شهادات غير قاطعة لمسؤولين ليبيين سابقين في قضية تمويل ساركوزي

ضياع أرشيف عهد القذافي ساهم في اختفاء معلومات مهمة

ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)
ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)
TT

شهادات غير قاطعة لمسؤولين ليبيين سابقين في قضية تمويل ساركوزي

ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)
ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)

تبدو أدلة ليبية خاصة بالقضية المثارة لدى محققي باريس، عن تمويل العقيد الراحل معمر القذافي لانتخابات الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، هشَّة وضعيفة. إلا أن بعض قيادات النظام الليبي القديم، وبعض المقربين من القذافي، لديهم إصرارٌ على أن التمويل قد حدث، وبملايين الدولارات، وأنه «توجد أدلة قوية ستظهر لاحقاً».
لم تقدم معظم هذه الأطراف، حتى الآن، إلا مكاتبات عدة كانت جرت منذ 2005 مع الجانب الفرنسي، منها ما هو ممهورٌ بتوقيع منسوب لساركوزي نفسه، حين كان ما زال وزيراً للداخلية في بلاده، بيد أنها لا تتضمن أي دليل على تحويل مباشر لأموال لدعم حملته.
ومع ذلك، ذكر قادة من نظام القذافي، وصديق سابق لساركوزي، أنهم كانوا شهوداً على التمويل «وعلى صفقات بين طرابلس وباريس أكبر بكثير من التمويل».
وفي زاوية فندق صغير من الفنادق ذات الطابع الأوروبي في ضاحية الزمالك الراقية في قلب القاهرة، بدأ المترجم السابق للقذافي، الدكتور مفتاح المسوري، بلا وثائق قاطعة، يمكن أن تُقدم للمحققين الفرنسيين، باستثناء قوله إنه «سمع من القذافي، في مارس (آذار) 2011 أنه دفع 20 مليون دولار لتمويل حملة ساركوزي». وسبق ذلك اتهامات من قيادات كانت مقربة من العقيد، الذي قُتل في غارات حلف شمال الأطلسي (الناتو) على ليبيا، تشير إلى أن التمويل بلغ نحو خمسين مليون يورو.
ورغم ضعف هذه المزاعم، فإنها تبقى مُربِكة ومثيرة لغضب ساركوزي الذي شنّ في المقابل، وخلال الشهر الماضي، هجوماً على أنصار القذافي.
يكمُن الخطر، هنا، عموماً، في أن الاتهامات صادرة، أولاً وأخيراً، عن شخصيات ليبية وغير ليبية، ما زالت على قيد الحياة، تقدم نفسها بصفتها شهود إثبات. ومن بين هؤلاء، قادة من الوزن الثقيل، جرى القبض عليهم في تونس وموريتانيا والنيجر، والزج بهم في سجون طرابلس بعد مقتل القذافي، مثل رئيس المخابرات العسكرية عبد الله السنوسي، ورئيس الحكومة في العهد السابق، البغدادي المحمودي، ومدير الأمن الداخلي، عبد الله منصور، الذي قدم شهادة مصورة بالفيديو لسجَّانيه من الجماعات المتطرفة، حول ملابسات تمويل انتخابات ساركوزي.
ونفى الرئيس الفرنسي الأسبق وجود أدلة مادية بشأن الاتهامات عن تلقيه أموالاً ليبية لحملته الانتخابية في 2007، والتي فاز إثرها بالرئاسة واستمر فيها حتى 2012، لكن بدا من حديثه للمحققين في باريس، كما سربته صحف عدة قبل أسبوعين، أنه ينظر إلى أنصار القذافي على أنهم ربما كانوا وراء ما سيتعرض له من محنة جراء هذه القضية.
وبمجرد استدعائه للتحقيق في باريس، شن مقربون من النظام الليبي السابق، من بينهم ابن عم القذافي، أحمد قذاف الدم، هجوماً لاذعاً على ساركوزي في وسائل إعلام فرنسية. ولم تقتصر الاتهامات على التمويل، لكنها حمَّلت الرئيس السابق مسؤولية تدمير ليبيا أيضاً.
من زاوية داخل بهو الفندق المصري، كان الدكتور المسوري يتابع، قبل يومين، ما تبثه قناة «فرانس 24» عن القضية وأبعادها، حيث كان الرجل قبل اثني عشر عاماً حاضراً في اجتماع بين ساركوزي والقذافي، وآخرين.
وعمل المسوري في مكتب القذافي، منذ عام 1996.
يقول وهو يرتب أوراقاً تخص المصالحة بين الليبيين، إنه لم يكن مجرد مترجم للفرنسية لدى العقيد الراحل، لكنه كان مستشاراً له أيضاً. وفي الأيام الماضية أثارت تصريحات أطلقها أثناء وجوده في كل من تونس والقاهرة، عن قضية ساركوزي، لغطاً جديداً، رغم أن ما ذكره لا يزيد كثيراً عما نقله عنه، في عام 2013، موقع «ميديابارت» الفرنسي.
يقول المسوري، وهو ينظر من وراء نظارته الطبية، متذكراً تلك الأيام من عام 2005، ويبدو واثقاً: «جاءنا ساركوزي في زيارة كوزير للداخلية، بدعوة من نظيره الليبي نصر المبروك. كان من الطبيعي أن يستقبله الأخ القائد (القذافي) كما هو معتاد بالنسبة لهذا المستوى من الضيوف. التقى به بالفعل في باب العزيزية (مقر الحكم في العاصمة)».
يضيف: إن ساركوزي طلب لقاءً ثنائياً مع القذافي... «فخرج المرافقون. أما هما فتكلما سوياً بلغة إنجليزية ركيكة. استمر اللقاء بينهما من خمس إلى عشر دقائق». ويشير إلى أن ساركوزي قال، خلال الاجتماع، إنه يريد أن يرشح نفسه للانتخابات، وأن القذافي رحب بأن يكون لليبيا صديق في قصر الإليزيه. وقال له: مستعدون لمد يد العون لك، وأن نساعدك. وانتهت الزيارة. ويفسر المسوري تعبير «مد العون» بأنه وعد من القذافي بدعم مالي.
وذكر ثلاثة من قيادات النظام السابق، من بينهم المسوري، أنهم كانوا على علم بنقل أموال إلى حملة ساركوزي، لكنهم لم يشاهدوا عملية النقل نفسها. وطلب اثنان من هؤلاء القادة عدم ذكر اسميهما، في هذه القصة لأسباب أمنية، لكنهما وافقا على أن يكون حديثهما مسجلاً.
وفي سؤال مباشر للمسوري:
«هل كنت في أي وقت من الأوقات شاهداً على خروج أموال لحملة ساركوزي؟».
فأجاب: أنا كشاهد، لا. لم أر أي حقيبة متجهة لساركوزي أو أي رئيس آخر».
«وهل حملتَ حقائب أموال لآخرين؟».
فأوضح: «نعم... حملت». لكنه رفض ذكر أي أسماء للزعماء الذين نقل لهم أموالاً من مخصصات القذافي... «لا يمكن أن أقول... هناك رؤساء أفارقة، وبعضهم ما زال في السلطة». ويضيف: إن تمويل حملات الرؤساء ليس حكراً على ليبيا، بل إن كثيراً من مرشحي الرئاسة في العالم الغربي يتلقون أموالاً لدعم حملاتهم الانتخابية سواء من دول، أو شركات، أو رجال أعمال.
وبحسب مقربين من القذافي، كانت هناك أموال تخصص للبند السياسي بمكتب القائد، يتم جلبها من المصرف المركزي، وتوضع في حقائب في مقر المراقب المالي للرئاسة في مقر الحكم بطرابلس، ويكتب على كل حقيبة قيمة ما فيها؛ مليون. مليونان. ثلاثة، وهكذا.
يقول «هذه مخصصات الرئاسة تأتي كتلة واحدة، وتصرف وفقاً لإرادة الرئيس (القذافي)». ويضيف: «بالطبع، لا يعلم المصرف المركزي بأوجه صرف الرئاسة لهذا الأموال. حتى المراقب المالي ليس لديه تفاصيل عن وجهة الكثير من هذه المخصصات. هذا ليس حكراً على القائد، وإنما أي رئيس دولة يتبنى سياسة الحضور الدبلوماسي في الخارج، يقوم بذلك».
ويستند المسوري في شهادته حول تمويل حملة ساركوزي على قصة وحيدة، على ما يبدو. وفيما عدا روايته لها، من الصعب إثبات صحتها مادياً.
تقول هذه الرواية، إن صحافية فرنسية سألت القذافي في مارس 2011، عن حجم الأموال التي دفعها لحملة ساركوزي. فقال لها القذافي إنه لا يتذكر الآن، وأنه سيبلغها غداً عن طريق المسوري.
يضيف مترجم القذافي، وهو يمسح براحة يده على لحيته الخفيفة: «في اليوم التالي قال لي القائد: (على فكرة أنا استفسرت عن موضوع المساهمة الخاصة بحملة ساركوزي، الذي سألت عنه الصحافية، وأن المبلغ 20 مليون دولار)». ويقول المترجم الذي يؤلف القصائد الشعرية بالعربية والفرنسية: «أنا شاهد... وهذا ما عرفته».
وسبق للنيابة الفرنسية أن استمعت إلى إفادة من المسوري عبر الهاتف، في قضية ساركوزي، على خلفية تصريحاته التي أطلقها في وسائل إعلام فرنسية عام 2013، يقول: سألوني، حينذاك، فأكدت لهم نفس الكلام. وقلت لهم بما عرفته من القذافي عن موضوع التمويل.
وبسؤال المسوري مجدداً، عما إذا كان قد رأى أي وثيقة تحوي مخاطبة من ساركوزي للقذافي يقول فيها له إنه يحتاج إلى أموال لدعم حملته الانتخابية، يجيب: «لا... أصلاً لا يوجد رئيس (أو وزير داخلية في حالة ساركوزي حينذاك) يقول أنا أريد أموالاً». ويزيد موضحاً بشأن ما إذا كان هناك أي مكاتبات مصرفية حول الموضوع: «طبعاً لا يوجد دليل مصرفي؛ لأنه لا يوجد تحويل مصرفي من الأساس. إذا كان هناك تحويل مصرفي فيكون من خارج ليبيا وبأسماء غير آخرين».
خلال شهادته في التحقيقات، حين كان ما زال محتجزاً في سجن الهضبة، يقول مدير الأمن الداخلي، عبد الله منصور لمستجوبيه: سمعت أنه تم تحويل أموال لساركوزي عبر فرع لمصرف ليبي في لبنان. وكان السنوسي مشرفاً على هذه العملية.
ويبدو من شهادات من كانوا موجودين في قناة التواصل بين ساركوزي والقذافي، من ليبيين وفرنسيين، إضافة إلى رجلي الأعمال اللبناني، زياد تقي الدين، والفرنسي من أصل جزائري ألكسندر الجوهري، إنها تخلو، على ما يبدو، حتى الآن، من وثائق مادية مباشرة. أي أنه يمكن القول إن هناك شهادات شفهية ومؤشرات فقط، إلى أن يثبت العكس.
من جانبه، يعلق المسوري قائلاً: «الأمر بسيط... هناك اعترافات السنوسي، والبغدادي، ومنصور، في محاضر التحقيق معهم عقب القبض عليهم في طرابلس. اذهبوا إليهم... فهم ما زالوا موجودين إلى الآن في السجون». وفي الأيام الماضية أبدت عائلة السنوسي قلقاً من انقطاع التواصل مع ابنها في محبسه.
يقول مصدر من العائلة: «لا نعرف في الوقت الراهن أين هو بالتحديد... منذ ثلاثة أشهر (أي من قبل الجدل الأخير حول قضية التمويل) نحن نحاول التواصل معه، أو معرفة مصيره، دون جدوى. في السابق لم تكن أخباره تنقطع عنا إلا أسبوعاً أو أسبوعين». وتشير تسريبات في العاصمة الليبية إلى أن محققين غربيين التقوا السنوسي في مقر أحد المسؤولين في طرابلس بعد جلبه إليهم من محبسه، وأن القوة التي جاءت به من السجن رجعت من دونه.
يقول مصدر قضائي ليبي، إن محققين فرنسيين زاروا العاصمة بالفعل، في وقت سابق، قبل هذه الواقعة، وأنهم لم يلتقوا بأي من هذه القيادات المسجونة في طرابلس، وقاموا فقط بالاطلاع على محاضر فيها إقرار من بعض مسؤولي النظام السابق تحوي معلومات تخص قضية ساركوزي. ويضيف: «أخذوا نسخاً من هذه المحاضر، لكنهم لم يلتقوا لا بالسنوسي، ولا بالبغدادي، ولا بمنصور».
وعما إذا كان يعتقد أن مثل هذه الشهادات كافية، أم أنها تظل مجرد قرائن، يجيب الدكتور المسوري قائلاً، إن «القضاء يؤمن بأدلة، وحين يأتي أحد ويقول لك أنا رأيت، فيسمونه شاهد إثبات. أي قاضٍ في العالم ينظر لأداة الجريمة ولشهود العيان، وهؤلاء شهود عيان على العلاقة (بين ساركوزي والقذافي)، وكلامهم مكتوب قضائياً، حتى قبل إثارة القضية».
وعلى كل حال، ساهم السطو على أرشيف الدولة الليبية منذ وقت مبكر من عام 2011 في اختفاء معلومات مهمة. وتقول واحدة من القصص التي رواها عبد الله منصور، من سجنه في طرابلس: «حين بدأت فرنسا في قصف ليبيا مطلع ذلك العام، كان سيف الإسلام، نجل القذافي، متحمساً للإعلان، لأول مرة، عن أن والده موَّل الحملة الانتخابية لساركوزي. كان سيف يريد الانتقام من الرئيس الفرنسي، باعتباره ناكراً للجميل، ويتهمه بأنه يحشد الدول الغربية لضرب ليبيا».
يقول منصور في تحقيقات معه مصورة بالفيديو وهو بملابس المسجونين الزرقاء، عندما كان في سجن الهضبة، على طريق مطار طرابلس الدولي: «حين سأل سيف الإسلام والده عن الوثائق التي تثبت ذلك، لم يتم العثور على أي تسجيلات تخص الموضوع. فتم إخطار رجال المخابرات. وبعد البحث، فوجئ الجميع بأن كل هذه الوثائق اختفت». يقول قيادي من النظام السابق: كانت خيانة من أطراف داخل حلقة القذافي.
ومنذ 2011 اختفى معظم أرشيف عهد القذافي الذي استمر في الحكم 42 عاماً.
يقول مستشار للمجلس الرئاسي أثناء وجوده في مصر مؤخراً: «لم نستطع الوصول إلى معظم أرشيف الدولة في قطاعات الرقابة الاقتصاد والمالية، وفي مؤسسات الأمن الخارجي والأمن الداخلي (الاستخبارات)، وفي جهاز التخطيط. كما اختفى الكثير من أرشيف السجلات المدنية وتعداد السكان والسجلات العقارية، ومعاملات الشركات الأجنبية التي كانت تستثمر مليارات الدولارات في ليبيا قبل مقتل القذافي».
تعيش ليبيا في فوضى عارمة منذ ذلك الوقت. لا يوجد يقين بشأن أي شيء. كل قصة تتفرع منها مئات الخيوط بلا نهاية محددة.
في العام الماضي، جرى نقل مساجين النظام السابق من سجن الهضبة إلى سجون أخرى تديرها ميليشيات، ولا تشرف عليها النيابة العامة، وذلك عقب اجتياح السجن في حرب بين قوات في العاصمة في مايو (أيار) الماضي. وكان من بينهم السنوسي والمحمودي ومنصور.
وقبل أيام أطلقت السلطات البريطانية سراح الجوهري بعد احتجازه لأكثر من شهر بشأن قضية ساركوزي. والجوهري، هو الآخر، مطلوب للمثول أمام القضاء الفرنسي حول الموضوع نفسه. يقول قيادي من نظام القذافي: «يعلم هذان الرجلان (تقي الدين، والجوهري) تفاصيل نقل الأموال لساركوزي، حيث كانا محسوبَين على الجانب الفرنسي المرتبط بطرابلس، وبخاصة مع السنوسي».
من جانبه، ذكر تقي الدين اسم رجل أعمال عربي، قال إنه كانت له صلة، مثل الجوهري، بموضوع «ساركوزي - القذافي»، مع أنه لم يرد ذكره، من قبل، ضمن اللغط الدائر حول التمويل. وهذا مؤشر على أن قضية الرئيس الفرنسي السابق يمكن أن تؤثر على كثيرين ما زالوا بعيدين عن الأضواء. كما ذكر تقي الدين، اسم بشير صالح، الذي يتحدث الفرنسية، ويوصف بأنه كان مديراً لمكتب القذافي.
وأصيب صالح فيما يعتقد أنها محاولة اغتيال في أواخر فبراير (شباط)، في جنوب أفريقيا، التي يقيم فيها منذ سنوات، حيث هجر فرنسا بعد خروج ساركوزي من قصر الإليزيه. وينفي صالح أي علاقة له بقصة التمويل. لكن قيادياً في النظام السابق يقول، في مقابلة مسجلة معه في فيلته بالقاهرة، إن صالح يرفض الزج باسمه في القصة خوفاً على حياته.
ويتحرك هذا القيادي نفسه، رغم إقامته في العاصمة المصرية، بخطوات محسوبة في ظل هواجس تعتريه بأنه يمكن استهدافه من خصوم غامضين، بعد أن كان لزمنٍ مقرباً من القذافي ونجله ورؤساء أجهزة أمنية في طرابلس.
ويقوم بعض من زعماء النظام السابق، ممن تفرقت بهم السبل في مصر وتونس، بالتواصل وإرسال برقيات بين حين وآخر إلى زعماء دوليين ولمنظمات دولية بما فيها الأمم المتحدة، كان آخرها برقية تتضمن مخاوف على مصير السنوسي. ولدى بعضهم طرق منذ سنوات لتنشيط حملات قانونية وإعلامية ضد ساركوزي داخل باريس.
وفي منزل آخر قرب القاهرة، محاط بحراسات أمنية خاصة، ومزود بكاميرات مراقبة، يقول مسؤول ليبي كان مقرباً من القذافي متحدثاً عن ساركوزي: «سنسحقه. لقد كان ناكراً للجميل. أعطيناه أمولاً فقصفنا بالصواريخ».
لكن أين الوثائق؟ أين الأدلة؟ يجيب موضحاً، إن هناك «أدلة ووثائق سُلمت للسلطات الفرنسية خلال السنوات الماضية... هناك فريق نشط يعمل على هذا الأمر. لو لم تكن هناك أدلة لما تعامل القضاء الفرنسي مع الموضوع بهذه الجدية».
بيد أنه يقرُّ بأن معظم أرشيف الدولة الليبية، نقله زعيم في الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة، إلى قطر، بعد اجتياح المنتفضين لمقر القذافي في باب العزيزية، مشيراً كذلك، وبمرارة، إلى ضلوع أطراف من النظام السابق في تسليم وثائق أخرى مهمة للسلطات الفرنسية نفسها منذ بداية 2011، أي قبل خروج القذافي من طرابلس.
ومثل كثير المقربين الآخرين من النظام السابق، يبدو الاعتماد حتى الآن على مجرد تكهنات ومؤشرات في قضية تمويل حملة الرئيس الفرنسي السابق. ومن بين جدران غرفة الاستقبال المزينة بصور القذافي، يقول هذا القيادي المخضرم، وهو يرشف القهوة: «ما يمكن أن أقوله لك هو أن كل من كان على علاقة بموضوع التمويل، جرى استهدافه أو ما زال عرضة للاستهداف».
ويتابع قائلاً: «لقد جرى القبض على المحمودي في تونس في 2012، وتسليمه لليبيا، بعد أن ذكر محاميه، وقتها، أن موكله يريد أن يتحدث عن الأموال التي دفعتها ليبيا لساركوزي. كما أن السنوسي اختطف من موريتانيا، في العام نفسه».
وحدثت هذه الأمور في عهد ساركوزي... نعم، لكنها لا يبدو أنها تعكس مؤشراً قوياً؛ لأن هناك مسؤولين ليبيين آخرين من النظام السابق جرى تسليمهم من الخارج للحكام الجدد في طرابلس، أو محاولة استهدافهم في منافيهم الاختيارية، حتى بعد خروج ساركوزي من قصر الإليزيه.
ويعد منصور، وهو شاعر رهيف الحس كما أنه رجل أمن يتسم بالقسوة، من بين هؤلاء، حيث سلمته النيجر لطرابلس في 2014. ويضيف القيادي الليبي في أسى: «وأنا أيضاً تعرضت لهجوم في 2013»، بالإضافة إلى استهداف صالح في جنوب أفريقيا أخيراً... «كلنا يعلم حقيقة ما جرى. وهناك من يسعى لدفن الماضي».
ورافق هذا الرجل، القذافي كظله، منذ الصغر. وله علاقات قوية بالسنوسي والمحمودي ومنصور. ويقول إنه أصبح يخشى على حياتهم بعد تفجر قضية التمويل في فرنسا... «هذه القيادات مستهدفة، وقد بعثنا، نحن قيادات النظام السابق، رسالة للأمم المتحدة، حملناها المسؤولية عن حياة هؤلاء الذين هم في السجون؛ لأننا نعدهم شهوداً رئيسيين في قضية ساركوزي».
حتى مترجم القذافي يبدو أنه يخشى على حياته من عواقب تصريحاته الأخيرة بشأن ساركوزي، مشيراً إلى أن بعضاً ممن تولوا المسؤولية في ليبيا، ينظرون إلى الرئيس الفرنسي السابق بوصفه بطلاً ومنقذاً لهم من القذافي.
وبعد قليل من الصمت يقول: «(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)... وكل شيء متوقع... ربما حين أعود لليبيا، يلقون القبض عليَّ، ويجبرونني على العودة عن تصريحاتي، وبخاصة أن هناك إشاعات تقول إن مسؤولين كباراً في ليبيا اتصلوا بجهات أمنية ليبية بشأن البحث عني، أو إجباري على الرجوع عن أقوالي».
وكان بهو الفندق قد خلا من الرواد. وعبر النافذة بدت ضاحية الزمالك أكثر هدوءاً. وللخروج من زخم قصص التمويل المخيفة، ردد المسوري مقتطفات من قصائده إحداها باللغة الفرنسية، تتحدث عن النسيم والزهور وهجر الحبيب. ولا يعد الرجل، على ما يبدو، من أنصار النظام السابق. وهو ينظر إلى نفسه باعتباره دبلوماسياً لا علاقة له بالسياسة.
يقول إنه يعتقد، بصفته مواطناً ليبياً، أن «ثورة فبراير» جاءت من أجل حرية الرأي؛ و«لذلك أتمنى أن يكون ما سمعته عن أنني مطلوب من السلطات في ليبيا، مجرد شائعات، لأن أي إجراء ضدي بسبب تصريحاتي عن ساركوزي، يعد نقيضاً للديمقراطية ودولة المؤسسات والقانون».



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.