انتحارية بأكملها. فما حدث في سورابايا من هجمات انتحارية استهدفت عدة كنائس بالإضافة إلى مركز شرطة شنتها عدة أسر تضمنت أطفالاً تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة والثامنة عشرة. إحدى هذه الأسر مكونة من 5 أشخاص نفّذت هجوماً انتحارياً في سورابايا على مركز للشرطة، وقد قام رب الأسرة ديتا أوبريارتو وهو زعيم في إندونيسيا لجماعة أنصار الدولة، بإنزال زوجته وابنتيه في عمر 9 و12 عاماً، قرب كنيسة لتفجرن أنفسهن بأحزمة ناسفة. الأمر الذي يعكس استغلال التنظيم أي شخص حي يمكنهم الاستفادة منه، بما في ذلك أطفال ونساء كتوجُّه جديد، قد لا يدل إلا على مبلغ إفلاس التنظيم وبحثه عن أي شخص يمكنه القيام بالهجوم الانتحاري أو أعمال العنف. مثل ما حدث من استغلال لأسر إندونيسية انضمت إلى تنظيم داعش وتجييش أطفال بأعمار مختلفة فيما يثير التعجب والدهشة في مدى أدلجتهم إلى الأمر الذي يعطي عائلة كاملة القناعة بالانتحار وقتل الآخرين.
مثل هذا الالتفات إلى منطقة جنوب شرقي آسيا لا يبدو من استراتيجيات تنظيم داعش الأولوية، وقد يعود ذلك إلى صعوبة التغلغل إلى دول مثل سنغافورة وماليزيا. تظل إندونيسيا من الدول الأكثر سهولة في التأثر، وحسب السلطات الإندونيسية فإن ما يزيد على 930 إندونيسياً قد توجه إلى جبهات القتال مع تنظيم داعش في كل من العراق وسوريا. ويصعب نسيان ما تعرضت له بالي في عام 2002 من تفجيرات أودت بحياة ما وصل إلى مئتي سائح. التفجيرات الأخيرة التي استهدفت كنائس في إندونيسيا تبعتها حملة دعائية قوية من قبل تنظيم داعش محملة بصور الهجمات من أجل حث المتطرفين فيها على القيام بالمزيد من الهجمات وذلك عبر منشورات بلغة البهاسا الإندونيسية «اقتلوا عابدي الأصنام أينما كانوا». الأمر الذي يؤكد انغماس تنظيم داعش في براغماتية مستفحلة، وأخذه منحًى متطرفاً في تحقيق أسرع وأعظم النتائج أينما كان الموقع الجغرافي، بغض النظر عن إن كانت منطقة جنوب شرقي آسيا ليست ضمن التخطيط الأولي لتنظيم داعش.

وجود «داعشي» في خراسان
من جهة أخرى يظهر انتقال تنظيم داعش إلى منطقة خراسان والتي تشمل كلاً من أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى منذ عام 2014، والتي يسعى فيها لمد نفوذه وإقامة خلافة في منطقة أخرى قد يسهل إرساء قواعده فيها نتيجة وعورة تضاريسها وضعف الأمن فيها، وذلك بعد أن استحال على التنظيم أن يقيم «الخلافة الداعشية» في كل من سوريا والعراق، وإن كان ذلك في معقل تنظيم القاعدة، بالأخص بعد انسحاب قوات حلف الشمال الأطلسي من أفغانستان. وكشف الرئيس الأفغاني أشرف غني أن عدد مسلحي تنظيم داعش في أفغانستان يصل إلى ألفي مسلح. فيما سعى التنظيم لإثبات وجوده ومدى قوته من خلال استهداف الأقليات مثل الشيعة إضافة إلى القوات الأفغانية سعياً في إبادتهم. إضافة إلى الاحتذاء باستراتيجية «القاعدة» في أفغانستان من حيث التحريض على مهاجمة القوات الأميركية الدخيلة على المنطقة والانتقام منهم نتيجة تهجمهم على الأفغان. ولا يظهر تخوف التنظيم من استحواذ حكومة «طالبان» على السلطة في أفغانستان، وإن ظهر العديد من المواجهات العنيفة بين الجهتين تكررت مراراً. وقد شن تنظيم داعش حملة إعلامية من أجل استقطاب مؤيدين والمزيد من المنضمين إليهم في منطقة خراسان. مثل التسجيل المرئي في مارس (آذار) 2018 بعنوان: «أرض الله الواسعة»، والذي وجه التنظيم من خلاله رسالة إلى مؤيديه للانضمام إليه في معاقله في أفغانستان سواء في شمالها في ولاية جوزجان وفي شرقها في ولاية ننغرهار، وقد ظهر في التسجيل المرئي مقاتلون داعشيون في جبال تورا بورا، أيْ معقل أسامة بن لادن وأتباعه، فيما شدد التسجيل على استنكار الوعيد الذي قام به الرئيس الأميركي تجاه التنظيم المتطرف. وعلى الرغم من مدى سيطرة حركة طالبان في منطقة أفغانستان فإن التسجيل المرئي أشار إلى مدى استبداد «طالبان» في فرضها الضرائب على الأفغان وتجارة الهيروين هناك، وذلك في سعي لتأليب المواطنين الأفغان على حكومة طالبان. كل ذلك لا يدل إلا على استمرارية وجود التنظيم في الساحة الدولية على الرغم من تضافر الجهود الدولية للتخلص منه عسكرياً واستخباراتياً. ويظل مأزق التغلغل الإلكتروني وتأليب المستضعفين اجتماعياً ونفسياً من أجل تحويلهم إلى أشخاص تدميريين لا يكترثون إن أدى حقدهم وغضبهم إلى انتحارهم وحصد أرواح الآخرين معهم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.