«حياة غاليليو»... العلاقة بين المعلومة الزائفة والمد العنصري

المخرج البريطاني ماكني يسقط مسرحية بريشت على عصرنا

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية
TT

«حياة غاليليو»... العلاقة بين المعلومة الزائفة والمد العنصري

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية

عُرضت مؤخراً على مسرح أكسفورد البريطاني مسرحية «حياة غاليليو» للكاتب الألماني برتولت بريشت، وهي من ترجمة الكاتب المسرحي ديفيد هار وإخراج كولن ماكني. وقام بدور البطولة، الممثل القدير ريتشارد ريدشو دور غاليليو (1564 - 1642)، العالم الأعزل الذي أشهر سلاح المعرفة في وجه الكنيسة الكاثوليكية.
وكان بريشت قد كتب «حياة غاليليو» في العام 1943 مستلهماً حياة وأفكار عالم الرياضيات الشهير الذي عاش في القرن السابع عشر. ولكنها تبدو وكأنها كُتبت بالأمس القريب، إذ أن أبرز مضامينها الدلالية تتراوح بين التشديد على أهمية العلم والبرهنة على حكمة التاريخ، وهما اتجاهان نحن في أمَس الحاجة إليهما في عصر «ما بعد الحقيقة»، حسب تعبير الكاتب الصربي ستيف تيسش.
تؤكد مسرحية غاليليو على أن نجاح سياسات الطغاة في خداع الجماهير كان نتيجة لتداعي المعايير المعرفية القويمة التي أفضى إليها عصر النهضة وما تلاه من عقود تُقدِّس العلم. حتى عندما يكذب القائد كذباً فاحشاً، قد يظن الضمير الجمعي لملايين العامة أنه يفضح خداع وسائل الإعلام! وبينما يعتبر اليمين المتطرف تك السياسيات منصة لحركة قومية لا تعْدم التمرد. ويظن ماكني أن الطين يزداد بلة بتفتت النيوليبرالية الغربية التي احتكرت الحقيقة المطلقة زمناً، وكذا سعي العامة إلى المعلومات من مصادر تتخذ التحامل شعاراً ومذهباً.
وفي سياق متصل بمنظومة الجدل الجديدة تلك بكل ما تنطوي عليه من تدليس، يتوصل العرض إلى أن فكرة «المعمل» أو «الفلك» أو «الرياضيات» باتت خارجة عن السياق. فمكون الأكسجين والنيتروجين لا ينتجان بالضرورة أكسيد النيتروجين في العرف السائد، وإنما ما يروج له المروجون عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو ما يفلح «الشبِّيح» الإنترنتي في أن يقنع - أو يرهب - به الآخرين.
وإذ يظهر علينا رئيس ينتمي إلى العالم الغربي لينكر - عن جهل أو مكر، وفي العام 2018 - حقيقة الاحتباس الحراري وخطورته على الكرة الأرضية، يرتبط هذا العصر العاري من الحقيقة بالمؤسسات السياسية والثقافية ضمن تصاعد أسهم الشعبوية وارتداد الغرب إلى العنصرية في عصر قد نصفه أيضاً «بعصر ما بعد التعددية».
وتوحي المسرحية بوجود علاقة تكافلية بين المعلومة الزائفة والمد العنصري. فاليمين المتطرف هو الجهة السياسية الأكثر استفادة من تغييب الوعي مما يعيدنا إلى قول جاليليو إن السياسيين «طالما كذبوا علينا، ولكن إلى أي مدى بمقدورنا تصديقهم حين تتناقض خطاباتهم مع العلم ذاته؟» وهكذا تتابع مشاهد المسرحية متكئة على تساؤل بسيط مفاده: هل قد يصل بنا الحال أن يقنعنا أحدهم أن الأرض كفت عن الدوران حول الشمس؟
كما يتطرق غاليليو إلى واجبه في إماطة اللثام عن المحظور و«تخفيف عبء الوجود الإنساني» حسب وصفه، معتقداً أنها معركة ينقصها التكافؤ بين المعرفة العلمية وبنى اجتماعية وأيديولوجية تدعي الاستحقاق الأخلاقي في عالم انقلب ضيقاً معتماً كالكفن في اتكاله على عزلة المختلف وإنكاره للواقع الساطع كالشمس.
ولكن لغة المسرحية المحايدة القاطعة تشارف كوناً فسيحاً لا يصم الموضوعية بالنسبية. ومن وحي تفتيت ثنائيات الشك واليقين، والغيب والواقع، يجْمع النص، بعد أربعمائة عام من صرخة غاليليو، بين هذا الرنين السرمدي والواقع المعاصر. إذ يبصر العرض حاضر المشاهدين في بلورة سحرية، سارداً قصة رائد يبرهن لتلميذه أندريا على اكتشاف كوبرنيكوس بأن الأرض تدور حول الشمس باستخدام مقعد ومصباح وتفاحة!
ولكن الكهنة يرفضون التطلع إلى تلسكوبه ورؤية أقمار المشترى بأنفسهم، فالمنشغلون بالغيبيات لا يتهاونون مع تدنيس المقدسات. وكرجل «مهرطق» بلور نظريات لا تحاكي الواقع المعاش، يستدعيه الفاتيكان فيصطدم فكرياً «بالراهب الصغير» الرجعي المتوجس من أي خلخلة لقبضة الدين على الحياة الاجتماعية.
تجيء النهاية مخيبة للآمال حين يخضع العلم للضغط الديني، ويجاري جاليليو التلفيق ليذهب كل خطابه عن التقدم العلمي أدراج الرياح. أكانت تضحية من جانبه أم أنه خذل ما كرس له حياته من تفكير عقلاني؟ المؤسف أن الخطاب السياسي المعاصر يتشكل في مثل ذلك المناخ من خلال المصالح المتبادلة، وتتجلى مظاهره في تخريب كل جدل منطقي أو حوار مدروس.
وهكذا تنطلق هذه المسرحية الكلاسيكية من بيئتنا المعاصرة ببصيرة رؤيوية لتقترح لمحات متقاطعة مع مجريات عصرنا عندما يهن عزم إنسانية تناصر العقلانية في وجه الخوف. ولا يهم حقاً كم دمدم غاليليو بحقائق لا تقبل الجدل، حقائق «سوف يتردد صداها صرخة كونية تشي بالرعب».
تنتهي المسرحية بمنح غاليليو لأندريا نسخة من كتابه ليهربها عبر الحدود، ناقلاً لنا خبرة تحيلنا إلى عبثية الواقع على الصعيدين الفكري والعلمي: «لو كررتَ الكذبة بقوة أكبر ولمدة أطول، سوف يصدقها الناكرون». واليوم، تتوارى فكرة العلم في مقابل البروباغاندا وقدرة كل مؤسسة على تلوين الحقيقة، وينعكس الزيف البشري القادر على إنتاج الضلالات باعتباره المرجعية الأولى والأخيرة.


مقالات ذات صلة

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

يوميات الشرق تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه (البوستر الرسمي)

«الماعز» على مسرح لندن تُواجه عبثية الحرب وتُسقط أقنعة

تملك المسرحية «اللؤم» المطلوب لتُباشر التعرية المُلحَّة للواقع المسكوت عنه. وظيفتها تتجاوز الجمالية الفنية لتُلقي «خطاباً» جديداً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
يوميات الشرق برنامج «حركة ونغم» يهدف لتمكين الموهوبين في مجال الرقص المسرحي (هيئة المسرح والفنون الأدائية)

«حركة ونغم» يعود بالتعاون مع «كركلا» لتطوير الرقص المسرحي بجدة

أطلقت هيئة المسرح والفنون الأدائية برنامج «حركة ونغم» بنسخته الثانية بالتعاون مع معهد «كركلا» الشهير في المسرح الغنائي الراقص في مدينة جدة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق أشرف عبد الباقي خلال عرض مسرحيته «البنك سرقوه» ضمن مهرجان العلمين (فيسبوك)

«سوكسيه»... مشروع مسرحي مصري في حضرة نجيب الريحاني

يستهد المشروع دعم الفرق المستقلّة والمواهب الشابة من خلال إعادة تقديم عروضهم التي حقّقت نجاحاً في السابق، ليُشاهدها قطاع أكبر من الجمهور على مسرح نجيب الريحاني.

انتصار دردير (القاهرة )
الاقتصاد أمسية اقتصاد المسرح شهدت مشاركة واسعة لمهتمين بقطاع المسرح في السعودية (الشرق الأوسط)

الأنشطة الثقافية والترفيهية بالسعودية تسهم بنسبة 5 % من ناتجها غير النفطي

تشير التقديرات إلى أن الأنشطة الثقافية والفنية، بما فيها المسرح والفنون الأدائية، تسهم بنسبة تتراوح بين 3 و5 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي بالسعودية.

أسماء الغابري (جدة)

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.