خفوت «داعش» يُجدد طموح «القاعدة»

بعد تآكل «دولة البغدادي» وسقوط راياتها

تنظيم «القاعدة» عندما كان يصول ويجول في انتهاج الإرهاب والتطرف
تنظيم «القاعدة» عندما كان يصول ويجول في انتهاج الإرهاب والتطرف
TT

خفوت «داعش» يُجدد طموح «القاعدة»

تنظيم «القاعدة» عندما كان يصول ويجول في انتهاج الإرهاب والتطرف
تنظيم «القاعدة» عندما كان يصول ويجول في انتهاج الإرهاب والتطرف

«القاعدة» و«داعش» هما من سيتصدر المشهد الدموي خلال الفترة المقبلة، بعد سنوات من العنف رجحت كفة «الدواعش»، وسبقها صولات وجولات لـ«القاعدة» في انتهاج التطرف... فتنظيم «القاعدة» الذي قاد حركة «الجهاد العالمي» منذ نحو عقدين، ونفّذ عملية هزت أميركا في «11 سبتمبر» عام 2001، وكان في عِزّ قوته حينها، تعرض لمرحلة «خفوت» عززها ظهور تنظيم «داعش»، إلا أن الأخير دخل في مرحلة خسارة الأرض والنفوذ، وتساقطت راياته في العراق وسوريا، ولاذ جنوده الأكثر شهرة بالفرار. والسؤال الذي يطرح نفسه حالياً: هل يعني ذلك أن «القاعدة» لديها فرصة للعودة إلى المشهد من جديد؟
مختصون وباحثون في الحركات الأصولية بمصر أجابوا عن السؤال، بتأكيد أن التحركات الأخيرة لـ«القاعدة» تكشف طمعاً وطموحاً و«ألاعيب» في ذلك، خصوصاً أن التنظيم لمس انحسار نظيره «الداعشي» وفشل مشروعه، ما دفعه لتفسير هذا الفشل كانتصار لمشروع «القاعدة» القديم.
المختصون قالوا لـ«الشرق الأوسط» إنه على الرغم من أن أوروبا ترى أن تنظيم أيمن الظواهري فرصة للتخلص من «الدواعش»، فإن الغرب لن يسمح لـ«القاعدة» بتوسيع مناطق نفوذه، وسط تخوفات من استعادة التنظيم لعافيته وإمكانية التحول لكيان «داعشي» جديد.
وبحسب التقارير، لم تشهد السنوات الأخيرة أحداثاً إرهابية كبيرة تبنتها «القاعدة» في الدول الغربية، سوى تبنيها أحداث عنف طالت صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية عام 2015، وهي الصحيفة التي اعتادت تقديم صور مسيئة لسياسيين وشخصيات دينية، ما فُسر وقتها بمحاولة للفت النظر الدولي إلى تنظيم الظواهري. كما تبنَّت جماعة مختار بلمختار، فرع التنظيم في المغرب العربي، في يناير (كانون الثاني) 2016، عملية إرهابية في العاصمة البوركينابية واغادوغو، لحقها هجوم انتحاري على معسكر للجيش اليمني في محافظة لحج أغسطس (آب) من العام ذاته.
وطوال السنوات الماضية توقف نشاط «القاعدة» الإرهابي في الغرب؟ فسَّره مراقبون بأن «التنظيم خسر الكثير من كبار قادته الذين قتلوا بعد أن استهدفوا في كثير من العمليات، مما أعجز التنظيم الإرهابي عن مواصلة التخطيط والتنظيم لعملياته على المستوى الدولي... وكذلك لأن الأحداث الإقليمية في الشرق الأوسط جذبت أنظار التنظيم للتركيز عليها أكثر من الغرب... فضلاً عن تغيير أولويات (القاعدة) بعد ظهور (داعش) بوصفه تنظيماً متطرفاً مُنافساً يقوم بتنفيذ اعتداءات مماثلة في الغرب»... بالإضافة إلى أن بعض فروعه عبر العالم أعلنت انضمامها لـ«داعش» ومبايعة البغدادي، الذي استقطب أتباعاً وشباباً عبر العالم ذكوراً وإناثاً للالتحاق بالتنظيم.
العميد السيد عبد المحسن، الخبير الأمني، قال إن تنظيم «القاعدة» يتعامل مع الفترة الراهنة كفرصة للعودة إلى الواجهة من جديد، لكنه لن يتمكن من العودة إلى سابق عهده في المشهد «الجهادي»، بل سوف يشهد تحسناً نسبياً وليس طفرة، ولن يحقق ما فعله «داعش» في الغرب.
لكنَّ المراقبين شددوا على أن أميركا لن تسمح لـ«القاعدة» بتوسيع مناطق نفوذها، إلا في الحدود المرسومة لها... والغرب يرى بالفعل «القاعدة» فرصة للتخلص من «داعش»، لكنه يخشى من أن يستعيد «القاعدة» عافيته ويتحول إلى كيان «داعشي» جديد.
وقال عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «الضربات التي تلقاها (داعش) في سوريا والعراق، جعلت (القاعدة) يحاول أن يرث الإرث الداعشي، خصوصاً أن هناك أكثر من إصدار مرئي للظواهري يهاجم فيه (داعش) وزعيمه أبو بكر البغدادي، وأنهما (أي داعش والبغدادي) يسعيان لشق صف المسلمين، وأنهم صاروا أسوأ من (الخوارج) فلم يكتفوا بتكفير المسلمين بما ليس بمُكفر، بل كفروا العلماء والصالحين والمجاهدين».
يُذكر أن الظواهري انتقد البغدادي في تسجيلات صوتية كثيرة، وقال: «نحن (أي في القاعدة) لا نرى البغدادي كشخص جدير بالخلافة (المزعومة)»، واستغرب قيامه بتنصيب نفسه كخليفة بدعم من بعض الأشخاص «غير المعروفين»، وأنه دعا لما سماه «الدولة الإسلامية» من خلال «القوة والتفجيرات والسيارات المفخخة عوضاً عن ترغيب الناس وتخييرهم».
وقال الخبراء إن هجوم الظواهري على البغدادي عزز الخلاف بين «القاعدة» و«داعش» منذ الإعلان عن دولة «الخلافة المزعومة» في 2014، إذ كان زعيم «داعش» ومن معه يرون أن فرض «دولة» بالقوة هو الخيار الوحيد لتنفيذ حلم «الإسلاميين» في دولة... فيما كان يرى تنظيم «القاعدة» أن طرح فكرة «الدولة الإسلامية» في الظروف الدولية الحالية يضر بالفكرة وسيكون مصيرها الفشل.
يُشار إلى أنه قبل عام 2014 كان ينظر إلى «القاعدة» بوصفها التهديد المتطرف الأكبر ضد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين استناداً إلى تاريخ التنظيم الحافل بالتخطيط والدعم للاعتداءات الإرهابية، لكن عند ظهور «داعش» بات المنافس لـ«القاعدة»... وشهدت الفترة ما بين عامي 2015 و2017 رقماً قياسياً للعمليات الإرهابية في أوروبا وتبنى جميعها «داعش» وليس «القاعدة».
من جهته، أكد الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في الحركات الأصولية، أن انهيار «القاعدة» خلال السنوات الماضية ليس سببه موت مؤسس التنظيم أسامة بن لادن (الذي ورث الظواهري قيادة «القاعدة» إثر مقتله في باكستان عام 2011)، لكن هذا هو حال التنظيمات التكفيرية منذ نشأتها، تنتهي من خلال حدوث اختلافات فكرية بين قياداتها، وانشقاقها إلى كيانات صغيرة متصارعة أكثر تطرفاً، مشيراً إلى أن أغلب قيادات «القاعدة» انشقت عنه، كما حدث في العراق وسوريا.
وانفرط العقد بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش» مع اندلاع الصراع في سوريا عام 2011 عندما قرر البغدادي توسيع نشاطه ليشمل الأراضي السورية. فأرسل عدداً من مقاتليه لإقامة موطئ قدم لهم هناك... وفي بداية الأمر رحب الظواهري بدخول «داعش» معترك القتال ضد النظام في سوريا، إلا أنه كان يحبذ الاحتفاظ بـ«جبهة النصرة» (فرع «القاعدة» في سوريا) ككيان مستقل بقيادة سوريا منفصلة عن التنظيم المقبل من العراق.
غير أن قيادة «داعش» رأت أن التنظيم الذي يقوده الظواهري أفرط في التركيز على القتال في سوريا وتجاهل العراق. وظل الخلاف قائماً بين القيادتين حتى عام 2013 حين أصدر الظواهري أمره للبغدادي بالامتثال، غير أن الأخير رفض وأعلن من جانب واحد وضع «جبهة النصرة» تحت قيادته العراقية... وفي مطلع عام 2014 اندلع القتال بين التنظيمين، وعلى أثره أنهى الظواهري رسمياً علاقات «القاعدة» بـ«داعش» التي أعادت تسمية نفسها بـ«الدولة» في العراق والشام... وسعى «داعش» إلى التركيز على العدو المحلي في المجتمع الإسلامي قبل الخارجي بالقضاء على كل من يخالفه فكرياً ودينياً، بينما أنكفأ «القاعدة» إلى الداخل.
إلا أن انتهاء «داعش» الذي تآكلت «دولته المزعومة» عقب الانتصارات الواسعة التي حققتها القوات المتعاونة بقيادة أميركا، دفع كثيراً من «الجهاديين» لفقد انبهارهم بـ«داعش»، وهو ما يعني نجاحاً ضمنياً لتصور «القاعدة» عن «الدولة الإسلامية»... وفي سبيل ذلك تسعى «القاعدة» لاستعادة صدارتها للتنظيمات الإرهابية.
وقال مراقبون، عكست تصريحات قادة «داعش» زيادة وتيرة استهداف الغرب بعد انشقاقه عن «القاعدة». وأظهر بحث أعده كول بونزيل، الباحث الأميركي في شؤون التطرف الإسلامي، أنه منذ عام 2014 شرع قادة «داعش» في الدعوة بانتظام في تصريحاتهم العلنية إلى شن اعتداءات على الغرب وصلت لـ12 اعتداء... وحدث تغيير في أسلوب تصريحات قيادات «داعش»، ففي مايو (أيار) 2012، وقبل فترة طويلة من الانفصال الرسمي بين «القاعدة» وفرعها في العراق، صرح أبو محمد العدناني، المتحدث السابق باسم التنظيم، بأن «عدوك الأول هو الشيعة، وبعدهم يأتي اليهود ثم الصليبيين». وبعد أقل من عامين وتحديداً في مارس (آذار) 2014، تساءل العدناني قائلاً: «من العدو اللدود للولايات المتحدة؟ من يقلق مضاجعهم؟ من يهددهم؟ الإجابة بلا شك (المجاهدون)... أليست (داعش) في أول قائمة (المجاهدين) تلك؟». وبعد ذلك بأربعة شهور دعا البغدادي إلى شن هجمات على «الصليبين الغربيين». وفي سبتمبر 2014 أفتى البغدادي بقتل أي أميركي أو أوروبي خصوصاً الفرنسيين، أو مواطني الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد «داعش».
ويشار إلى أن الظواهري أكد في إحدى كلماته المسجلة الأخيرة أن التنظيم لا يزال يعتبر أميركا العدو الأول الأولى بـ«الجهاد»، وتلقت أميركا هذه الكلمات كمؤشر على استعادة «القاعدة» شوكتها متذكرة أحداث 11 سبتمبر.
لكن الزعفراني قال إن تنظيم «القاعدة» قام خلال الفترة الماضية بإطلاق تصريحات عن عمل تفجيرات في أوروبا وأميركا دون أن يكون لها أي أثر فعلي على الأرض.
وتعرض «داعش» خلال الأشهر الماضية، إلى خسائر متلاحقة على يد القوات العراقية التي يساندها الحشد الشعبي والمقاتلون العشائريون والبيشمركة في غرب وشمال العراق، بعد أن تراجعت قدراته القتالية في تلك المناطق التي فقد السيطرة عليها، إلى جانب استهداف أبرز رموزه وقادته.
وأعلن الجيش العراقي تحرير الفلوجة بالكامل، التي كانت تحت سيطرة التنظيم منذ يناير 2014، وتحرير الرمادي، التي كانت تحت سيطرة التنظيم منذ مايو عام 2015. كما طردت القوات العراقية «داعش» في أغسطس الماضي من القيادة، ثم الموصل آخر معاقل التنظيم الرئيسية.
وأشار مراقبون إلى أن «هناك انتقالاً الآن من تنظيم (داعش) إلى (القاعدة)، ومن دخلوا (داعش) يقفزون من سفينتها إلى سفينة (القاعدة)».
وقال أحمد بان، الخبير في الحركات الأصولية، إن «طبيعة التيارات والجماعات المتشددة حدوث تشظٍّ وخلافات وصراعات داخلية بينها تحت لافتات التكفير المُتبادل، فـ(داعش) كان تطوراً طبيعياً لـ(القاعدة)، وحاول التهامها في مرحلة من المراحل، و(داعش) بدأ فكرة التكفير داخله بين (الحازميين)».


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.