في مكان مقدس عند المسيحيين هو الكنيسة، وفي مناسبة تأبينية أبكت كل العراقيين من مختلف الأديان والطوائف والمذاهب وهي قتل عائلة مسيحية مكوّنة من طبيب مشهور وزوجته {وهي طبيبة أيضاً} ووالدتها، وسط بغداد الأسبوع الماضي، بدت الكنيسة شبه مهجورة. السبب المباشر والوحيد للقلق الذي عبّر عنه المسيحيون أنهم يخشون استهدافهم واستهداف كنائسهم لأسباب تتعلق بكراهية الآخر المختلف.
منظر الكنيسة شبه الفارغة كان أكثر إثارة للحزن بالنسبة إلى مرتاديها من المسيحيين مع أن المناسبة كانت قداساً أُقيم على روح عائلة الدكتور هشام مسكوني، وهو واحد من أبرز مَن بقي في العراق من أطبائه المسيحيين المعروفين. ذلك أنه خلال السنوات الماضية غادر معظم -إن لم يكن جميع أفراد- نخبة الأطباء العراقيين الذين تعدّدت مستويات استهدافهم وأسبابه وتفاصيله، بدءاً من الاستهداف على الهوية (العرقية أو الطائفية)، وانتهاء بغرض الابتزاز المالي أو الفصل العشائري. بل، حتى في حال توفي مريض في أثناء إجراء عملية له... فعندها دائماً يكون الطبيب هو المسؤول.
كثيرون يرون أن هذه الحوادث، سواءً تلك التي تستهدف المسيحيين أم باقي العراقيين من كل المكوّنات والأطياف، تعود في النهاية إلى وجود «خلل في الأمن»، كما قال البطريرك لويس رفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم، في البيان الذي أصدره عقب مقتل الطبيب وعائلته. كذلك، استبعد يونادم كنا، النائب المسيحي في البرلمان العراقي، وجود غاية سياسية وراء قتل تلك العائلة، وعدّ الجريمة مجرد جريمة جنائية تتعلق بسرقة منزل فقط.
البطريرك ساكو قال بيانه إن عمليات الاغتيال التي تتكرّر تتباين بين «الاستيلاء على أموالهم (أموال الناس)، أو بهدف أخذ الثأر والانتقام، ومن بين هؤلاء الأشخاص الذين تم قتلهم بدم بارد خلال الأيام الأخيرة شاب وزوجته، وهما طبيبان، إضافة إلى والدة الزوجة، وجميعهم مسيحيون، وتمت سرقة أموالهم أمام الملأ».
واللافت في بيان البطريرك ساكو، الذي يعد أرفع شخصية مسيحية في العراق، ليس فقط دعوته «الحكومة لاتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية المواطنين وممتلكاتهم، وملاحقة الجناة وتقديمهم للعدالة ومعاقبتهم بقسوة لتطمين المواطنين» بل دعوته «الجهات الدينية والتربوية والإعلامية إلى إشاعة ثقافة السلام والحياة واحترام الآخر والعيش المشترك». وهذه الأخيرة تبدو لب المشكلة في العراق اليوم. إذ يجري استهداف أبناء الطوائف والديانات التي يطلق عليها مسمى «الأقليات الدينية» في العراق، ويأتي في المقدمة المسيحيون بمختلف طوائفهم (من كلدان وسريان وآشوريين) والذين كان يبلغ تعدادهم حتى الأمس القريب (2003) نحو مليون ونصف المليون نسمة بينما يقرب اليوم من نصف مليون نسمة فقط.
جريمة قتل عائلة مسكوني المسيحية لم تكن الأولى، وكل المؤشرات تقول إنها لن تكون الأخيرة. إلا أنها أثارت على نحو مختلف هذه المرة إشكالية التعايش في العراق، ولا سيما بعد القضاء على تنظيم داعش الإرهابي المتطرف، الذي كان ينظر إلى أتباع الديانات الأخرى على أنهم كفّار يتوجب قتلهم أو سبيهم أو تهجيرهم، أو حتى اغتصاب نسائهم، وبيعهن في أسواق النخاسة، كما فعل بالفعل مع الطائفة الأيزيدية في قضاء سنجار غربي مدينة الموصل، كبرى مدن شمال العراق.
- القانون المفقود
النائب المسيحي جوزيف صليوة تحدث إلى «الشرق الأوسط»، فقال إنه على الرغم من أن الدوافع «قد تكون متباينة... إذ قد تكون جنائية صرفة بدافع السرقة مثلما يحصل لباقي العراقيين من كل المكوّنات، تبقى المسألة هي كيف يمكننا أن نضمن حمايةً للمواطن في هذا البلد بصرف النظر عن ديانته أو قوميته أو مذهبه؟».
من جانبه، يرى الدكتور دريد جميل، المتحدث الرسمي باسم «حركة بابليون» المسيحية وأستاذ علم النفس في الجامعة المستنصرية ببغداد، أيضاً في لقاء مع «الشرق الأوسط»، أنه «مهما كان الدافع، فإنه فضلاً عن كونه يؤشر لوجود خلل يستوجب المعالجة، فالأمر بالنسبة إلى المسيحيين يختلف عنه مع باقي العراقيين من المكوّنات الأخرى». ويستطرد: «هناك أسباب موضوعية لذلك لعل في المقدمة منها أن المسيحيين أقلية، وبالتالي، فإن حادثة واحدة تبث فيهم كل أنواع الخوف والقلق، بل والرعب، بينما إذا حصلت حادثة مماثلة لمواطن عراقي من أبناء المكوّنات الكبيرة فإنه يمكن أن تضيع وسط تجمّعات سكانية وبشرية كبيرة». ويعرّج جميل على مسألة يرى أنها في غاية الأهمية، «وهي أن المسيحي حين يتعرض لأي موقف يجد نفسه وحيداً، إذ لا توجد حوله، بخلاف الشيعي أو السنّي، عشيرة كبيرة يمكن أن تأخذ حقه في ظل غياب القانون، أو تثأر له حتى بالعرف العشائري. نحن ليس لنا سوى القانون، لكن هذا القانون ضعيف أو مفقود». ويرى جميل أن «العراقيين جميعاً يشكون ضعف القانون، وهم جميعاً ضحايا لذلك، لكن المشكلة بالنسبة إلى المكوّن المسيحي أو عموم أبناء الأقليات، أنه حتى ما يبدو جريمة عادية جنائية قد يكون لها غطاء سياسي... بمعنى أن جريمة القتل التي وقعت ضد الطبيب المسيحي وعائلته قد يكون دافعها المباشر جنائياً، غير أن لها أبعادها السياسية لأنها تدفع باقي المسيحيين الخائفين، الذين يفتقرون إلى قانون يحميهم، إلى الهجرة وترك بيوتهم وأملاكهم.... ومن ثمّ، تأتي العصابات، ومن يقف خلفها، لتسيطر عليها». ويبيّن الأكاديمي المسيحي العراقي أن «ملف تزوير عقارات المسيحيين والاستيلاء عليها من قبل جهات متنفذة هو أحد الملفات المثيرة للحزن والأسى معاً».
- مفصل تاريخي للمسيحيين
في السياق نفسه، قال عضو البرلمان العراقي عماد يوخنا (وهو آشوري) لـ«الشرق الأوسط»، شارحاً «التعايش المجتمعي في العراق، وهو التعايش الذي كان يميّز المكونات العراقية على امتداد آلاف السنين على الرغم من كل دورات العنف التي مر بها التاريخ العراقي، لم يحصل له مثل ما يحصل اليوم». وأشار إلى أن استهداف المسيحيين «يبدو الآن منهجياً ومنظماً في ظل صمت دولي مريب». وأردف يوخنا: «من شأن ذلك تهديد، أو ربما نسف، التجانس المجتمعي والثقافي داخل العراق».
مع ذلك، فإن العديد من الباحثين في شؤون العراق السياسية والاجتماعية يرون أن الأزمات المجتمعية التي يتعرض لها العراق بين فترة وأخرى، والتي غالباً ما تأخذ أبعاداً وأشكالاً مختلفة مما يسمى «الإقصاء» و«التهميش» و«المظلومية»، ترتبط في الغالب بدورات الحكم السياسي فيه. ويرى هؤلاء أن الحكم في العراق، منذ عام 1921 وحتى سقوط النظام العراقي السابق عام 2003، كان يدافع عن فكرة قوامها أن العراق «دولة أمة». لكن بعد عام 2003 أصبح العراق «دولة مكوّنات». وفي حين وجدت الأقليات في الحقب الماضية نوعاً من القدرة على التعايش مع الكبار بسبب قوة السلطة المركزية والقانون النافذ، فإن شعور الشيعة والأكراد من تهميش وإقصاء وظلم إنما نتج -كما كانوا يشكون– عن منعهم من الحصول على ما يوازي حجمهم على صعيد السلطة بكل تفرّعاتها.
أما بعد عام 2003، ومع تغيير معادلة السلطة والدولة إلى «دولة المكوّنات»، فإن الأقليات وجدت نفسها في الهامش، لا سيما، بعد أن باتت أحجام الكتل أو المكونات تُحسب على أساس ما تحصل عليه من مقاعد نيابية، وهي التي تحدد حصة كل مكوّن -ديني أو مذهبي أو عرقي- من الوزارات والمؤسسات... وما يترتب عليها من مغانم ومغارم.
- أقليات ضد الأقليات
الصورة تبدو أوضح في ضوء سرد الباحث الدكتور دريد جميل بعض وقائع ما يجري، وتحديداً عند الذهاب شمالاً إلى سهل نينوى الذي يعد المعقل الرئيسي للأقليات الدينية والعرقية في العراق سواء كانوا مسيحيين (كلدان أو آشوريين أو سريان) أو أيزيديين أو شبكاً.
هنا، ما حصل للأقليات لم يأتِ فقط نتيجة عوامل خارجية، بل بسببهم هم أيضاً. إذ يقول جميل إن «المشكلة التي نعانيها كأقليات، وبالذات، في سهل نينوى هو عدم وجود (وحدة موقف) بيننا، نحن أبناء الأقليات. ذلك أن الشبك –مثلاً- منقسمون بين كون بعضهم شيعة يستقوون بجهات سياسية وفصائل بهدف حمايتهم وبين كون بعضهم الآخر يرى أنهم أكراد فيستقوي بالأحزاب الكردية». ويتابع الدكتور جميل، مشيراً إلى أن «المفارقة أننا، كمسيحيين، مثلاً، نجد أنفسنا في سهل نينوى أقرب إلى القوى الشيعية غير أننا مختلفون فيما بيننا. بل، حتى ككلدان مختلفون... حيث كل طرف يرى نفسه أنه هو الأصل، أو الأهم. بل والمصيبة الأكبر أن بعض رجال ديننا، حتى الكبار منهم، دخلوا عالم السياسة بحيث اختلط الأمر علينا بوصفنا أقليات ضد بعضنا». ويؤكد جميل أن «انعدام وحدة الصف داخل البيت المسيحي بات يسهل تماماً كل المؤامرات التي يمكن أن تحاك ضدنا، لأن تنفيذها يكون من السهولة بمكان».
- سهل نينوى
جغرافياً تقع منطقة سهل نينوى في شمال العراق، وتتألف من 3 أقضية هي الحمدانية والشيخان وتلكيف. ويعد هذا السهل الذي يحدّ مدينة الموصل ومحيطها من الشرق، الموطن التاريخي لمسيحيي العراق، وهم يشكلون النسبة الأكبر من سكانه، إلى جانب جيرانهم من الأيزيديين والتركمان والشبك والعرب.
ثم إن هناك وجوداً للكنائس العراقية الرئيسية في هذه المنطقة وهي: الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، والكنيسة السريانية الكاثوليكية، وكنيسة المشرق القديمة وكنيسة المشرق الآشورية. ولقد تحوّلت منطقة سهل نينوى إلى نقطة تجمع لمسيحيي العراق بعد فرارهم من المناطق الساخنة في بغداد وجنوب ووسط العراق قبل عدة سنوات. وراهناً، يعد سهل نينوى من المناطق المتنازع عليها حسب المادة 140 من الدستور العراقي. وبسبب جرائم «داعش» فقد تبددت الآمال الضائعة باستحداث محافظة ضمن مسعى لإقامة «منطقة آمنة» من قبل الأمم المتحدة لحماية هذه الأقليات.
ولدى الربط بين ما حصل للمسيحيين وأبناء الأقليات الأخرى في العراق، سواء منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة حتى اليوم، أو بعد استيلاء «داعش» على أراضٍ واسعة من العراق بما فيها سهل نينوى -أهم موطن للمسيحيين ومعظم أبناء الأقليات الأخرى- فإن كل المؤشرات تذهب إلى أن مستقبل الأقليات في خطر. وهو سيبقى في خطر ما داموا ظلوا يائسين من إمكانية عودة الماضي البعيد الذي كان يصنفهم على أنهم أبناء هذه الأرض الأصليين ومتخوفين من مستقبل لن يأتي لهم بما يتمنونه من أمن ورخاء... والأهم من هذا وذاك، الإحساس بالمواطنة.
ومثل اقتناع الدكتور دريد جميل دريد بأن «السند الوحيد للمسيحي هو القانون»، كما قال لـ«الشرق الأوسط»، فإن مطران الموصل للسريان الأرثوذكس نيقوديموس داوود شرف، يؤمن تماماً بأن «المسيحي لا يمكنه العيش حيث لا سيادة للقانون. بإمكاننا العيش فقط في مكان يحكمه القانون». وحتى في ظل العدد المستقر نسبياً من المسيحيين الذين يعيشون اليوم في مراكز آمنة في كركوك وأربيل في إقليم كردستان العراق، تراجع عدد المسيحيين من الذي كان مقدراً بـ1.5 مليون (في عموم العراق) عام 2003 إلى نحو 200 ألف بقوا راهناً في شمال البلاد. وبالتالي، فإن إعطاء هذه الجماعات فرصة بناء استقرارها الخاص قد يكون الحل للحفاظ على وجودها في العراق.
مسيحيو العراق... ماضٍ لن يعود ومستقبل لن يأتي
الحوادث الأمنية تخلق عندهم هاجسين
مسيحيو العراق... ماضٍ لن يعود ومستقبل لن يأتي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة