تجديد الولاء للبغدادي يُثير تساؤلات عن مستقبل «داعش»

مناورة كشفت صراعات التنظيم ومحاولته «استعادة الإلهام»

«دواعش» يستعرضون في الرقة قبل هروبهم («الشرق الأوسط»)
«دواعش» يستعرضون في الرقة قبل هروبهم («الشرق الأوسط»)
TT

تجديد الولاء للبغدادي يُثير تساؤلات عن مستقبل «داعش»

«دواعش» يستعرضون في الرقة قبل هروبهم («الشرق الأوسط»)
«دواعش» يستعرضون في الرقة قبل هروبهم («الشرق الأوسط»)

أثار إعلان تنظيم «داعش» الإرهابي عن قيام عناصره بتجديد ما وصفوه بـ«المبايعة والولاء لزعيم التنظيم المزعوم أبو بكر البغدادي»، حالة من التساؤلات حول مستقبل التنظيم، فيما يُعتقد أنه أول تعهد علني بالولاء للبغدادي منذ انهيار ما تسمى بـ«دولة الخلافة» في سوريا والعراق، العام الماضي.
وبينما عد مراقبون الإعلان «مُجرد مُناورة كشفت عن صراعات كبيرة داخل التنظيم». قلَّل خبراء في شؤون الحركات الأصولية من هذا الإعلان الداعشي، مؤكدين أن «التنظيم من ضعف لضعف، وأنها مجرد مُحاولة لـ(استعادة الإلهام) وجمع العناصر حول شخص يمثل القيادة أو الرمز من وجهة نظرهم، وهو البغدادي».
يقول خبراء مكافحة الارهاب والتطرف لـ«الشرق الأوسط»، إن «هناك احتمالين لهذا الإعلان في هذا التوقيت بالتحديد، إما أنها محاولة من رجال زعيم التنظيم ليظل لهم الكلمة العليا، لا سيما مع عدم قدرة البغدادي على ممارسة مهامه، أو قد يؤشر هذا لتقدم أجنحة أخرى أو الحديث عن قيادة جديدة».
وأعلن مقاتلو التنظيم في بيان نشروه على مواقع للتواصل الاجتماعي تابعة للتنظيم، ووسائل إعلامية خاصة بهم تجديدهم لما وصفوه بـ«البيعة للبغدادي».
وشهدت الأشهر الماضية نجاحاً كبيراً في محاربة التطرف على المستوى العسكري، حيث نجح التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية والقوات العراقية في السيطرة على الأراضي التي كان يسيطر عليها «داعش»... وقد أسفر هذا عن تراجع كبير في قدرات التنظيم العسكرية الميدانية، وكذلك الإعلامية... وبناء على ذلك، لم يعد لمقاتلي التنظيم موطئ قدم في العراق، وهذا ينطبق على سوريا أيضاً.
وقلل مراقبون من إعلان «البيعة المزعومة» لا سيما أن معظم قيادات «داعش» وكوادره تفرقوا وانتقلوا إلى مناطق مختلفة بعد الهزائم التي تعرض لها داخل العراق وسوريا، على نحو يفرض عقبات متعددة أمام الحصول على مبايعتهم بشكل مباشر من جديد، لا سيما في ظل صعوبة فتح قنوات تواصل معهم، وهو ما دفع اتجاهات كثيرة إلى ترجيح أن يكون الإعلان صادراً عن قيادة التنظيم نفسه من أجل تحقيق أهداف كثيرة خاصة بتعزيز تماسكه الداخلي.
ويعانى «داعش» من تراجع حاد في سوريا والعراق، حيث فقد ما يقرب من 98 في المائة من الأراضي التي كان يسيطر عليها، ولم يعد يوجَد سوى في مناطق متفرقة داخل الدولتين... ورغم أنه يحاول مواصلة نشاطه واستعادة بعض المناطق عبر شن كثير من الهجمات الخاطفة، فإنه لم يحقق نتائج بارزة في هذا السياق.
وسيطر المقاتلون الأكراد على الرقة بسوريا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بدعم من التحالف الدولي. ويُشار إلى أنه حين خسر «داعش» مدينة الرقة فقد خسر معها (بوصفها عاصمة دولة «الخلافة المزعومة»)، الأدوات الإعلامية الاحترافية كافة، كالاستوديوهات، وقسم وسائط الإعلام، ومراكز الإنتاج التي كانت تخرج على العالم بمجلة «دابق» وبأشرطة فيديو محترفة تُمجد فضائل الحياة تحت «وهم الخلافة المزعومة».
وما زال التضارب يحيط بمصير البغدادي، وهو عراقي الجنسية، هل لا يزال على قيد الحياة أم قتل؟ لكن خبراء يعتقدون أنه «يختبئ في الصحراء الشاسعة على الحدود العراقية السورية».
وكانت تقارير إعلامية قد أعلنت أخيراً مقتل البغدادي، بعد صدور بيان عن التنظيم يؤكد مقتله، دون أن يكشف البيان عن ملابسات مقتله. ومنذ عام 2014 سرت شائعات كثيرة حول احتمال مقتل زعيم التنظيم، لكن لم يتم تأكيد أي منها... وتعرض الولايات المتحدة مبلغ 25 مليون دولار للقبض عليه.
وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان، أعلن مقتل البغدادي مطلع يوليو الماضي. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يعلن فيها عن مقتله... ففي يونيو (حزيران) الماضي، أشار الجيش الروسي إلى «احتمال» أن يكون البغدادي قُتِل. لكن في سبتمبر (أيلول) الماضي، رجح ستيفن تاونسند، قائد التحالف الدولي ضد «داعش» في العراق وسوريا، أن «البغدادي ما زال على قيد الحياة، وقد يكون مختبئاً في مكان ما في وادي نهر الفرات الأوسط، وهي المنطقة المحصورة بين مدينة القائم غرب العراق، ومدينة دير الزور شرق سوريا».
وفي مطلع العام الحالي، قالت صحيفة «صن» البريطانية، إن «هناك اعتقاداً بأن زعيم (داعش) هرب إلى أفريقيا للاختباء بعيداً، وربما يوجد في شمال تشاد، أو في المنطقة الحدودية التي لا تخضع للقوانين بين الجزائر والنيجر».
وكان آخر تسجيل صوتي للبغدادي بثه في نوفمبر عام 2016... أما الظهور العلني الوحيد للبغدادي (46 عاماً) يعود لشهر يوليو عام 2014 عند تأديته الصلاة في جامع النوري الكبير بغرب الموصل، حيث أعلن إقامة «الخلافة المزعومة» في مناطق بالعراق وسوريا.
وجدير بالذكر أن الضربات الجوية الأميركية أفضت إلى مقتل معظم مساعدي البغدادي ومنهم، أبو عمر الشيشاني وزير الحرب السابق وقائد القوات المسلحة في التنظيم، وحاكم المنطقة العراقية أبو مسلم التركماني، والمتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني، وحاكم سوريا أبو علي الأنباري.
من جانبه، قال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، إن «توقيت إعلان (داعش) لعناصره مبايعة البغدادي، لا نستطيع أن نفصله عما يحدث في سوريا الآن»، مضيفاً: «أعتقد أن الفوضى التي سوف تنتج عن ضرب سوريا، سوف تتيح لـ(داعش) فرصة كبيرة للظهور من جديد... وأن الفراغ الذي سينتج عن التدمير في سوريا سوف ينتشر فيه (داعش)».
وأكد بان أن تجديد البيعة للبغدادي ربما له صلة بإعادة تنظيم أمور التنظيم الداخلية، أو أن هناك صراعات داخل التنظيم خاصة مع إعلان موت البغدادي، أو أن رجال البغدادي يحاولون أن يظل لهم الكلمة العليا داخل التنظيم، خصوصاً مع اختفاء وعدم قدرة البغدادي على ممارسة مهامه، لافتاً إلى أن «هذا قد يؤشر أيضاً لتقدم أجنحة أخرى أو الحديث عن قيادة جديدة للتنظيم الإرهابي».
المراقبون رجحوا أن «داعش» هدف من إعلان البيعة «المزعومة» المحافظة على ما تبقى من هيكله التنظيمي الذي وصل إلى مرحلة الانهيار، حيث يعد الإعلان بمثابة رسالة مفادها أن «التنظيم قوي ومتماسك، وقادر على البقاء وإدارة وضبط حدود العلاقة بين القيادة والكوادر، إلى جانب الإيحاء بأن عناصره لا تزال متمسكة بقيادته... وهي مزاعم بالطبع قد لا تتوافق مع المعطيات الموجودة على الأرض».
خبراء وباحثون قالوا إن «التنظيم يهدف من (إعلان البيعة) إلى ترسيخ مكانة القيادة الحالية (أي قيادة البغدادي) وضمان ولاء الفروع الخارجية في الدول لها، إذ إن تجديد البيعة (المزعومة) يعنى ضرورة التمسك بالبغدادي وتنفيذ توجيهاته في الداخل والخارج»، مضيفين: «قد يشير ذلك الإعلان إلى أنه صادر بالفعل عن قيادة التنظيم الحالية، من أجل تعزيز نفوذها، خصوصاً أنها تسيطر على كل الوسائل الإعلامية داخل التنظيم، وكانت حريصة على عدم نشر تقارير أو بث مقاطع فيديو تظهر مبايعة المجموعات المختلفة للبغدادي».
كما أكدوا أن «الإعلان هدفه تجنب الانشقاق المتواصل من عناصر التنظيم بسبب الهزائم الكبيرة التي تعرض لها في المناطق الرئيسية التي سيطر عليها في الأعوام الماضية، والتي من الممكن أن تدفع ببعض قياداته وكوادره إلى تكوين مجموعات أو تنظيمات فرعية أخرى أو الانضمام إلى بعض التنظيمات القائمة والمنافسة للتنظيم، التي ما زالت تنشط داخل بعض المناطق في سوريا تحديداً».
كلام الخبراء، أكده أيضاً أحمد بان بقوله إن «الإعلان عن البيعة لوقف الانشقاقات التي يعاني منها التنظيم حالياً ولتأكيد الولاء لقيادته».
ويظل «الفارّون من (داعش)» إشكالية كبيرة ما زالت تنشر القلق في أوروبا وأفريقيا بعد انحسار التنظيم وفرار معظمه من العراق وسوريا إلى ليبيا وبعض الدول المجاورة، وكان المصطلح يُطلق في البداية - قبل هزيمة التنظيم - على بعض المنضمين إليه ممن خُدعوا بدعايته، ثم سرعان ما اكتشفوا - بعد انضمامهم إليه - أن الأوضاع على أرض الواقع تختلف اختلافاً جذرياً عما يروجه التنظيم، لذا قرروا تركه والعودة إلى دولهم.
والآن، وبعد هزيمة التنظيم أصبح المصطلح يحمل معنى مغايراً تماماً، إذ لا يمكن الجزم بما إذا كان هؤلاء الفارين لا يزالون يحملون الفكر الداعشي أم لا؟ وقد أعربت كثير من حكومات الدول الغربية عن خوفها الشديد من هؤلاء.
وأشارت تقارير كثيرة إلى أن عمليات الإعدام التي طالت بعض قيادات وعناصر التنظيم، الذين اتهموا بمحاولة الانشقاق فرضت تداعيات عكسية، حيث أدت إلى تصاعد هذه الظاهرة خلال الفترة الأخيرة، بشكل أسهم في تراجع تأثير ونفوذ التنظيم.
بينما قال الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «التنظيم يحاول أن (يلم) العناصر حول الرمز وهو البغدادي، ويحاول أن يستعيد (فكرة الإلهام)، وجمع العناصر حول شخص يمثل القيادة»، مضيفاً أن «تجديد البيعة للبغدادي في محاولة من التنظيم، لتنظيم نفسه وإظهار الولاء، فضلاً عن محاولة (لم) الشتات الحادث في التنظيم، خصوصاً أن الضربة الأميركية لسوريا سوف تكون محاولة جديدة للتنظيم، إما أن يكون من جديد أو يختفي للأبد».
وأكد الزعفراني في الصدد ذاته أن «داعش» لجأ للبحث عن بدائل مثل الدعوة لتجديد الولاء في محاولة منه لتحقيق «شو إعلامي» عالمي، لافتاً إلى أن ذلك جزء من استراتيجية التنظيم، مضيفاً أن «التنظيمات المتطرفة وتياراتها تندرج تحت فكر واحد، ألا وهو أنهم يعتقدون أنهم (جماعة المسلمين)... ومن عداهم ليسوا بمسلمين»، لذلك استخدم «داعش» مفردات دينية، مثل التي جاءت في إعلان «المبايعة المزعومة»، مثل «خليفة المسلمين»، و«أمير المؤمنين»، وغيرها.
وقال مراقبون إن «داعش» يسعى في «المرحلة الحالية إلى إعادة تنظيم صفوفه من جديد للتعامل مع المعطيات الجديدة التي أنتجتها الخسائر التي تعرض لها في الفترة الماضية، في ظل انخراطه في معارك مسلحة على أكثر من جبهة، وضد أطراف متعددة سعت إلى إخراجه من المناطق التي سيطر عليها في السابق... ويحاول التنظيم استغلال مثل هذه الآليات في إقناع بعض المجموعات الفرعية والخلايا النائمة بمواصلة الولاء لقيادته الحالية، وعدم الإقدام على الانشقاق، بشكل سوف يوجه ضربة قوية للتنظيم، ويخصم من قدرته على تفعيل نشاطه من جديد داخل الدولتين».
وتشير تقديرات الولايات المتحدة في عام 2016 إلى أن عدد مقاتلي «داعش» الذين تسربوا إلى سوريا والعراق بلغ 36500 مقاتل، بينهم 6 آلاف أجنبي (غير عربي)، فيما تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن عددهم يبلغ 30 ألفاً، بينهم 7 آلاف أجنبي، بحسب قائمة نشرتها الشرطة الدولية (إنتربول).
وتذهب الأمم المتحدة إلى أن ما بين 10 في المائة إلى 30 في المائة من مقاتلي «داعش» عادوا إلى أوطانهم قبيل الهزائم الأخيرة في العراق وسوريا. وتجمع أجهزة الاستخبارات على أن «داعش» لديه 8 فروع رئيسية و50 تنظيماً منضوياً تحت لوائه في نحو 21 بلداً.
ورجح مراقبون أن «يكون إعلان البيعة الآن هو نداء لهواء للتجمع من جديد تحت قيادة البغدادي». لكن خالد الزعفراني قلل من تأثير هذا الإعلان على تجميع شتات التنظيم في كثير من الدول، مؤكداً أن «التنظيم من ضعف لضعف خصوصاً خلال المرحلة المقبلة من عمره».


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟