أغاني الانتخابات في مصر توثّق أشكال الدعاية السياسية

بدأت في 2012 وانتعشت في 2018

حكيم يؤدي أغنية «أبو الرجولة»
حكيم يؤدي أغنية «أبو الرجولة»
TT

أغاني الانتخابات في مصر توثّق أشكال الدعاية السياسية

حكيم يؤدي أغنية «أبو الرجولة»
حكيم يؤدي أغنية «أبو الرجولة»

أصبحت الأغاني جزءاً أساسياً من الدعاية الانتخابية في مصر، ففي كل موسم انتخابات يخرج مطربون بأغانٍ جديدة تتضمن دعوة للمشاركة في الانتخابات أو دعاية لمرشح بعينه، وفي كل الأحوال يحرص منتجو هذه الأغاني على أن تحوي إيقاعات راقصة، وكلمات بسيطة قريبة من المواطن العادي، والأجواء الشعبية. وأصبح وجود هذه الأغاني أمام مقار اللجان الانتخابية ظاهرة متكررة في كل انتخابات، بعدما بدأت على استحياء في انتخابات 2012، وازدهرت بشكل لافت في انتخابات 2014 والانتخابات الأخيرة في 2018. وقال خبراء ومتابعون إنهم باتوا يوثقون أشكال الدعاية السياسية في السنوات الأخيرة بمصر، بعد انتشار هذه الأغاني بشكل لافت وكبير مع كل استحقاق انتخابي.
وتقول الدكتورة نهى عاطف، مدرسة الإعلام بعدد من الجامعات المصرية، في كتابها «الإعلام الشعبي: بين إعلام الدولة ودولة الإعلام»، إن ظهور الأغاني الانتخابية ظهر بشكل واضح مع الانتخابات الرئاسية عام 2012، حيث حوَّل المطرب الشعبي عصام شعبان أغنيته التي تحمل اسم «بسبعة ونص»، إلى أغنية دعائية للمرشح لرئاسة الجمهورية في ذلك الوقت الفريق أحمد شفيق، وقال فيها: «أحمد شفيق ما بيعرفش مكاتب وبيبان.. أحمد شفيق راجل عملي في شارع وميدان».
وبطبيعة الحال ظهرت أغنية لمحمد مرسي، مرشح جماعة الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، لمنصب رئيس الجمهورية، لا يُعرف من كتبها لكنها كانت تؤدى على إيقاع «المقسوم» الشعبي، وتقول: «مرسي حبيبنا ومش هيسيبنا.. خش وعلم ع الميزان».
وترى نهى عاطف أنه سواء كانت هذه الأغنيات جزءاً من الحملة الانتخابية لمرشحي الرئاسة في ذلك الوقت، أو أدَّاها المطربون من أنفسهم، فهي تعكس تغيراً في الخطاب السياسي، موضحة أنه في الانتخابات الرئاسية الأولى التي شهدتها مصر في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، عام 2005 «حرص المرشحون على شرح برنامجهم الانتخابي بلغة تخاطب الطبقة المتوسطة، أو المواطن الواعي بالشأن العام، لكن عام 2012 شهد مغازلة للطبقات الكادحة بلغة وأغانٍ شعبية».
وتضيف عاطف لـ«الشرق الأوسط» أن «هذا التطور حدث بعد ثورة 25 يناير، التي كان للشعب دور كبير فيها، وهو ما دفع الإعلام ورجال السياسة إلى مخاطبته»، مشيرة إلى أن الأغاني قبل ثورة 25 يناير، كانت حالمة وهادئة، وكانت تتحدث عن الرئيس نفسه، أو أغانٍ وطنية بشكل عام، مثل أغنية محمد منير عام 2009 التي استغل فيها شعار الرئيس الأسبق مبارك في الانتخابات «العبور للمستقبل»، وقال فيها: «قدامنا لسه عبور تاني».
ومع تطور الأوضاع السياسية، ازدهرت الأغاني السياسية الشعبية، وظهر ذلك بوضوح في أعقاب ثورة 30 يونيو (حزيران)، التي شهدت عودة قوية للأغنية الوطنية، شبيهة بالحالة التي ولدتها ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، التي أدت إلى ازدهار الأغنية الوطنية، حيث استمتع المصريون بأغاني المطربين وقتها من أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وشادية وغيرهم، وكانت هذه الأغاني وسيلة لحشد الجماهير خلف القيادة السياسية والنظام الجمهوري الجديد، وحشده وراء الدولة في حربها مع إسرائيل في ذلك الوقت.
وانتشرت في أعقاب ثورة 30 يونيو أغنيات كثيرة لكن أشهرها هي أغنية «تسلم الأيادي»، التي أصبحت الأغنية الرسمية تقريباً في كل الاحتفالات وحتى الأفراح الشعبية، وهي من كلمات وألحان مصطفى كامل، وإلى جانبها ظهرت أغنية للمطرب حسين الجسمي تتضمن أيضاً دعماً للجيش المصري وللرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي كان وقتها وزيراً للدفاع، وهي أغنية «تسلم إيديك».
وفي الانتخابات الرئاسية عام 2014 ظهرت عدة أغنيات لدعم الرئيس السيسي، من بينها أغنية للمطرب هاني شاكر تحمل اسم «كمل جميلك»، وتضمنت دعوة للرئيس السيسي للاستجابة لرغبة الشعب وترشيح نفسه في الانتخابات.
وترى عاطف أن «أغنية (بشرة خير) تعد تحولاً في الميزان، فهي أغنية راقصة واحتفالية تتضمن تحفيزاً للمشاركة بشكل كبير»، مشيرة إلى أن هذا التحول استمر في الانتخابات الأخيرة وأصبحت الأغاني الشعبية الراقصة طريقة لمخاطبة الجماهير في الانتخابات.
جدير بالذكر أن أغاني الانتخابات ركزت هذه المرة على دعوة المصريين للمشاركة في الانتخابات، وبدأ المطرب هاني شاكر سباق الأغاني الانتخابية، بأغنية «مصر محتاجانا»، في يناير الماضي، ومع بداية مارس (آذار) الحالي، طرح الفنان رامي صبري أغنية «ابن بلدي»، وغنى الفنان تامر عاشور أغنية «ألف شكر»، فيما قدم المطرب محمد فؤاد أغنية «شارك».
واختتم موسم الانتخابات الرئاسية بأغنية للمطرب الشعبي حكيم تحمل اسم «أبو الرجولة»، وتدعو المواطنين للمشاركة في الانتخابات، لتحتل المركز الأول في سباق أغاني الانتخابات لعام 2018، وتصبح الأغنية الرسمية على أبواب لجان الاقتراع، ومرة أخرى بكلمات شعبية وإيقاعات راقصة، استطاعت أن تحول العملية السياسية إلى ساحة للرقص والاحتفالات.
وإلى جانب المبادرات الفردية من المطربين دخلت الهيئات الرسمية على خط الدعاية الانتخابية هذه المرة، إذ أنتجت الهيئة العامة لقصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة المصرية 6 أغنيات شعبية تمثل أقاليم مصر المختلفة للدعوة للانتخابات، من بينها أغنية تقول «عشان نتحدى الإرهاب.. نشارك في الانتخابات.. ونملا مصر عمار بإيديكم وإيدينا»، وقال الدكتور أحمد عواض، رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، إن الأغاني تتضمن أغنية لوجه بحري، والصعيد، وأسوان، والواحات، ومرسى مطروح، ومنطقة القناة وبورسعيد، وغنها «وسيلة لاستعادة دورها في نشر الوعي السياسي، وتنبيه المجتمع للعملية السياسية، وهذا أحد الأدوار المهمة للهيئة، إلى جانب أدوار أخرى بدأت في استعادتها أخيراً في مجال نشر الوعي البيئي والصحي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)