خفوت «داعش» يُجدد طموح «القاعدة»

بعد تآكل «دولة البغدادي» وسقوط راياتها

تنظيم «القاعدة» عندما كان يصول ويجول في انتهاج الإرهاب والتطرف
تنظيم «القاعدة» عندما كان يصول ويجول في انتهاج الإرهاب والتطرف
TT

خفوت «داعش» يُجدد طموح «القاعدة»

تنظيم «القاعدة» عندما كان يصول ويجول في انتهاج الإرهاب والتطرف
تنظيم «القاعدة» عندما كان يصول ويجول في انتهاج الإرهاب والتطرف

«القاعدة» و«داعش» هما من سيتصدر المشهد الدموي خلال الفترة المقبلة، بعد سنوات من العنف رجحت كفة «الدواعش»، وسبقها صولات وجولات لـ«القاعدة» في انتهاج التطرف... فتنظيم «القاعدة» الذي قاد حركة «الجهاد العالمي» منذ نحو عقدين، ونفّذ عملية هزت أميركا في «11 سبتمبر» عام 2001، وكان في عِزّ قوته حينها، تعرض لمرحلة «خفوت» عززها ظهور تنظيم «داعش»، إلا أن الأخير دخل في مرحلة خسارة الأرض والنفوذ، وتساقطت راياته في العراق وسوريا، ولاذ جنوده الأكثر شهرة بالفرار. والسؤال الذي يطرح نفسه حالياً: هل يعني ذلك أن «القاعدة» لديها فرصة للعودة إلى المشهد من جديد؟
مختصون وباحثون في الحركات الأصولية بمصر أجابوا عن السؤال، بتأكيد أن التحركات الأخيرة لـ«القاعدة» تكشف طمعاً وطموحاً و«ألاعيب» في ذلك، خصوصاً أن التنظيم لمس انحسار نظيره «الداعشي» وفشل مشروعه، ما دفعه لتفسير هذا الفشل كانتصار لمشروع «القاعدة» القديم.
المختصون قالوا لـ«الشرق الأوسط» إنه على الرغم من أن أوروبا ترى أن تنظيم أيمن الظواهري فرصة للتخلص من «الدواعش»، فإن الغرب لن يسمح لـ«القاعدة» بتوسيع مناطق نفوذه، وسط تخوفات من استعادة التنظيم لعافيته وإمكانية التحول لكيان «داعشي» جديد.
وبحسب التقارير، لم تشهد السنوات الأخيرة أحداثاً إرهابية كبيرة تبنتها «القاعدة» في الدول الغربية، سوى تبنيها أحداث عنف طالت صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية عام 2015، وهي الصحيفة التي اعتادت تقديم صور مسيئة لسياسيين وشخصيات دينية، ما فُسر وقتها بمحاولة للفت النظر الدولي إلى تنظيم الظواهري. كما تبنَّت جماعة مختار بلمختار، فرع التنظيم في المغرب العربي، في يناير (كانون الثاني) 2016، عملية إرهابية في العاصمة البوركينابية واغادوغو، لحقها هجوم انتحاري على معسكر للجيش اليمني في محافظة لحج أغسطس (آب) من العام ذاته.
وطوال السنوات الماضية توقف نشاط «القاعدة» الإرهابي في الغرب؟ فسَّره مراقبون بأن «التنظيم خسر الكثير من كبار قادته الذين قتلوا بعد أن استهدفوا في كثير من العمليات، مما أعجز التنظيم الإرهابي عن مواصلة التخطيط والتنظيم لعملياته على المستوى الدولي... وكذلك لأن الأحداث الإقليمية في الشرق الأوسط جذبت أنظار التنظيم للتركيز عليها أكثر من الغرب... فضلاً عن تغيير أولويات (القاعدة) بعد ظهور (داعش) بوصفه تنظيماً متطرفاً مُنافساً يقوم بتنفيذ اعتداءات مماثلة في الغرب»... بالإضافة إلى أن بعض فروعه عبر العالم أعلنت انضمامها لـ«داعش» ومبايعة البغدادي، الذي استقطب أتباعاً وشباباً عبر العالم ذكوراً وإناثاً للالتحاق بالتنظيم.
العميد السيد عبد المحسن، الخبير الأمني، قال إن تنظيم «القاعدة» يتعامل مع الفترة الراهنة كفرصة للعودة إلى الواجهة من جديد، لكنه لن يتمكن من العودة إلى سابق عهده في المشهد «الجهادي»، بل سوف يشهد تحسناً نسبياً وليس طفرة، ولن يحقق ما فعله «داعش» في الغرب.
لكنَّ المراقبين شددوا على أن أميركا لن تسمح لـ«القاعدة» بتوسيع مناطق نفوذها، إلا في الحدود المرسومة لها... والغرب يرى بالفعل «القاعدة» فرصة للتخلص من «داعش»، لكنه يخشى من أن يستعيد «القاعدة» عافيته ويتحول إلى كيان «داعشي» جديد.
وقال عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «الضربات التي تلقاها (داعش) في سوريا والعراق، جعلت (القاعدة) يحاول أن يرث الإرث الداعشي، خصوصاً أن هناك أكثر من إصدار مرئي للظواهري يهاجم فيه (داعش) وزعيمه أبو بكر البغدادي، وأنهما (أي داعش والبغدادي) يسعيان لشق صف المسلمين، وأنهم صاروا أسوأ من (الخوارج) فلم يكتفوا بتكفير المسلمين بما ليس بمُكفر، بل كفروا العلماء والصالحين والمجاهدين».
يُذكر أن الظواهري انتقد البغدادي في تسجيلات صوتية كثيرة، وقال: «نحن (أي في القاعدة) لا نرى البغدادي كشخص جدير بالخلافة (المزعومة)»، واستغرب قيامه بتنصيب نفسه كخليفة بدعم من بعض الأشخاص «غير المعروفين»، وأنه دعا لما سماه «الدولة الإسلامية» من خلال «القوة والتفجيرات والسيارات المفخخة عوضاً عن ترغيب الناس وتخييرهم».
وقال الخبراء إن هجوم الظواهري على البغدادي عزز الخلاف بين «القاعدة» و«داعش» منذ الإعلان عن دولة «الخلافة المزعومة» في 2014، إذ كان زعيم «داعش» ومن معه يرون أن فرض «دولة» بالقوة هو الخيار الوحيد لتنفيذ حلم «الإسلاميين» في دولة... فيما كان يرى تنظيم «القاعدة» أن طرح فكرة «الدولة الإسلامية» في الظروف الدولية الحالية يضر بالفكرة وسيكون مصيرها الفشل.
يُشار إلى أنه قبل عام 2014 كان ينظر إلى «القاعدة» بوصفها التهديد المتطرف الأكبر ضد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين استناداً إلى تاريخ التنظيم الحافل بالتخطيط والدعم للاعتداءات الإرهابية، لكن عند ظهور «داعش» بات المنافس لـ«القاعدة»... وشهدت الفترة ما بين عامي 2015 و2017 رقماً قياسياً للعمليات الإرهابية في أوروبا وتبنى جميعها «داعش» وليس «القاعدة».
من جهته، أكد الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في الحركات الأصولية، أن انهيار «القاعدة» خلال السنوات الماضية ليس سببه موت مؤسس التنظيم أسامة بن لادن (الذي ورث الظواهري قيادة «القاعدة» إثر مقتله في باكستان عام 2011)، لكن هذا هو حال التنظيمات التكفيرية منذ نشأتها، تنتهي من خلال حدوث اختلافات فكرية بين قياداتها، وانشقاقها إلى كيانات صغيرة متصارعة أكثر تطرفاً، مشيراً إلى أن أغلب قيادات «القاعدة» انشقت عنه، كما حدث في العراق وسوريا.
وانفرط العقد بين تنظيمي «القاعدة» و«داعش» مع اندلاع الصراع في سوريا عام 2011 عندما قرر البغدادي توسيع نشاطه ليشمل الأراضي السورية. فأرسل عدداً من مقاتليه لإقامة موطئ قدم لهم هناك... وفي بداية الأمر رحب الظواهري بدخول «داعش» معترك القتال ضد النظام في سوريا، إلا أنه كان يحبذ الاحتفاظ بـ«جبهة النصرة» (فرع «القاعدة» في سوريا) ككيان مستقل بقيادة سوريا منفصلة عن التنظيم المقبل من العراق.
غير أن قيادة «داعش» رأت أن التنظيم الذي يقوده الظواهري أفرط في التركيز على القتال في سوريا وتجاهل العراق. وظل الخلاف قائماً بين القيادتين حتى عام 2013 حين أصدر الظواهري أمره للبغدادي بالامتثال، غير أن الأخير رفض وأعلن من جانب واحد وضع «جبهة النصرة» تحت قيادته العراقية... وفي مطلع عام 2014 اندلع القتال بين التنظيمين، وعلى أثره أنهى الظواهري رسمياً علاقات «القاعدة» بـ«داعش» التي أعادت تسمية نفسها بـ«الدولة» في العراق والشام... وسعى «داعش» إلى التركيز على العدو المحلي في المجتمع الإسلامي قبل الخارجي بالقضاء على كل من يخالفه فكرياً ودينياً، بينما أنكفأ «القاعدة» إلى الداخل.
إلا أن انتهاء «داعش» الذي تآكلت «دولته المزعومة» عقب الانتصارات الواسعة التي حققتها القوات المتعاونة بقيادة أميركا، دفع كثيراً من «الجهاديين» لفقد انبهارهم بـ«داعش»، وهو ما يعني نجاحاً ضمنياً لتصور «القاعدة» عن «الدولة الإسلامية»... وفي سبيل ذلك تسعى «القاعدة» لاستعادة صدارتها للتنظيمات الإرهابية.
وقال مراقبون، عكست تصريحات قادة «داعش» زيادة وتيرة استهداف الغرب بعد انشقاقه عن «القاعدة». وأظهر بحث أعده كول بونزيل، الباحث الأميركي في شؤون التطرف الإسلامي، أنه منذ عام 2014 شرع قادة «داعش» في الدعوة بانتظام في تصريحاتهم العلنية إلى شن اعتداءات على الغرب وصلت لـ12 اعتداء... وحدث تغيير في أسلوب تصريحات قيادات «داعش»، ففي مايو (أيار) 2012، وقبل فترة طويلة من الانفصال الرسمي بين «القاعدة» وفرعها في العراق، صرح أبو محمد العدناني، المتحدث السابق باسم التنظيم، بأن «عدوك الأول هو الشيعة، وبعدهم يأتي اليهود ثم الصليبيين». وبعد أقل من عامين وتحديداً في مارس (آذار) 2014، تساءل العدناني قائلاً: «من العدو اللدود للولايات المتحدة؟ من يقلق مضاجعهم؟ من يهددهم؟ الإجابة بلا شك (المجاهدون)... أليست (داعش) في أول قائمة (المجاهدين) تلك؟». وبعد ذلك بأربعة شهور دعا البغدادي إلى شن هجمات على «الصليبين الغربيين». وفي سبتمبر 2014 أفتى البغدادي بقتل أي أميركي أو أوروبي خصوصاً الفرنسيين، أو مواطني الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد «داعش».
ويشار إلى أن الظواهري أكد في إحدى كلماته المسجلة الأخيرة أن التنظيم لا يزال يعتبر أميركا العدو الأول الأولى بـ«الجهاد»، وتلقت أميركا هذه الكلمات كمؤشر على استعادة «القاعدة» شوكتها متذكرة أحداث 11 سبتمبر.
لكن الزعفراني قال إن تنظيم «القاعدة» قام خلال الفترة الماضية بإطلاق تصريحات عن عمل تفجيرات في أوروبا وأميركا دون أن يكون لها أي أثر فعلي على الأرض.
وتعرض «داعش» خلال الأشهر الماضية، إلى خسائر متلاحقة على يد القوات العراقية التي يساندها الحشد الشعبي والمقاتلون العشائريون والبيشمركة في غرب وشمال العراق، بعد أن تراجعت قدراته القتالية في تلك المناطق التي فقد السيطرة عليها، إلى جانب استهداف أبرز رموزه وقادته.
وأعلن الجيش العراقي تحرير الفلوجة بالكامل، التي كانت تحت سيطرة التنظيم منذ يناير 2014، وتحرير الرمادي، التي كانت تحت سيطرة التنظيم منذ مايو عام 2015. كما طردت القوات العراقية «داعش» في أغسطس الماضي من القيادة، ثم الموصل آخر معاقل التنظيم الرئيسية.
وأشار مراقبون إلى أن «هناك انتقالاً الآن من تنظيم (داعش) إلى (القاعدة)، ومن دخلوا (داعش) يقفزون من سفينتها إلى سفينة (القاعدة)».
وقال أحمد بان، الخبير في الحركات الأصولية، إن «طبيعة التيارات والجماعات المتشددة حدوث تشظٍّ وخلافات وصراعات داخلية بينها تحت لافتات التكفير المُتبادل، فـ(داعش) كان تطوراً طبيعياً لـ(القاعدة)، وحاول التهامها في مرحلة من المراحل، و(داعش) بدأ فكرة التكفير داخله بين (الحازميين)».


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.