مجلة «علوم إنسانية» الفرنسية: مفكرو العلوم المائة

مجلة «علوم إنسانية» الفرنسية: مفكرو العلوم المائة
TT

مجلة «علوم إنسانية» الفرنسية: مفكرو العلوم المائة

مجلة «علوم إنسانية» الفرنسية: مفكرو العلوم المائة

أصدرت مجلة «علوم إنسانية» عددا استثنائيا في أبريل (نيسان) ومايو (أيار) 2018 جاء على شاكلة موسوعة تضم أكثر من مائة مفكر في العلوم الإنسانية، إلى درجة تحس، والمجلة بين يديك، وكأنك تحمل مخاض البشرية في التداول الغربي خلال قرنين من الزمن، وهي تحاول استيعاب الظاهرة الإنسانية المنفلتة.
نقرأ في افتتاحية العدد التي وقعها «نيكولا جورني» أن العلوم الإنسانية قد ظهرت متأخرة مقارنة بالعلوم الحقة التي أخذت الدرب الآمن للعلمية مبكرا، فهي لم تتجاوز منذ نشأتها القرنين، محاولة تقليد نجاحات العلوم الطبيعية التي تمكنت عن جدارة من تكميم الظاهرة الجامدة والحية والسير بها نحو الموضوعية.
كما يشير «جورني» إلى أنه إذا كان القرن التاسع عشر هو قرن التاريخ والنظرة التطورية للأشياء والذي سيمهد لظهور العلوم الإنسانية، فإن القرن العشرين سيكون فيه بروز ساطع لها، حيث سينبثق علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والأنثروبولوجيا... بل ستظهر مدارس وتيارات مشهورة نذكر منها: الوضعية، الماركسية، المدرسة السلوكية (Behaviorisme) والتطورية الجديدة والمدرسة المعرفية... والتي كانت تتنافس فيما بينها لتتقدم الواحدة على الأخرى ممسكة بالركب.
لقد قررت مجلة «علوم إنسانية» أن تجمع لقرائها أكثر من مائة مفكر وضعوا بصمة في فهم الظاهرة الإنسانية، وذلك بطريقة متسلسلة، فكان التقسيم إلى خمس محطات أساسية بدءا من سنة 1800 إلى حدود الساعة مع نعت كل مرحلة بعنوان جامع معبر عن نوع الانشغال الذي شغل بال المفكرين، وبما أنه يصعب أن نتحدث عن كل مفكر على حدة، فالأمر يتجاوز هذا المقال، فإننا سنطمع فقط في التعريف بهذا العدد، ونتحدث عن الخطوط العريضة لكل محطة على حدة، فما هي هذه المحطات؟
المحطة الأولى: تم تحديدها من سنة 1800 إلى سنة 1914 وجاءت بعنوان: «الآباء المؤسسون»، وجمعت 26 مفكرا وكانت البداية للاقتصادي الشهير آدم سميث (1723-1790) والذي كتب عنه دوروثي بيكون صفحتين مكثفتين بعنوان: «من الأخلاق إلى الاقتصاد»، والذي تلاه في الترتيب عالم الاجتماع والفيلسوف والمفكر السياسي ألكسيس دو توكفيل والذي خصص له سولون كاروف مقالا بعنوان «الديمقراطية الهشة»، ونجد أيضا حديثا عن داروين بعنوان: «من القرد إلى الإنسان» وعن جون استوارت مل بعنوان «مكتشف أخلاق الحد الأدنى» وكارل ماركس بعنوان: «فيلسوف بالرغم منه» وإدوارد تايلور بعنوان: «كل الشعوب لها ثقافة»... واستمرت المجلة في تقديم الشخصيات المؤثرة في الحقبة الأولى والذي ختمته بالفيلسوف إدموند هوسرل بعنوان: «ميلاد الفينومينولوجيا».
المحطة الثانية: تم تحديدها من 1914 إلى 1945 واختير لها كعنوان: «نظريات من أجل القرن العشرين» وضمت 14 مفكرا، وافتتحت باللساني الكبير فيردناند سوسير(1857-1913) والذي كتب حوله نيكولاس جورنيه مقالا بعنوان: «المنعطف اللغوي الحديث»، ثم تلاه مقالان لكاثرين هالبين واحد عن الفيلسوف البرغماتي جون دوي بعنوان: «التربية عن طريق التجربة» والثاني عن فتجنشتين بعنوان: «سحر اللغة»، ونجد مفكرين آخرين مثل: الأنثروبولوجي مالينوفسكي الذي دشن الملاحظة بالمشاركة، وأيضا واطسون بمعية سكنير حيث اشتغلا على علم السلوك، ولا تزال تجاربهما على الحيوانات شاهدة على أعمالهما، وكذلك مارغريت ميد التي وقفت عند ثقل الثقافة وكيف أن شعوبا تعيش السلم وشبابها لا يعيشون أبدا المراهقة، التي ما هي إلا صناعة الزمن الحديث، ودون أن ننسى مدرسة الحوليات بزعامة: لوسيان فيبفر ومارك بلوخ...
المحطة الثالثة: وتم تحديدها من سنة 1945 إلى 1960 وجاءت بعنوان: «التقدم في المحكمة» وضمت 19 مفكرا نذكر منهم: تالكوت بارسنز الذي كتب عنه جان فرنسوا دورتيه مقالا بعنوان: «المجتمع كنسق». وكذلك نجد مقالا عن غاستون باشلار بعنوان: «العلم يتجاوز التجربة» ومقالا عن نوربرت إلياس بعنوان: «الحضارة انطلاقا من الأخلاق» ومقالا عن الثنائي إدوارد سابير وبنجامين وورف اللذين تحدثا عن اللغة باعتبارها رؤية للعالم، فهي تشكل تصوراتنا. ودون نسيان: ميلاني كلاين في رؤيتها للتحليل النفسي عند الأطفال، والطبيبة وعالمة النفس الإيطالية ماريا مونتيسوري التي فتحت سبلا للتعلم باستقلال عند الأطفال، وسيمون دو بوفوار التي كرست جهدها للحديث عن قوة الجنس اللطيف، وحنا أرندت التي فكرت في شرور الحداثة.
المحطة الرابعة: تم تحديدها من سنة 1960 إلى 1975 وجاءت بعنوان: «زمن البنيات والتفاعلات» وضمت 22 مفكرا نذكر منهم نعوم تشومسكي بمقال عنه بعنوان: «في البحث عن نحو عالمي» وهربرت سيمون بعنوان: «العقلانية المحدودة» وجون أوستين بعنوان: «عندما نقول، نفعل»، ورومان جاكبسون بعنوان: «مكتشف البنيوية» وكلود ليفي ستروس بعنوان: «فيلسوف الأثتنولوجيين» وبيير بورديو بعنوان: «الهيمنة الرمزية» وجون بيير فرنان بعنوان: «في البحث عن الإنسان الإغريقي» وميشال فوكو بعنوان: «التاريخ في خدمة الفلسفة» وجون راولز بعنوان: «تحقيق في الإنصاف».
المحطة الخامسة: تم تحديدها من سنة 1975 إلى سنة 2006 وجاءت بعنوان جامع: «ما بعد الحداثة» وضمت 20 مفكرا، نذكر منهم بيتر سينجر بعنوان: «وضع حد للتمييز بين أنواع الكائنات» وريتشارد داوكينز بعنوان: «منطق الإيثار عند المورث الأناني» ويورغن هابرماس بعنوان: «التواصل كأساس اجتماعي» وجيل دولوز بعنوان: «تحرير تدفقات الرغبة» وتشارلز تايلور بعنوان: «هوية الإنسان الحديث» وفرنسيسكو فاريلا بعنوان: «الإنسان جسد مفكر» وجوديت باتلر بعنوان: «تقويض النوع» وأكسل هونيث بعنوان: «الصراع من أجل الاعتراف» وأنطونيو داماسيو بعنوان: «المشاعر محرك للعقل».
كم نتمنى أن تقدم لنا مجلاتنا العربية مثل هذا العمل الذي قدمته مجلة «علوم إنسانية» متبعة مسار التفكير العربي بشكل متسلسل مع الوقوف عند أهم الإشكالات التي اعترضته، وأهم الرموز الفكرية التي ظهرت على السطح، وطبعا بقالب مختصر وميسر، ليسهل على الطلاب وعلى الباحثين، بل وحتى على العادي من الناس استيعاب تاريخية أفكارنا. فلا استئناف دون استيعاب، ولا استيعاب دون تعميم للخيرات الفكرية للكل.



قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.