ستيفن هوكينغ... نجم كوني تلاشى نحو الفضاء السرمدي

دافع عن القضايا الإنسانية ووقف إلى جانب الفلسطينيين

صورة أرشيفية لستيفن هوكينغ خلال تجربة له للتحليق في ظروف انعدام الجاذبية فوق المحيط الأطلسي عام 2007 (أ.ف.ب)
صورة أرشيفية لستيفن هوكينغ خلال تجربة له للتحليق في ظروف انعدام الجاذبية فوق المحيط الأطلسي عام 2007 (أ.ف.ب)
TT

ستيفن هوكينغ... نجم كوني تلاشى نحو الفضاء السرمدي

صورة أرشيفية لستيفن هوكينغ خلال تجربة له للتحليق في ظروف انعدام الجاذبية فوق المحيط الأطلسي عام 2007 (أ.ف.ب)
صورة أرشيفية لستيفن هوكينغ خلال تجربة له للتحليق في ظروف انعدام الجاذبية فوق المحيط الأطلسي عام 2007 (أ.ف.ب)

أعلن في بريطانيا عن وفاة ستيفن هوكينغ، العالم الفيزيائي الشهير، في منزله بمدينة كمبردج صباح أمس، عن عمر يناهز 76 عاماً. ومن أروع التغريدات حول وفاته، تغريدة لورنس كراوس، عالم الفيزياء النظرية وعلم الكون الكندي - الأميركي: «لقد خرج نجم من الكون. لقد فقدنا إنساناً مذهلاً».
واشتهر هوكينغ بأبحاثه المتميزة لفهم ألغاز الكون، كما عرف بدفاعه عن القضايا الإنسانية، إضافة إلى دخوله في مناقشات جدلية حول مستقبل البشرية.
وتناقضت بقوة قدراته العقلية الفائقة مع ضعفه البدني، إذ أصيب بأحد الأمراض العصبية الحركية، وهو مرض التصلب الضموري العضلي الجانبي، منذ كان في الحادية والعشرين من عمره. واعتقد الأطباء في البداية بأنه سيعيش لعدة سنوات فقط. ولزم هوكينغ كرسياً متحركاً معظم سنوات حياته. ومع تدهور حالته اضطر إلى الحديث عبر جهاز إلكتروني، والتواصل مع الآخرين بتحريك حاجبيه.
وقال أبناؤه لوسي وروبرت وتيم، في بيان نقلته وكالات الأنباء: «نشعر بحزن عميق لوفاة أبينا الحبيب اليوم». وأضافوا أنه «كان عالماً عظيماً ورجلاً غير عادي، سيبقى عمله وإرثه لسنوات طويلة... إقدامه واستمرار تألقه وروح الدعابة التي تحلى بها، كانت مصدر إلهام في أنحاء العالم». ودفعه المرض إلى العمل بجد أكبر؛ لكنه أدى لانهيار زيجتيه كما كتب في مذكراته «تاريخي المختصر» التي صدرت عام 2013.

ألغاز الكون

سعى هوكينغ بقدراته العقلية الهائلة لمعرفة حدود الفهم البشري لكل من الكون الفسيح، وعالم الجسيمات الدقيقة الغريب في نظرية الكم. وشملت أبحاثه موضوعات كثيرة، بدءاً من أصل الكون، وحتى احتمال الانتقال عبر الزمن، إلى الغموض الذي يكتنف الثقوب السوداء.
انطلق هوكينغ لعالم الشهرة على الساحة الدولية عام 1988، بعد أن أصدر كتابه «تاريخ موجز للزمن» وهو من أعقد الكتب التي حظيت باهتمام جماهيري، إذ ظل على قائمة «صنداي تايمز» لأفضل الكتب مبيعاً لمدة لا تقل عن 237 أسبوعاً.
وقال إنه ألف هذا الكتاب لينقل حماسه الخاص عن الاكتشافات الحديثة حول الكون.
وصرح حينذاك بأن هدفه الأساسي أن يؤلف كتاباً يباع في أكشاك الكتب في المطارات... و«كي أتأكد من أنه مفهوم للقراء، جربت الأمر مع فريق تمريضي. وأعتقد أنهم فهموا معظمه».
وبدأت أبحاثه تتواتر منذ عام 1971، إذ قدم مع عالم الرياضيات روجر بنروز، نظريته التي تثبت رياضياً وعبر نظرية النسبية العامة لأينشتاين، أن الثقوب السوداء أو النجوم المنهارة بسبب الجاذبية، هي حالة تفردية في الكون «أي أنها حدث له نقطة بداية في الزمن».
وأشار الباحثان إلى أن المكان والزمان يبدآن بالانفجار الكبير وينتهيان في الثقوب السوداء. واكتشف هوكينغ أيضاً أن الثقوب السوداء (التي يفترض فيها أن تمتص أي شعاع) ليست سوداء تماماً، ولكن تنبعث منها إشعاعات، ومن المرجح أن تتبخر وتختفي في النهاية.
ومنذ عام 1974 عمل هوكينغ على المزج بين أهم نظريتين في الفيزياء الحديثة: النسبية العامة لأينشتاين التي تتعلق بالجاذبية والظواهر واسعة النطاق، ونظرية الكم التي تركز على الجسيمات الدقيقة دون الذرية.
ونتيجة لهذا البحث طرح هوكينغ نموذجاً للكون يستند إلى مفهومين للزمن: «الزمن الحقيقي» وهو الزمن الذي يشعر به البشر و«الزمن المتصور في نظرية الكم» وهو الزمن الذي ربما يكون العالم يتحرك على أساسه حقاً.
وكتب في بحث أعده للإلقاء في إحدى محاضرته: «الزمن المتصور ربما يبدو كخيال علمي... لكنه مفهوم علمي حقيقي». وأثبت نظرياً أن الثقوب السوداء تصدر إشعاعاً، على عكس كل النظريات المطروحة آنذاك؛ وقد سمي هذا الإشعاع باسمه «إشعاع هوكينغ».
وطور مع معاونه جيم هارتل من جامعة كاليفورنيا نظرية اللاحدود للكون، التي غيرت من التصور القديم للحظة الانفجار الكبير عن نشأة الكون، إضافة إلى عدم تعارضها مع أن الكون نظام منتظم ومغلق. وفي يوليو (تموز) 2002، قال هوكينغ في محاضرة، إنه على الرغم من سعيه لتفسير كل شيء فإنه ربما لا يمكن التوصل إلى «نظرية حتمية» تتكهن بشكل الكون في الماضي ولا في المستقبل.
وفي عام 2001 نشر كتاباً بعنوان «الكون بإيجاز»، وفي عام 2005 نشر نسخة جديدة من كتابه «تاريخ موجز للزمن» بعنوان «تاريخ أكثر إيجازاً للزمن» ليكون أبسط للقراء. ثم في عام 2010 نشر كتاب «التصميم الكبير» بمشاركة ليونارد ملودينوف.

قضايا الإنسانية

وشارك هوكينغ في الحياة السياسية والعامة، مدافعاً عن القضايا الإنسانية، إذ سار مع كوكبة من المفكرين والفنانين بمسيرة عام 1968 مناهضة لحرب فيتنام التي قادتها الولايات المتحدة، ووصف غزو العراق عام 2003 بأنه «جريمة حرب»، وقاطع مؤتمراً في إسرائيل بسبب مخاوفه بشأن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، إذ قرر الانسحاب من مؤتمر رعاه الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في شهر يونيو (حزيران) عام 2013؛ منضماً إلى المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل التي تدعمها اللجنة البريطانية للجامعات في فلسطين. وشارك في حملة لنزع السلاح النووي، ودعم أبحاث الخلايا الجذعية، والرعاية الصحية الشاملة، وإجراءات لمنع تغير المناخ.
وُلد هوكينغ في مدينة أكسفورد بإنجلترا، في 8 ديسمبر (كانون الأول) عام 1942، وشغل منصب «أستاذ لوكاسي للرياضيات»، في جامعة كمبردج بإنجلترا. وتأسس اللقب عام 1663 على يد هنري لوكاس الذي كان عضو البرلمان عن جامعة كمبردج بين عامي 1639 و1640. ويُعد المنصب من أرقى المناصب الأكاديمية في العالم، ومن أشهر شاغلي الكرسي إسحاق نيوتن، وتشارلز بابيغ، وبول ديراك، وستيفن هوكينغ.

آراء جدلية: من أعماق الكون إلى مستقبل الإنسان

> أكد ستيفن هوكينغ مراراً على دور البشرية في الدفاع عن نفسها ومصيرها، وذلك باللحاق بركب الرحلات الفضائية والكونية لإنقاذ الإنسان من مشكلات الأرض، كما تحدث عن دور الروبوتات في مجتمع المستقبل.
وفي مقابلة إعلامية مع «سي إن إن» عام 2008، قال هوكينغ إنه إذا تمكن البشر من البقاء على قيد الحياة خلال الـ200 عام المقبلة، فإن مستقبلنا سيكون مشرقاً.
كما قال في مقابلات سابقة إنه يعتقد أن مستقبل البشرية على المدى الطويل يجب أن يكون في الفضاء، مضيفاً: «سيكون من الصعب تجنب وقوع كارثة على كوكب الأرض في المائة سنة القادمة، ناهيك عن الألف عام أو المليون».
ومن الموضوعات المثيرة للجدل التي طرحها هوكينغ، قوله إنه يرى فيروسات الكومبيوتر كشكل من أشكال الحياة، ومن ثم تكون هذه أول عملية خلق يقوم بها الجنس البشري. وقال في منتدى عن الكومبيوتر في مدينة بوسطن الأميركية: «حين يكون شكل الحياة الوحيد الذي خلقناه حتى الآن، مدمر تماماً، فإني أعتقد أن هذا يكشف شيئاً عن طبيعة البشر... لقد خلقنا حياة على شاكلتنا».

علماء يؤبنون ستيفن هوكينغ

نقلت «رويترز» تغريدات بعض العلماء البارزين، والمؤسسات العلمية، والسياسيين، لتأبين العالم البريطاني:
> تيم بيرنرز – لي، مخترع الإنترنت: «فقدنا عقلاً جباراً وروحاً رائعة. ارقد بسلام يا ستيفن هوكينغ».
> البروفسور ستيفن توب، نائب رئيس جامعة كمبردج: «كان البروفسور هوكينغ شخصية فريدة، سنذكره دوماً بحميمية وبحب، ليس فقط في كمبردج؛ لكن في جميع أنحاء العالم. مساهماته الاستثنائية في المعرفة العلمية ونشر العلوم والرياضيات بين عامة الناس تركت إرثاً لا يمحى. كانت شخصيته إلهاماً للملايين. سنفتقده كثيراً».
> إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا): «لقد طورت نظرياته كوناً من الاحتمالات التي نكتشفها نحن والعالم. فلنواصل التحليق مثل (سوبرمان) في الجاذبية الصغرى».
> تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا: «كان ستيفن هوكينغ عقلاً متقداً استثنائياً، وواحداً من أعظم العلماء في جيله. شجاعته وروحه المرحة وتصميمه على أن يأخذ من الحياة أقصى ما يستطيع كانت مصدر إلهام. إرثه لن يغيب».
> البروفسور اللورد مارتن ريس، زميل كلية ترينتي، والأستاذ المتفرغ في الكونيات والفيزياء الفلكية في جامعة كمبردج: «عصفت المأساة بحياة ستيفن هوكينغ حينما كان في الثانية والعشرين. أصيب بمرض قاتل وتبددت أحلامه تماماً. قال هو نفسه إن ما حدث بعد ذلك كان منحة؛ لكن حياته كانت مسيرة انتصار. سيخلد اسمه في سجلات العلم. لقد اتسعت الآفاق أمام الملايين بفضل كتبه الرائجة، كما استلهمت ملايين أخرى حول العالم من نموذج فريد للإنجاز رغم كل الصعاب، مظهراً من مظاهر قوة الإرادة والتصميم».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)