رامبرانت زائر من «العصر الذهبي» بمتحف بوشكين في موسكو

لوحات تصويرية نادرة تنقلك معها إلى القرن السابع عشر

من أعمال الفنان الهولندي يان ليفينس في معرض بوشكين
من أعمال الفنان الهولندي يان ليفينس في معرض بوشكين
TT

رامبرانت زائر من «العصر الذهبي» بمتحف بوشكين في موسكو

من أعمال الفنان الهولندي يان ليفينس في معرض بوشكين
من أعمال الفنان الهولندي يان ليفينس في معرض بوشكين

ودَّع متحف بوشكين في موسكو، منذ أيام، أشهر وأهم مجموعة خاصة من لوحات «العصر الذهبي» التي ازدهر خلالها فن التصوير في هولندا، وارتبطت بأسماء فنانين هولنديين بشهرة عالمية، مثل رامبرانت هرمنسزون فان راين، ويوهانس فيرمير وآخرين. وكان متحف بوشكين استضاف منذ 28 مارس (آذار) الماضي وحتى 22 أبريل (نيسان) الحالي، مجموعة من الأعمال الفنية، تحمل اسم «مجموعة لايدن» نسبة لمدينة لايدن جنوب هولندا، التي وُلد فيها رامبرانت عام 1606. ومنذ الأيام الأولى للمعرض احتشد عشاق الفن في طابور طويل أمام متحف بوشكين، يتلهفون بانتظار اللحظة التي سيدخلون فيها إلى الصالة، حيث تنتظرهم لوحات تصويرية نادرة، ينتقلون معها إلى القرن السابع عشر، وإبداع الفنانين الهولنديين في تصوير لوحات تعكس بمواضيعها وأسلوبها الفني وألوانها، نمط الحياة والرغد والرفاه في تلك المرحلة من تاريخ هولندا.
وعلى غير العادة لم يكن معرض «مجموعة لايدن» جزءاً من التبادل الثقافي الرسمي بين المتاحف أو بين صالات العرض العالمية، ذلك أن تلك اللوحات الفنية الفريدة ملكية شخصية تعود للملياردير الأميركي توماس كابلان وزوجته دافين، الذي اعترف أنه كان منذ الطفولة يهتم بأعمال رامبرانت، ويروي كيف طلب من والديه وهو في السابعة من العمر أن يأخذاه إلى هولندا لزيارة المدن التي عاش وعمل فيها رامبرانت. بعد سنوات على تلك الزيارة بدأ كابلان عملية البحث عن لوحات «العصر الذهبي»، مع تركيز على أعمال رامبرانت، وحالفه الحظ نظراً لأن اللوحات التي يبحث عنها لم تكن ملكية متاحف حكومية، وكانت متوفرة في سوق الأعمال الفنية، في المزادات والمعارض الخاصة وغيره. كان تركيزه في البداية على لوحات رامبرانت وأعمال تلاميذه، ومن ثم بدأ يقتني لوحات لفنانين من مدن هولندية أخرى.
وخلال عمله على تجميع تلك اللوحات صادفته مواقف طريفة، منها عثوره على واحدة من لوحات رامبرانت في مزاد عام 2015 في نيوجرسي، تم عرضها بسعر أولي 800 دولار فقط، ذلك لأن القائمين على المزاد كانوا يظنون أنها عمل لفنان غير معروف من القرن التاسع عشر، واتضح لاحقاً أنها واحدة من اللوحات المفقودة، من مجموعة «الحواس الخمس»، رسمها رامبرانت في الثامنة عشرة من عمره.
في عام 2017 عرض الملياردير توماس مجموعته التي باتت تُعرف باسم «مجموعة لايدن» لأول مرة، وكان ذلك في متحف اللوفر، إلا أنها كانت حينها تضم 30 لوحة فقط. وبعد ذلك عُرضت المجموعة في متحف الصين الوطني في بكين بعد أن زاد عدد اللوحات حتى 65 لوحة. ومع وصول المجموعة لأول مرة إلى موسكو في نهاية مارس الماضي، أصبحت تضم 82 لوحة، معظمها من أعمال رامبرانت. وقرر القائمون على متحف بوشكين تقسيم المعرض إلى ثلاثة أقسام، الأول يضم 12 لوحة من أعمال رامبرانت، بينها لوحات من مجموعة «الحواس الخمس»، ولوحة «مينيرفا» التي يُقال إن رامبرانت صور فيها زوجته، ولوحات أخرى. أما القسم الثاني فكان مخصصاً لأعمال فنية نادرة متنوعة من «مدرسة لايدن». وأخيراً القسم الثالث فلم يكن على علاقة بهولندا، وإنما كان عبارة عن لوحة وحيدة نادرة هي «وجه الدب» رسمها ليوناردو دافنشي بقلم رصاص.
رامبرانت هرمنسزون فان راين، فنان هولندي ولد فقيراً وعاش ثرياً قبل أن يعود إلى الفقر بسبب ظروف اجتماعية، ومات فقيراً. درس الفلسفة في جامعة لايدن، ومن ثم درس الرسم على يد رسام هولندي، وأبدع في هذا المجال، لدرجة أن لوحاته خلصت على شهرة في أوروبا بسرعة، وساعدته خلال عدة سنوات على جني ثورة كبيرة. عُرف عنه مهارته في تسخير الضوء والظل وقدرات على التلاعب بالألوان ليظهر الحالة الحسية العاطفية، والأفراح في لوحاته، التي تميزت كذلك بجانبها التعبيري. تميز أيضاً برسم البورتريه، بما في ذلك البورتريهات الشخصية لنفسه وعائلته، هذا فضلاً عن إبداعه في تصوير اللوحات الطبيعية والدينية وحتى العلمية. خلف أكثر من 600 عمل فني، ومن أبرز أعماله: «مينيرفا»، و«الحراسة الليلية» و«درس التشريح للدكتور تولب»، و«والدة رامبرانت»، و«القديس بطرس»، و«الثور المشرخ»، وغيرها.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)