حين يغرس البنيان أنيابه في براثن المحتبسين فيه

«خراف البرج الزجاجي» للكاتبة السعودية نداء أبو علي

حين يغرس البنيان أنيابه في براثن المحتبسين فيه
TT

حين يغرس البنيان أنيابه في براثن المحتبسين فيه

حين يغرس البنيان أنيابه في براثن المحتبسين فيه

إذا ما اجتمع رهاب الأماكن الضيّقة والاضطرار إلى مخالطة الآخرين يستحيل ذلك إلى وصفة مستفحلة لحالة انهيار نفسي، كما في رواية «خراف البرج الزجاجي» للروائية السعودية الزميلة نداء أبو علي، التي صدرت عن منشورات ضفاف في فبراير (شباط) 2018. وتتمحور أحداثها حول اضطرار 7 رجال و3 سيدات للاحتباس لمدة لا تتجاوز 48 ساعة في مقر عملهم نتيجة ظروف قسرية وهي الاشتباه بوجود خلية إرهابية مجاورة، والتعامل مع بعضهم على الرغم من اختلاف أمزجتهم وتوجهاتهم، ومدى اختلاف طرق تعاملهم مع الضغوط النفسية المفضية إلى حالات انهيار.
تتجلى أحداث الرواية من منظور الشخصية المحورية الساردة لما يحدث أمامها، مع توظيف مستمر للمونولوغ الداخلي الذي يعكس نظرة استعلائية ساخطة على الآخرين تتجلى في تضخيم هفواتهم وثغرات شخصياتهم، الأمر الذي يعكس أزمة وجودية وشعورا بالغربة وعدم الانتماء للمحيط.
وهنا نتعرف على ردود فعل الشخصيات المختلفة حيال الاحتباس، مثل شخصية المدير سامي بجسده البدين، والمتشبث بأطراف أصابعه في أعلى المبنى، فيما يسعى آخرون للتعلق بالنوافذ أو حتى مجرد تأمل ما يحدث في الخارج والتدخين بصمت. وتظهر شخصيات أخرى مثل المستهتر والآخر القلق والعامل أفتاب الذي يرتدي البنطال والقميص، وحارس أمن المبنى عبد الحق، وكذلك الشخصية الحالمة ميساء التي تنظر إلى كل الوقائع بإيجابية مفرطة. وينعكس ذلك من خلال تأملها النافذة وقد أمالت رأسها جانبا ليتطاير شعرها من وراء الطرحة.
أما أسلوب الرواية فيمازج ما بين الأحداث الدرامية وحس الفكاهة، كما في المشاهد الفانتازية في مطلع كل فصل، التي تتدرج من حلم هادئ حتى تصبح كوابيس كارثية متضخمة بسوداويتها كلما اقتربت من النهاية.
شخصيات الرواية العشر تبدو وكأنها تجسد طبقات المجتمع المختلفة واختلافاتها فيما بينها، بدءاً بالمدير وانتهاء بحارس أمن المبنى، ليعكس ذلك مدى تعقيد تركيبة المجتمع والنفاق المستشري لدى البعض، وصعوبة وضعية النساء في مجتمع ذكوري حتم عليهن أن تتوزّع مكاتبهن في قاع البرج الزجاجي أي في الدور السفلي فيه، فيما تتفاوت طرق تعامل السيدات مع الوضع الراهن بأطر مختلفة ما بين محاولاتهن للارتقاء وإثبات الوجود أو الشعور بالإحباط وعدم القدرة على التغيير. ويظل البرج الزجاجي بطل الرواية باكتساحه لأحداثها التي تقع غالبيتها داخل المبنى ذاته وفي مدة زمنية قصيرة. وعلى الرغم من أن بنيانه يظهر قوياً فإن نوافذه الزجاجية تهدّد استقراره وإمكانية التهجّم عليه من الخارج، الأمر الذي حتّم ضرورة تسارع الأحداث وتفاعل الشخصيات بقلق في محاولة الهرب من المكان الخانق للأنفاس دون قدرة على فعل أي شيء، كما في هذا المقطع: «لم أتصوّر أنني ذات يومٍ سأحتبس وأرغم على الحملقة بهذا الخشبي اللعين الذي يحشرني مع امرأتين بعيداً عن زمرة الرجال، ويفصلني عنك أنت بالتحديد. أتمنّى لو أدفعهما خارجه بقسوة فأبعد عنّي ولو لمسافة قصيرة بعض الشيء أصوات القلق المزعجة المنهمرة من حولي. في مثل هذه الظروف لا أستطيع أن أتجلّد خلف قناعي الصلد. يصعب علي مجاراتهم وأنا محتبسة لساعات طويلة في المكان نفسه معهم. أريد أن أصيح بهم بشراسة تكشّر عن أنيابها لأول مرّة: (اخرسوا جميعاً!)».


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي
TT

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى. هذا ما خطر ببالي وأنا أعيد قراءة كتاب الفيلسوف السعودي عبد الله العلي القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». من وجهة نظره، العرب مُصوّتون فقط في حين لا يكتفي الآخرون بإصدار الأصوات، بل يتكلمون ويفكرون ويخططون وهم أيضاً خلاقون قاموا بإبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوزوا الطبيعة وفهموها وقاموا بتفسيرها قراءة فهم وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق.

مثل هذا النقد مدمر لأنه يبشر بسقوط يستحيل النهوض منه لأن المشكلة في الجينات، والجينات لا يمكن إصلاحها. «العرب ظاهرة صوتية»، شعار رفعه العديد من الكتاب وأصبحت «كليشة» مكرورة ومملة، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه نافعاً لأنه لا يضع خطة عمل، بل يرمي العربي في حفرة من الإحباط. مع أن هناك الكثير مما نراه من إنجازات دولنا في الجوانب النهضوية وأفرادنا على الصعيد العلمي ما يدعو إلى التفاؤل، لا الإحباط.

ما الذي خرج به جلد الذات الذي يمارسه المثقفون العرب على أنفسهم وثقافتهم بعد كل هذه العقود المتتابعة؟ بطبيعة الحال، ليس هذا موقف الجميع، إلا أن الأصوات المتطرفة توصلت إلى أن العرب لديهم مشكلة جينية، تمنعهم من مواكبة قطار الحداثة وإصلاح مشكلاتهم والانتقال إلى نظام الحياة المدنية المتحضرة. لا خلاف على تطوير أنظمة الحياة وتطبيق فلسفة المنفعة العامة للمجتمع وإعلاء قيمة حقوق الإنسان والحرية، وإنما الخلاف هو في هذا الوهم الذي يُخيل لبعض المثقفين أن المشكلة ضربة لازب وأنه لا حل، وهذا ما يجعل خطابهم جزءاً من المشكلة لا الحل، لأن هذا الخطاب أسس لخطاب مضاد، لأغراض دفاعية، يتجاهل وجود المشكلة وينكرها.

لا فائدة على الإطلاق في أن ننقسم إلى فريقين، فريق التمجيد والتقديس للثقافة العربية وفريق مشكلة الجينات. وأصحاب الرؤية التقديسية هم أيضاً يشكلون جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنهم لا يرغبون في تحريك شيء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وإن دخلت معهم في نقاش فتحوا لك صفحة الماضي المجيد والانتصارات العسكرية وغزو العالم في العصر الوسيط يوم كان العرب حقاً متفوقين، وكان المثقف الأوروبي يتباهى على أقرانه بأنه يتحدث العربية ويفهم فلسفة ابن رشد.

يخطئ الإسلاميون، وهم من يرفع شعار التقديس، عندما يتخيلون أن تجربتهم هي التمثيل الأوحد للديانة الإسلامية، فالنص حمَّال أوجه وفي باطنه آلاف التفاسير، والناجح حقاً هو من يستطيع أن يتخلى عن قراءاته القديمة التي ثبت فشلها ولم تحل مشكلات الشعوب التي تتوق إلى الحياة الكريمة. يخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يسحق الأقليات ويحكم بالحديد والنار، وها هي تجربة صدام حسين وبشار الأسد ماثلة أمام عيوننا.

لقد بدأت مشكلتنا منذ زمن قديم، فالأمة العربية الإسلامية أدارت ظهرها للعلم في لحظته المفصلية في قرون الثورة العلمية والاكتشافات، ولهذا تراجعت عن المكانة العظيمة التي كانت للحضارة العربية الإسلامية يوم كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. دخلت حقاً في عصور الانحطاط عندما رفضت مبدأ السببية الذي قام عليه كل العلم بقضه وقضيضه، وولجت في عوالم من الدروشة والتخلف، ليس فقط على صعيد العلوم المادية، بل على الصعيد الأخلاقي أيضاً، وأصبحت صورة العربي في الذاكرة الجمعية تشير إلى شخص لا يمكن أن يؤتمن ولا أن يصدّق فيما يقول. هذا ما يجعله ضيفاً ثقيلاً من وجهة نظر بعض المجتمعات الغربية التي لجأ إليها العرب للعيش فيها.

لقد عاش العربي في دول تقوم على فرق ومذاهب متباغضة متكارهة قامت على تهميش الأقليات التي تحولت بدورها إلى قنابل موقوتة. هذا المشهد تكرر في كل الأمم وليس خاصاً بالعرب، فنحن نعلم أن أوروبا عاشت حروباً دينية دموية اختلط فيها الديني بالسياسي وأزهقت بسببها مئات الآلاف من الأرواح، لكنهم بطريقة ما استطاعوا أن يداووا هذا الجرح، بسبب الجهود العظيمة لفلاسفة التنوير ودعاة التسامح والتمدن والتعامل الإنساني الحضاري، ولم يعد في أوروبا حروب دينية كالتي لا زالت تقع بين العرب المسلمين والأقليات التي تعيش في أكنافهم. العرب بحاجة إلى مثل هذا التجاوز الذي لا يمكن أن يحصل إلا في ضفاف تكاثر الدول المدنية في عالمنا، وأعني بالمدنية الدولة التي تعرف قيمة حقوق الإنسان، لا الدول التي ترفع شعار العلمانية ثم تعود وتضرب شعوبها بالأسلحة الكيماوية.

الدولة المدنية، دولة الحقوق والواجبات هي الحل، ومشكلة العرب ثقافية فكرية وليست جينية على الإطلاق. ثقافتنا التي تراكمت عبر العقود هي جهد بشري أسس لأنظمة أخلاقية وأنماط للحياة، وهذه الأنظمة والأنماط بحاجة إلى مراجعة مستمرة يديرها مشرط التصحيح والتقويم والنقد الصادق، لا لنصبح نسخة أخرى من الثقافة الغربية، وإنما لنحقق سعادة المواطن العربي وحفظ كرامته.