مسيحيو العراق... ماضٍ لن يعود ومستقبل لن يأتي

الحوادث الأمنية تخلق عندهم هاجسين

مسيحيو العراق... ماضٍ لن يعود ومستقبل لن يأتي
TT

مسيحيو العراق... ماضٍ لن يعود ومستقبل لن يأتي

مسيحيو العراق... ماضٍ لن يعود ومستقبل لن يأتي

في مكان مقدس عند المسيحيين هو الكنيسة، وفي مناسبة تأبينية أبكت كل العراقيين من مختلف الأديان والطوائف والمذاهب وهي قتل عائلة مسيحية مكوّنة من طبيب مشهور وزوجته {وهي طبيبة أيضاً} ووالدتها، وسط بغداد الأسبوع الماضي، بدت الكنيسة شبه مهجورة. السبب المباشر والوحيد للقلق الذي عبّر عنه المسيحيون أنهم يخشون استهدافهم واستهداف كنائسهم لأسباب تتعلق بكراهية الآخر المختلف.
منظر الكنيسة شبه الفارغة كان أكثر إثارة للحزن بالنسبة إلى مرتاديها من المسيحيين مع أن المناسبة كانت قداساً أُقيم على روح عائلة الدكتور هشام مسكوني، وهو واحد من أبرز مَن بقي في العراق من أطبائه المسيحيين المعروفين. ذلك أنه خلال السنوات الماضية غادر معظم -إن لم يكن جميع أفراد- نخبة الأطباء العراقيين الذين تعدّدت مستويات استهدافهم وأسبابه وتفاصيله، بدءاً من الاستهداف على الهوية (العرقية أو الطائفية)، وانتهاء بغرض الابتزاز المالي أو الفصل العشائري. بل، حتى في حال توفي مريض في أثناء إجراء عملية له... فعندها دائماً يكون الطبيب هو المسؤول.
كثيرون يرون أن هذه الحوادث، سواءً تلك التي تستهدف المسيحيين أم باقي العراقيين من كل المكوّنات والأطياف، تعود في النهاية إلى وجود «خلل في الأمن»، كما قال البطريرك لويس رفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم، في البيان الذي أصدره عقب مقتل الطبيب وعائلته. كذلك، استبعد يونادم كنا، النائب المسيحي في البرلمان العراقي، وجود غاية سياسية وراء قتل تلك العائلة، وعدّ الجريمة مجرد جريمة جنائية تتعلق بسرقة منزل فقط.
البطريرك ساكو قال بيانه إن عمليات الاغتيال التي تتكرّر تتباين بين «الاستيلاء على أموالهم (أموال الناس)، أو بهدف أخذ الثأر والانتقام، ومن بين هؤلاء الأشخاص الذين تم قتلهم بدم بارد خلال الأيام الأخيرة شاب وزوجته، وهما طبيبان، إضافة إلى والدة الزوجة، وجميعهم مسيحيون، وتمت سرقة أموالهم أمام الملأ».
واللافت في بيان البطريرك ساكو، الذي يعد أرفع شخصية مسيحية في العراق، ليس فقط دعوته «الحكومة لاتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية المواطنين وممتلكاتهم، وملاحقة الجناة وتقديمهم للعدالة ومعاقبتهم بقسوة لتطمين المواطنين» بل دعوته «الجهات الدينية والتربوية والإعلامية إلى إشاعة ثقافة السلام والحياة واحترام الآخر والعيش المشترك». وهذه الأخيرة تبدو لب المشكلة في العراق اليوم. إذ يجري استهداف أبناء الطوائف والديانات التي يطلق عليها مسمى «الأقليات الدينية» في العراق، ويأتي في المقدمة المسيحيون بمختلف طوائفهم (من كلدان وسريان وآشوريين) والذين كان يبلغ تعدادهم حتى الأمس القريب (2003) نحو مليون ونصف المليون نسمة بينما يقرب اليوم من نصف مليون نسمة فقط.
جريمة قتل عائلة مسكوني المسيحية لم تكن الأولى، وكل المؤشرات تقول إنها لن تكون الأخيرة. إلا أنها أثارت على نحو مختلف هذه المرة إشكالية التعايش في العراق، ولا سيما بعد القضاء على تنظيم داعش الإرهابي المتطرف، الذي كان ينظر إلى أتباع الديانات الأخرى على أنهم كفّار يتوجب قتلهم أو سبيهم أو تهجيرهم، أو حتى اغتصاب نسائهم، وبيعهن في أسواق النخاسة، كما فعل بالفعل مع الطائفة الأيزيدية في قضاء سنجار غربي مدينة الموصل، كبرى مدن شمال العراق.
- القانون المفقود
النائب المسيحي جوزيف صليوة تحدث إلى «الشرق الأوسط»، فقال إنه على الرغم من أن الدوافع «قد تكون متباينة... إذ قد تكون جنائية صرفة بدافع السرقة مثلما يحصل لباقي العراقيين من كل المكوّنات، تبقى المسألة هي كيف يمكننا أن نضمن حمايةً للمواطن في هذا البلد بصرف النظر عن ديانته أو قوميته أو مذهبه؟».
من جانبه، يرى الدكتور دريد جميل، المتحدث الرسمي باسم «حركة بابليون» المسيحية وأستاذ علم النفس في الجامعة المستنصرية ببغداد، أيضاً في لقاء مع «الشرق الأوسط»، أنه «مهما كان الدافع، فإنه فضلاً عن كونه يؤشر لوجود خلل يستوجب المعالجة، فالأمر بالنسبة إلى المسيحيين يختلف عنه مع باقي العراقيين من المكوّنات الأخرى». ويستطرد: «هناك أسباب موضوعية لذلك لعل في المقدمة منها أن المسيحيين أقلية، وبالتالي، فإن حادثة واحدة تبث فيهم كل أنواع الخوف والقلق، بل والرعب، بينما إذا حصلت حادثة مماثلة لمواطن عراقي من أبناء المكوّنات الكبيرة فإنه يمكن أن تضيع وسط تجمّعات سكانية وبشرية كبيرة». ويعرّج جميل على مسألة يرى أنها في غاية الأهمية، «وهي أن المسيحي حين يتعرض لأي موقف يجد نفسه وحيداً، إذ لا توجد حوله، بخلاف الشيعي أو السنّي، عشيرة كبيرة يمكن أن تأخذ حقه في ظل غياب القانون، أو تثأر له حتى بالعرف العشائري. نحن ليس لنا سوى القانون، لكن هذا القانون ضعيف أو مفقود». ويرى جميل أن «العراقيين جميعاً يشكون ضعف القانون، وهم جميعاً ضحايا لذلك، لكن المشكلة بالنسبة إلى المكوّن المسيحي أو عموم أبناء الأقليات، أنه حتى ما يبدو جريمة عادية جنائية قد يكون لها غطاء سياسي... بمعنى أن جريمة القتل التي وقعت ضد الطبيب المسيحي وعائلته قد يكون دافعها المباشر جنائياً، غير أن لها أبعادها السياسية لأنها تدفع باقي المسيحيين الخائفين، الذين يفتقرون إلى قانون يحميهم، إلى الهجرة وترك بيوتهم وأملاكهم.... ومن ثمّ، تأتي العصابات، ومن يقف خلفها، لتسيطر عليها». ويبيّن الأكاديمي المسيحي العراقي أن «ملف تزوير عقارات المسيحيين والاستيلاء عليها من قبل جهات متنفذة هو أحد الملفات المثيرة للحزن والأسى معاً».
- مفصل تاريخي للمسيحيين
في السياق نفسه، قال عضو البرلمان العراقي عماد يوخنا (وهو آشوري) لـ«الشرق الأوسط»، شارحاً «التعايش المجتمعي في العراق، وهو التعايش الذي كان يميّز المكونات العراقية على امتداد آلاف السنين على الرغم من كل دورات العنف التي مر بها التاريخ العراقي، لم يحصل له مثل ما يحصل اليوم». وأشار إلى أن استهداف المسيحيين «يبدو الآن منهجياً ومنظماً في ظل صمت دولي مريب». وأردف يوخنا: «من شأن ذلك تهديد، أو ربما نسف، التجانس المجتمعي والثقافي داخل العراق».
مع ذلك، فإن العديد من الباحثين في شؤون العراق السياسية والاجتماعية يرون أن الأزمات المجتمعية التي يتعرض لها العراق بين فترة وأخرى، والتي غالباً ما تأخذ أبعاداً وأشكالاً مختلفة مما يسمى «الإقصاء» و«التهميش» و«المظلومية»، ترتبط في الغالب بدورات الحكم السياسي فيه. ويرى هؤلاء أن الحكم في العراق، منذ عام 1921 وحتى سقوط النظام العراقي السابق عام 2003، كان يدافع عن فكرة قوامها أن العراق «دولة أمة». لكن بعد عام 2003 أصبح العراق «دولة مكوّنات». وفي حين وجدت الأقليات في الحقب الماضية نوعاً من القدرة على التعايش مع الكبار بسبب قوة السلطة المركزية والقانون النافذ، فإن شعور الشيعة والأكراد من تهميش وإقصاء وظلم إنما نتج -كما كانوا يشكون– عن منعهم من الحصول على ما يوازي حجمهم على صعيد السلطة بكل تفرّعاتها.
أما بعد عام 2003، ومع تغيير معادلة السلطة والدولة إلى «دولة المكوّنات»، فإن الأقليات وجدت نفسها في الهامش، لا سيما، بعد أن باتت أحجام الكتل أو المكونات تُحسب على أساس ما تحصل عليه من مقاعد نيابية، وهي التي تحدد حصة كل مكوّن -ديني أو مذهبي أو عرقي- من الوزارات والمؤسسات... وما يترتب عليها من مغانم ومغارم.
- أقليات ضد الأقليات
الصورة تبدو أوضح في ضوء سرد الباحث الدكتور دريد جميل بعض وقائع ما يجري، وتحديداً عند الذهاب شمالاً إلى سهل نينوى الذي يعد المعقل الرئيسي للأقليات الدينية والعرقية في العراق سواء كانوا مسيحيين (كلدان أو آشوريين أو سريان) أو أيزيديين أو شبكاً.
هنا، ما حصل للأقليات لم يأتِ فقط نتيجة عوامل خارجية، بل بسببهم هم أيضاً. إذ يقول جميل إن «المشكلة التي نعانيها كأقليات، وبالذات، في سهل نينوى هو عدم وجود (وحدة موقف) بيننا، نحن أبناء الأقليات. ذلك أن الشبك –مثلاً- منقسمون بين كون بعضهم شيعة يستقوون بجهات سياسية وفصائل بهدف حمايتهم وبين كون بعضهم الآخر يرى أنهم أكراد فيستقوي بالأحزاب الكردية». ويتابع الدكتور جميل، مشيراً إلى أن «المفارقة أننا، كمسيحيين، مثلاً، نجد أنفسنا في سهل نينوى أقرب إلى القوى الشيعية غير أننا مختلفون فيما بيننا. بل، حتى ككلدان مختلفون... حيث كل طرف يرى نفسه أنه هو الأصل، أو الأهم. بل والمصيبة الأكبر أن بعض رجال ديننا، حتى الكبار منهم، دخلوا عالم السياسة بحيث اختلط الأمر علينا بوصفنا أقليات ضد بعضنا». ويؤكد جميل أن «انعدام وحدة الصف داخل البيت المسيحي بات يسهل تماماً كل المؤامرات التي يمكن أن تحاك ضدنا، لأن تنفيذها يكون من السهولة بمكان».
- سهل نينوى
جغرافياً تقع منطقة سهل نينوى في شمال العراق، وتتألف من 3 أقضية هي الحمدانية والشيخان وتلكيف. ويعد هذا السهل الذي يحدّ مدينة الموصل ومحيطها من الشرق، الموطن التاريخي لمسيحيي العراق، وهم يشكلون النسبة الأكبر من سكانه، إلى جانب جيرانهم من الأيزيديين والتركمان والشبك والعرب.
ثم إن هناك وجوداً للكنائس العراقية الرئيسية في هذه المنطقة وهي: الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، والكنيسة السريانية الكاثوليكية، وكنيسة المشرق القديمة وكنيسة المشرق الآشورية. ولقد تحوّلت منطقة سهل نينوى إلى نقطة تجمع لمسيحيي العراق بعد فرارهم من المناطق الساخنة في بغداد وجنوب ووسط العراق قبل عدة سنوات. وراهناً، يعد سهل نينوى من المناطق المتنازع عليها حسب المادة 140 من الدستور العراقي. وبسبب جرائم «داعش» فقد تبددت الآمال الضائعة باستحداث محافظة ضمن مسعى لإقامة «منطقة آمنة» من قبل الأمم المتحدة لحماية هذه الأقليات.
ولدى الربط بين ما حصل للمسيحيين وأبناء الأقليات الأخرى في العراق، سواء منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة حتى اليوم، أو بعد استيلاء «داعش» على أراضٍ واسعة من العراق بما فيها سهل نينوى -أهم موطن للمسيحيين ومعظم أبناء الأقليات الأخرى- فإن كل المؤشرات تذهب إلى أن مستقبل الأقليات في خطر. وهو سيبقى في خطر ما داموا ظلوا يائسين من إمكانية عودة الماضي البعيد الذي كان يصنفهم على أنهم أبناء هذه الأرض الأصليين ومتخوفين من مستقبل لن يأتي لهم بما يتمنونه من أمن ورخاء... والأهم من هذا وذاك، الإحساس بالمواطنة.
ومثل اقتناع الدكتور دريد جميل دريد بأن «السند الوحيد للمسيحي هو القانون»، كما قال لـ«الشرق الأوسط»، فإن مطران الموصل للسريان الأرثوذكس نيقوديموس داوود شرف، يؤمن تماماً بأن «المسيحي لا يمكنه العيش حيث لا سيادة للقانون. بإمكاننا العيش فقط في مكان يحكمه القانون». وحتى في ظل العدد المستقر نسبياً من المسيحيين الذين يعيشون اليوم في مراكز آمنة في كركوك وأربيل في إقليم كردستان العراق، تراجع عدد المسيحيين من الذي كان مقدراً بـ1.5 مليون (في عموم العراق) عام 2003 إلى نحو 200 ألف بقوا راهناً في شمال البلاد. وبالتالي، فإن إعطاء هذه الجماعات فرصة بناء استقرارها الخاص قد يكون الحل للحفاظ على وجودها في العراق.


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أوروبا أعضاء فرع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية يحضرون اجتماعاً في دير القديس بانتيليمون في كييف يوم 27 مايو 2022 (رويترز)

الأمم المتحدة قلقة من حظر أوكرانيا الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

أعلن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أنه يدرس حظر كييف للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المرتبطة بروسيا، قائلاً إنه يثير مخاوف جدية بشأن حرية المعتقد.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
آسيا البابا فرنسيس أثناء وصوله إلى مطار سوكارنو هاتا الدولي في جاكرتا (أ.ف.ب)

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في مستهل أطول رحلة خارجية خلال ولايته

البابا فرنسيس يصل إلى إندونيسيا في محطة أولى ضمن جولة له على 4 دول. وتتمحور الزيارة بشكل خاص حول الحوار الإسلامي المسيحي.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
أميركا اللاتينية الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي خلال زيارته إلى القدس 6 فبراير 2024 (أ.ب)

كيف تحول تأييد الرئيس الأرجنتيني لإسرائيل واهتمامه المتزايد باليهودية مصدر قلق لبلاده؟

لقد أظهر الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، وهو كاثوليكي بالميلاد، اهتماماً عاماً متزايداً باليهودية، بل وأعرب حتى عن نيته في التحوّل إلى اليهودية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
آسيا رجال الشرطة يقفون للحراسة مع وصول المسلمين لأداء صلاة الجمعة في مسجد جيانفابي في فاراناسي 20 مايو 2022 (أ.ف.ب)

الهند: قوانين مقترحة للأحوال الشخصية تثير مخاوف المسلمين

من المقرر أن تطرح ولاية هندية يحكمها حزب رئيس الوزراء ناريندرا مودي قوانين الأحوال الشخصية العامة الجديدة المثيرة للجدل والتي ستطبَّق على جميع الأديان.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
آسيا رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال حفل الافتتاح (رويترز)

مودي يفتتح معبداً هندوسياً بُني على أنقاض مسجد تاريخي

افتتح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي اليوم معبداً هندوسياً، بني على أنقاض مسجد تاريخي، في خطوة تكتسي أهمية كبيرة في سياسته القومية المحابية للهندوسية.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.