ثنائي إيراني يصنع الحلي الفضية بتصاميم مستوحاة من الحدائق الإيرانية القديمة

تحكي القصص والأساطير عن ولع الملوك الساسانيين بالحدائق

تكتم فاضل وزوجها بهرام دشتي نجاد
تكتم فاضل وزوجها بهرام دشتي نجاد
TT

ثنائي إيراني يصنع الحلي الفضية بتصاميم مستوحاة من الحدائق الإيرانية القديمة

تكتم فاضل وزوجها بهرام دشتي نجاد
تكتم فاضل وزوجها بهرام دشتي نجاد

«تكتم فاضل» وزوجها «بهرام دشتي نجاد» ثنائي إيراني يمارسان مهنة صناعة الحلي يستخدمان فيها عدة عناصر على غرار الفضة، والذهب، والأحجار الكريمة التي تشتهر بها مدينة نيسابور، وذلك في أطر نقوش تاريخية تحمل طابعا شرقيا، وإيرانيا يستوحي حدائقها الشهيرة.
يصنف المصممان هذا الفن بـ«الحلي المزينة بنقوش الحدائق الإيرانية»، أي الحلي التي تعرض حدائق فضية. وفي بعض الأحيان يجري صنع قطعة واحدة فقط من الحلي حيث إنها تصنع باليد. «تكتم» خريجة جامعية في فرع تصميم المشاهد، و«بهرام» خريج فرع هندسة الكهرباء لكنه التحق بالسلك الفني بسبب شغفه بالمنمنمات الإيرانية وفن التصوير.
كل قطعة فضة تحكي قصة ما، والطيور التي تشاهد عادة في هذه الآثار الفنية تروي هذه القصص. في العام الماضي، حازت أعمال هذا الثنائي على وسام الأصالة وجودة السلع من منظمة التراث الثقافي الإيراني، وهما يفكران بالانتقال بمنتجاتهما إلى المستوى الدولي.
«الشرق الأوسط» التقت بهذا الثنائي الفني للتحدث حول أعمالهما ومعرضهما الأخير الذي أقيم في غاليري غولستان بطهران في مايو (أيار) الماضي، ودار الحوار التالي.
* كيف ابتكرتما القطع المستوحاة من الحدائق الإيرانية؟
- كنت أعمل ولمدة عام ونصف العام في ورشة حيث كنت أحمل في ذهني عدة مشاريع قمت بتنفيذها في تلك الفترة، وبدأت أصنع الحلي واستخدم الفضة فيها بشكل تجريبي. وقد تعرفت هناك على بهرام الذي كان آنذاك رساما ومصورا. وفي فترة 2002 – 2006، قمنا بتجارب مختلفة في صناعة الحلي الفضية وبموضوعات مختلفة وتقنيات تتعلق بالمدارس التكعيبية، والتجريدية، والنقوش التاريخية الإيرانية، وأصبح ذلك أساسا لمجموعة «الحدائق الإيرانية» الكبيرة التي وصفناها فيما بعد بـ«الحلي المزينة بنقوش الحدائق الإيرانية»، الحديقة الفضية!
* لماذا الحدائق الإيرانية؟
- في الحقيقة الحدائق الإيرانية تشكل الأساس لكثير من النقوش والرسوم التاريخية والفنون الزخرفية الإيرانية. وقد كانت الحدائق الإيرانية مطروحة دوما في الفن الإيراني إما بسبب أسلوبها المعماري الخاص، أو بسبب الأساطير المتعلقة بها. على سبيل المثال، السجاد اليدوي وعليه صور البرغموت، يعرض في الواقع الحدائق الإيرانية. وتحكي القصص والأساطير عن ولع الملوك الساسانيين بالحدائق الذي أدى إلى تطوير صناعة حياكة السجاد في إيران. ويقول المستشرق الأميركي أرثر بوب إن «الحدائق تشغل حيزا واسعا في أذهان الإيرانيين». وهذا ما دفعنا لتصميم مجوهرات مستوحاة من «الحدائق الإيرانية».
* هل يمكنك الحديث بشكل مفصل حول تصاميم الحلي التي تقدمانها؟
- استخدمنا النقوش التاريخية في أعمالنا، وهناك أساسا علاقة وثيقة بين الحلي وفن الزخرفة. وهذا ما أدى إلى أن نركز بشكل جدي على هذا الفرع من العمل، وتنبهنا بأننا نملك المهارة في صنع هذه النقوش في هذا الإطار. وباستخدامنا لتصاميم البرغموت وفن الشعرية (الذي يتمتع بتاريخ طويل في إيران) وتقنيات صناعة الحلي، استطعنا تطوير هذا العمل. وتحوي هذه النقوش مواضيع كثيرة، وكان لأعمالنا الفنية تأثير في مجتمعنا لأنها جذبت إليها المتلقي.
* كيف تنفذان أفكاركما؟
- نقوم بصورة مباشرة أو غير مباشرة بتنفيذ تصاميمنا الخاصة، فعلى سبيل المثال نقوم بتصوير النقوش التاريخية ونستلهم منها، لكن في النهاية مخيلتنا هي التي تخلق التصاميم والتركيبات والعناصر الجديدة.
وتوجد في المنطقة التي تقع فيها إيران وجوارها، آثار تحمل نقوشا مزخرفة تاريخية معروفة، وسيكون لها تأثير إيجابي عندما تعاد صياغتها بصورة جميلة وبنظرة جديدة. وتعرف هذه الطريقة بنوع من الكلاسيكية الجديدة. الموضوع الأساسي هو كيفية تطبيق الفكرة وحصيلتها النهائية، وهذا يرتبط بمخيلة الفنان الذي يستلهم من النقوش، وسينجح عندما يؤثر على المتلقي، ويعرض عليه أثرا جديدا رغم أن المتلقي كان قد شاهد النقوش مرات ومرات في السابق. إحدى ميزات الحلي التي نصنعها الحفاظ على «جمالية» الأثر الفني، ويعد هذا من الأركان الأولية، حيث نشاهد أثره الإيجابي على زوار المعارض التي نقيمها.
* من أين تأتي فكرة الطيور التي تستخدمانها في أعمالكما؟
- بعد استخدامنا لبعض النقوش الإيرانية القديمة، قمنا بتصميم طيور لحدائقنا لها ميزات خاصة، وقد كان وجودها ضروريا جدا لتبلور وتطور فكرة الحدائق. وأخذت الطيور تلعب دورا مهما متزايدا في أعمالنا رويدا رويدا. وكما تعلمون، فإن الطيور هي رمز للانعتاق والحرية والسلام. كما تلعب الطيور في أعمالنا أدوارا مختلفة؛ فمن العصفور البسيط داخل الحديقة إلى طير «سيمرغ» الأسطوري، تلعب الطيور أدوارها في تصور المشاهد في حالات كثيرة، والطير هو راوي الحكاية. وأعني القصة التي تنجلي في الحلي. وقد أصبح هذا الطير عنوانا لنوقع من خلاله أعمالنا الفنية.
* ما التقنية المعتمدة في أعمالكما؟
- هذه التقنية تشبه إلى حد كبير فن المنمنات والرسوم الإيرانية. وبما أن سرد القصص والأساطير يملك حيزا واسعا في فن المنمنمات الإيرانية، فإننا عملنا منذ البداية على تطوير فن سرد القصص في أعمالنا الفنية، وتؤدي الطيور راوي الحكايات فيها.
* أكدتما على أهمية القصص والروايات، هل أفهم من هذا الكلام أن وراء كل عمل فني حكاية ما؟
- نعم، بالتأكيد، كل عمل يسرد قصة ما. نقوم بصناعة الأساطير، ونخلق من خلالها فن «أسطورة المجوهرات». توحي تشكيلة العناصر في أحيان كثيرة إلى المتلقي بأنه يواجه رواية، وفي أحيان أخرى يقوم المتلقي بخلق الرواية بنفسه.
نحن نهتم بسرد الروايات في أعمالنا الفنية. ويمكن للمتلقي أحيانا متابعة القصة في عناصر منفصلة تتصل في سلسلة واحدة، في الوقت الذي تندرج هذه العناصر في أحيان أخرى في تصنيفات، وخانات متعددة ضمن عمل موحد. ولكن من البديهي أن يتطرق صانعو الحلي إلى الأساطير في أعمالهم، ونحن نعتمد أسلوبا مشابها لفن المنمنمات الإيرانية، حيث نطبق من خلاله أساطير الشاهنامة، والمثنوي، ومنطق الطير، وغيرها في هذه الأعمال.
* ما الخامات التي تستخدمانها في هذه الأعمال الفنية؟
- تشكل الفضة العنصر الأساسي في أعمالنا. كنا نرجح منذ البداية الفضة على العناصر الأخرى. نستخدم الذهب بشكل محدود في صنع الحلي. ويشكل الذهب أحيانا جزءا من التصميم الأساسي للحلي، وهذا ما نلاحظه في أشعار جلال الدين الرومي الذي يقول إن «العاشق والمعشوق ينسجمان كالفضة والذهب».
ويدل الكلام المنقول عن الرومي على أن الفضة والذهب هما كالعاشق والمعشوق. وحجر الفيروز من الأحجار الرئيسة التي نستخدمها في أعمالنا، إذ يملك حجر الفيروز في مدينة نيسابور لونا مميزا. ويمنح هذا الحجر الكريم أصالة خاصة للعمل الفني، ويمكن استخدامه للتعبير عن صور، على غرار عيون الماء في الحدائق، والعناقيد، ولون السماء، وغيرها. كما أننا نستخدم أحجارا ملونة أخرى في أعمالنا.
* كم من الوقت يستغرق صنع كل قطعة من الحلي؟
- يحتاج صنع القطع من الحلي إلى الوقت. نلاحظ في روائع الأعمال الفنية الإيرانية اتجاها نحو الوصول إلى الكمال سواء في استخدام العناصر والرموز العديدة، وتكرار العناصر المعتمدة، أو التناظر، والدوران أو غيرها. يمنح اعتماد كل هذه التقنيات عظمة إلى العمل الفني على غرار المجد والعظمة المتمثلة في بناء تخت جمشيد، أو نقش جهان، أو غيرها من المعالم التاريخية في البلاد.
نحن مضطرون لاستخدام هذه العناصر على مساحة صغيرة، ولكننا نحاول أن نستخدم كمية كبيرة من العناصر التزيينية فيها قدر المستطاع. وبذلك أنتجنا أعمالا قد يحتاج المرء وقتا طويلا لصنعها، ولكنها تعد قيمة فنية لمالكيها.
* حدثينا عن الوسام الذي منحته لكما منظمة التراث الثقافي الإيرانية؟
- تقيم منظمة التراث الثقافي كل عامين حفلا تهدي خلاله الوسام الوطني للأصالة والجودة العالية للأعمال المندرجة ضمن قائمة الإرث الثقافي، وتقوم هيئة التحكيم في الحفل بتقييم الأعمال الفنية المتنافسة. لقد شاركنا في هذه المباريات لأول مرة في العام الماضي، وتمكنا من أن نفوز فيها.
* هل هناك وجه تشابه بين التصاميم التي تقدمانها والتصاميم الأخرى؟
- استخدمنا مخيلتنا لتركيب العناصر التي خلقت عملا جديدا على هيئة الدجاجة، والنافذة. يُعد استخدام الرموز المعمارية في صناعة الحلي أمرا بديهيا، ولكن الطريقة التي اعتمدنا فيها هذه الرموز المعمارية حديثة. الأمر الذي كسب اهتمام الجمهور، فبعضهم أحبوا فن صناعة الحلي، بينما أبدى البعض الآخر إعجابا بأسلوب العمل.
* كيف قمتما بتوزيع مهام العمل؟
- يتولى بهرام مسؤولية القيام بأعمال على غرار استخدام المنشار لقطع الخشب، وإعطاء تصاميم مختلفة للحلي فيما أقوم أنا (تكتم) بالتلحيم، والتصقيل، وإنهاء العمل. نفكر معا لنبتكر تصاميم إجمالية، ويتولى بهرام مهمة تصميم التفاصيل.
* ما الرموز التي تستخدمانها في تصاميمكما بشكل أكبر؟
- استخدمنا رموزا كثيرة في أعمالنا. نقدم جزءا منها في كل معرض نقيمه. تعبر الحلي والمجموعات المختلفة عن الحديقة الإيرانية التي تسلط المعارض المختلفة الضوء على جزء منها. تضم هذه المجموعات القلادات التي تنتهي بأبيات شعرية أو رسوم للطيور والإنسان، والحصن والقلعة، والأدوات الموسيقية، وشجرة السرو، وبركة المياه، والشمس، والرمان، والنافذة، والقمر، والقطة، والسجادة، وغيرها..
* كيف كانت ردود الفعل على أعمالكما الفنية؟
- كانت جيدة وإيجابية. لقد رحب المتلقون باهتمام وشوق بأعمالنا الفنية. كان الاهتمام ملحوظا حتى بالنسبة للذين لم يهتموا في السابق بالحلي، لأن هذه الأعمال كانت مختلفة عن المجوهرات الثمينة والحلي التي نجدها في الأسواق من جهة، كما أنها تختلف عن الحلي التقليدية. تعبر هذه الحلي عن الفن، وهي صالحة للارتداء. يتوجه الأفراد من مدن أخرى أو حتى دول الجوار لمشاهدة الأعمال الفنية. هناك طلب على أعمالنا من دول على غرار الولايات المتحدة، وكندا، وأوروبا. ويرى البعض أن مشاهدة التصاميم عن قرب أفضل من صورها.
* وما طموحاتكما؟
- يطمح كل فنان للوصول إلى العالمية من خلال أعماله. تملك أعمالنا الفنية الطاقة للوصول إلى أشواط بعيدة، ولكننا منهمكون كثيرا باختيار المواضيع، والعمل عليها، وقلما نجد الفرصة لمتابعة الشؤون الأخرى على غرار إيصال أعمالنا إلى الأوساط العالمية خاصة ونواجه بعض القيود بهذا الشأن. على أي حال فإننا نبحث عن فرصة جيدة لإقامة معرض خارج إيران. ونسعى لعرض روائع أعمالنا في ذلك المعرض.
* ما عدد المعارض التي قدمتما من خلالهما أعمالكما الفنية؟ وما عدد الأعمال التي يجري عرضها خلال معرض واحد؟
- أقمنا عشرة معارض فردية (أنا وبهرام) وعدد من المعارض المشتركة. يضم كل معرض عادة مائة إلى 120 عملا فنيا قمنا بصنعها في مدة تتراوح بين السنة والنصف، والسنتين. ويشمل كل معرض الأعمال الصغيرة، والمتوسطة، والكبيرة في الحجم.
* خدمة «الشرق الأوسط» بالفارسية (شرق بارسي)



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)