تجديد الولاء للبغدادي يُثير تساؤلات عن مستقبل «داعش»

مناورة كشفت صراعات التنظيم ومحاولته «استعادة الإلهام»

«دواعش» يستعرضون في الرقة قبل هروبهم («الشرق الأوسط»)
«دواعش» يستعرضون في الرقة قبل هروبهم («الشرق الأوسط»)
TT

تجديد الولاء للبغدادي يُثير تساؤلات عن مستقبل «داعش»

«دواعش» يستعرضون في الرقة قبل هروبهم («الشرق الأوسط»)
«دواعش» يستعرضون في الرقة قبل هروبهم («الشرق الأوسط»)

أثار إعلان تنظيم «داعش» الإرهابي عن قيام عناصره بتجديد ما وصفوه بـ«المبايعة والولاء لزعيم التنظيم المزعوم أبو بكر البغدادي»، حالة من التساؤلات حول مستقبل التنظيم، فيما يُعتقد أنه أول تعهد علني بالولاء للبغدادي منذ انهيار ما تسمى بـ«دولة الخلافة» في سوريا والعراق، العام الماضي.
وبينما عد مراقبون الإعلان «مُجرد مُناورة كشفت عن صراعات كبيرة داخل التنظيم». قلَّل خبراء في شؤون الحركات الأصولية من هذا الإعلان الداعشي، مؤكدين أن «التنظيم من ضعف لضعف، وأنها مجرد مُحاولة لـ(استعادة الإلهام) وجمع العناصر حول شخص يمثل القيادة أو الرمز من وجهة نظرهم، وهو البغدادي».
يقول خبراء مكافحة الارهاب والتطرف لـ«الشرق الأوسط»، إن «هناك احتمالين لهذا الإعلان في هذا التوقيت بالتحديد، إما أنها محاولة من رجال زعيم التنظيم ليظل لهم الكلمة العليا، لا سيما مع عدم قدرة البغدادي على ممارسة مهامه، أو قد يؤشر هذا لتقدم أجنحة أخرى أو الحديث عن قيادة جديدة».
وأعلن مقاتلو التنظيم في بيان نشروه على مواقع للتواصل الاجتماعي تابعة للتنظيم، ووسائل إعلامية خاصة بهم تجديدهم لما وصفوه بـ«البيعة للبغدادي».
وشهدت الأشهر الماضية نجاحاً كبيراً في محاربة التطرف على المستوى العسكري، حيث نجح التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية والقوات العراقية في السيطرة على الأراضي التي كان يسيطر عليها «داعش»... وقد أسفر هذا عن تراجع كبير في قدرات التنظيم العسكرية الميدانية، وكذلك الإعلامية... وبناء على ذلك، لم يعد لمقاتلي التنظيم موطئ قدم في العراق، وهذا ينطبق على سوريا أيضاً.
وقلل مراقبون من إعلان «البيعة المزعومة» لا سيما أن معظم قيادات «داعش» وكوادره تفرقوا وانتقلوا إلى مناطق مختلفة بعد الهزائم التي تعرض لها داخل العراق وسوريا، على نحو يفرض عقبات متعددة أمام الحصول على مبايعتهم بشكل مباشر من جديد، لا سيما في ظل صعوبة فتح قنوات تواصل معهم، وهو ما دفع اتجاهات كثيرة إلى ترجيح أن يكون الإعلان صادراً عن قيادة التنظيم نفسه من أجل تحقيق أهداف كثيرة خاصة بتعزيز تماسكه الداخلي.
ويعانى «داعش» من تراجع حاد في سوريا والعراق، حيث فقد ما يقرب من 98 في المائة من الأراضي التي كان يسيطر عليها، ولم يعد يوجَد سوى في مناطق متفرقة داخل الدولتين... ورغم أنه يحاول مواصلة نشاطه واستعادة بعض المناطق عبر شن كثير من الهجمات الخاطفة، فإنه لم يحقق نتائج بارزة في هذا السياق.
وسيطر المقاتلون الأكراد على الرقة بسوريا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بدعم من التحالف الدولي. ويُشار إلى أنه حين خسر «داعش» مدينة الرقة فقد خسر معها (بوصفها عاصمة دولة «الخلافة المزعومة»)، الأدوات الإعلامية الاحترافية كافة، كالاستوديوهات، وقسم وسائط الإعلام، ومراكز الإنتاج التي كانت تخرج على العالم بمجلة «دابق» وبأشرطة فيديو محترفة تُمجد فضائل الحياة تحت «وهم الخلافة المزعومة».
وما زال التضارب يحيط بمصير البغدادي، وهو عراقي الجنسية، هل لا يزال على قيد الحياة أم قتل؟ لكن خبراء يعتقدون أنه «يختبئ في الصحراء الشاسعة على الحدود العراقية السورية».
وكانت تقارير إعلامية قد أعلنت أخيراً مقتل البغدادي، بعد صدور بيان عن التنظيم يؤكد مقتله، دون أن يكشف البيان عن ملابسات مقتله. ومنذ عام 2014 سرت شائعات كثيرة حول احتمال مقتل زعيم التنظيم، لكن لم يتم تأكيد أي منها... وتعرض الولايات المتحدة مبلغ 25 مليون دولار للقبض عليه.
وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان، أعلن مقتل البغدادي مطلع يوليو الماضي. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يعلن فيها عن مقتله... ففي يونيو (حزيران) الماضي، أشار الجيش الروسي إلى «احتمال» أن يكون البغدادي قُتِل. لكن في سبتمبر (أيلول) الماضي، رجح ستيفن تاونسند، قائد التحالف الدولي ضد «داعش» في العراق وسوريا، أن «البغدادي ما زال على قيد الحياة، وقد يكون مختبئاً في مكان ما في وادي نهر الفرات الأوسط، وهي المنطقة المحصورة بين مدينة القائم غرب العراق، ومدينة دير الزور شرق سوريا».
وفي مطلع العام الحالي، قالت صحيفة «صن» البريطانية، إن «هناك اعتقاداً بأن زعيم (داعش) هرب إلى أفريقيا للاختباء بعيداً، وربما يوجد في شمال تشاد، أو في المنطقة الحدودية التي لا تخضع للقوانين بين الجزائر والنيجر».
وكان آخر تسجيل صوتي للبغدادي بثه في نوفمبر عام 2016... أما الظهور العلني الوحيد للبغدادي (46 عاماً) يعود لشهر يوليو عام 2014 عند تأديته الصلاة في جامع النوري الكبير بغرب الموصل، حيث أعلن إقامة «الخلافة المزعومة» في مناطق بالعراق وسوريا.
وجدير بالذكر أن الضربات الجوية الأميركية أفضت إلى مقتل معظم مساعدي البغدادي ومنهم، أبو عمر الشيشاني وزير الحرب السابق وقائد القوات المسلحة في التنظيم، وحاكم المنطقة العراقية أبو مسلم التركماني، والمتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني، وحاكم سوريا أبو علي الأنباري.
من جانبه، قال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، إن «توقيت إعلان (داعش) لعناصره مبايعة البغدادي، لا نستطيع أن نفصله عما يحدث في سوريا الآن»، مضيفاً: «أعتقد أن الفوضى التي سوف تنتج عن ضرب سوريا، سوف تتيح لـ(داعش) فرصة كبيرة للظهور من جديد... وأن الفراغ الذي سينتج عن التدمير في سوريا سوف ينتشر فيه (داعش)».
وأكد بان أن تجديد البيعة للبغدادي ربما له صلة بإعادة تنظيم أمور التنظيم الداخلية، أو أن هناك صراعات داخل التنظيم خاصة مع إعلان موت البغدادي، أو أن رجال البغدادي يحاولون أن يظل لهم الكلمة العليا داخل التنظيم، خصوصاً مع اختفاء وعدم قدرة البغدادي على ممارسة مهامه، لافتاً إلى أن «هذا قد يؤشر أيضاً لتقدم أجنحة أخرى أو الحديث عن قيادة جديدة للتنظيم الإرهابي».
المراقبون رجحوا أن «داعش» هدف من إعلان البيعة «المزعومة» المحافظة على ما تبقى من هيكله التنظيمي الذي وصل إلى مرحلة الانهيار، حيث يعد الإعلان بمثابة رسالة مفادها أن «التنظيم قوي ومتماسك، وقادر على البقاء وإدارة وضبط حدود العلاقة بين القيادة والكوادر، إلى جانب الإيحاء بأن عناصره لا تزال متمسكة بقيادته... وهي مزاعم بالطبع قد لا تتوافق مع المعطيات الموجودة على الأرض».
خبراء وباحثون قالوا إن «التنظيم يهدف من (إعلان البيعة) إلى ترسيخ مكانة القيادة الحالية (أي قيادة البغدادي) وضمان ولاء الفروع الخارجية في الدول لها، إذ إن تجديد البيعة (المزعومة) يعنى ضرورة التمسك بالبغدادي وتنفيذ توجيهاته في الداخل والخارج»، مضيفين: «قد يشير ذلك الإعلان إلى أنه صادر بالفعل عن قيادة التنظيم الحالية، من أجل تعزيز نفوذها، خصوصاً أنها تسيطر على كل الوسائل الإعلامية داخل التنظيم، وكانت حريصة على عدم نشر تقارير أو بث مقاطع فيديو تظهر مبايعة المجموعات المختلفة للبغدادي».
كما أكدوا أن «الإعلان هدفه تجنب الانشقاق المتواصل من عناصر التنظيم بسبب الهزائم الكبيرة التي تعرض لها في المناطق الرئيسية التي سيطر عليها في الأعوام الماضية، والتي من الممكن أن تدفع ببعض قياداته وكوادره إلى تكوين مجموعات أو تنظيمات فرعية أخرى أو الانضمام إلى بعض التنظيمات القائمة والمنافسة للتنظيم، التي ما زالت تنشط داخل بعض المناطق في سوريا تحديداً».
كلام الخبراء، أكده أيضاً أحمد بان بقوله إن «الإعلان عن البيعة لوقف الانشقاقات التي يعاني منها التنظيم حالياً ولتأكيد الولاء لقيادته».
ويظل «الفارّون من (داعش)» إشكالية كبيرة ما زالت تنشر القلق في أوروبا وأفريقيا بعد انحسار التنظيم وفرار معظمه من العراق وسوريا إلى ليبيا وبعض الدول المجاورة، وكان المصطلح يُطلق في البداية - قبل هزيمة التنظيم - على بعض المنضمين إليه ممن خُدعوا بدعايته، ثم سرعان ما اكتشفوا - بعد انضمامهم إليه - أن الأوضاع على أرض الواقع تختلف اختلافاً جذرياً عما يروجه التنظيم، لذا قرروا تركه والعودة إلى دولهم.
والآن، وبعد هزيمة التنظيم أصبح المصطلح يحمل معنى مغايراً تماماً، إذ لا يمكن الجزم بما إذا كان هؤلاء الفارين لا يزالون يحملون الفكر الداعشي أم لا؟ وقد أعربت كثير من حكومات الدول الغربية عن خوفها الشديد من هؤلاء.
وأشارت تقارير كثيرة إلى أن عمليات الإعدام التي طالت بعض قيادات وعناصر التنظيم، الذين اتهموا بمحاولة الانشقاق فرضت تداعيات عكسية، حيث أدت إلى تصاعد هذه الظاهرة خلال الفترة الأخيرة، بشكل أسهم في تراجع تأثير ونفوذ التنظيم.
بينما قال الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «التنظيم يحاول أن (يلم) العناصر حول الرمز وهو البغدادي، ويحاول أن يستعيد (فكرة الإلهام)، وجمع العناصر حول شخص يمثل القيادة»، مضيفاً أن «تجديد البيعة للبغدادي في محاولة من التنظيم، لتنظيم نفسه وإظهار الولاء، فضلاً عن محاولة (لم) الشتات الحادث في التنظيم، خصوصاً أن الضربة الأميركية لسوريا سوف تكون محاولة جديدة للتنظيم، إما أن يكون من جديد أو يختفي للأبد».
وأكد الزعفراني في الصدد ذاته أن «داعش» لجأ للبحث عن بدائل مثل الدعوة لتجديد الولاء في محاولة منه لتحقيق «شو إعلامي» عالمي، لافتاً إلى أن ذلك جزء من استراتيجية التنظيم، مضيفاً أن «التنظيمات المتطرفة وتياراتها تندرج تحت فكر واحد، ألا وهو أنهم يعتقدون أنهم (جماعة المسلمين)... ومن عداهم ليسوا بمسلمين»، لذلك استخدم «داعش» مفردات دينية، مثل التي جاءت في إعلان «المبايعة المزعومة»، مثل «خليفة المسلمين»، و«أمير المؤمنين»، وغيرها.
وقال مراقبون إن «داعش» يسعى في «المرحلة الحالية إلى إعادة تنظيم صفوفه من جديد للتعامل مع المعطيات الجديدة التي أنتجتها الخسائر التي تعرض لها في الفترة الماضية، في ظل انخراطه في معارك مسلحة على أكثر من جبهة، وضد أطراف متعددة سعت إلى إخراجه من المناطق التي سيطر عليها في السابق... ويحاول التنظيم استغلال مثل هذه الآليات في إقناع بعض المجموعات الفرعية والخلايا النائمة بمواصلة الولاء لقيادته الحالية، وعدم الإقدام على الانشقاق، بشكل سوف يوجه ضربة قوية للتنظيم، ويخصم من قدرته على تفعيل نشاطه من جديد داخل الدولتين».
وتشير تقديرات الولايات المتحدة في عام 2016 إلى أن عدد مقاتلي «داعش» الذين تسربوا إلى سوريا والعراق بلغ 36500 مقاتل، بينهم 6 آلاف أجنبي (غير عربي)، فيما تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن عددهم يبلغ 30 ألفاً، بينهم 7 آلاف أجنبي، بحسب قائمة نشرتها الشرطة الدولية (إنتربول).
وتذهب الأمم المتحدة إلى أن ما بين 10 في المائة إلى 30 في المائة من مقاتلي «داعش» عادوا إلى أوطانهم قبيل الهزائم الأخيرة في العراق وسوريا. وتجمع أجهزة الاستخبارات على أن «داعش» لديه 8 فروع رئيسية و50 تنظيماً منضوياً تحت لوائه في نحو 21 بلداً.
ورجح مراقبون أن «يكون إعلان البيعة الآن هو نداء لهواء للتجمع من جديد تحت قيادة البغدادي». لكن خالد الزعفراني قلل من تأثير هذا الإعلان على تجميع شتات التنظيم في كثير من الدول، مؤكداً أن «التنظيم من ضعف لضعف خصوصاً خلال المرحلة المقبلة من عمره».


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.