الاندماج الاجتماعي... استراتيجية واشنطن لمكافحة «التطرف الديني العنيف»

يشمل برامج تعليمية ومبادرات أهلية

منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)
منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)
TT

الاندماج الاجتماعي... استراتيجية واشنطن لمكافحة «التطرف الديني العنيف»

منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)
منذ هجمات سبتمبر 2001 يخشى الأميركيون تزايد انخراط مواطنين ومقيمين في التطرف العنيف («الشرق الأوسط»)

لا يبدو تجول طفل بثياب صومالية تقليدية في «مول أوف أميركا» بمدينة مينيابوليس، كبرى مدن ولاية مينيسوتا الأميركية، نافراً بالنسبة لهذه الولاية، حيث يعيش عشرات الآلاف من المهاجرين من الصومال. فقد تجاوز أميركيون كُثُر هنا عقدة الخوف من الآخر، والمسلم تحديداً. كذلك يحاول المهاجرون تخطي الشعور بالاختلاف عن الأميركيين، ذلك أن البرامج التي وضعتها الهيئات الحكومية، مستهدفة إصلاح البيئة الاجتماعية بمفهومي التربية وتعزيز الاندماج، بدأت تؤهل الطرفين لتخطي الحواجز النفسية والاجتماعية التي تحول دون الانخراط الاجتماعي، وهو ما انعكس على تثبيت الأمن، وسهل عمل الحكومة الأميركية لمكافحة «التشدد العنيف».
بخلاف كثير من الولايات الأميركية التي تحدث الإعلام عن أنها شهدت تأزماً في العلاقة بين المهاجرين والسكان المحليين، لا يظهر هذا التأزم في مينيابوليس، عاصمة ولاية مينيسوتا، حيث يمكن أن يطالعك مسؤول محلي بـ«الاعتذار» عن إساءات تعرض لها مهاجرون، بينما في مدينة دنفر، عاصمة ولاية كولورادو، ثبت أميركي على مدخل منزله لافتة يتوجه فيها لجيرانه المهاجرين من العراق والمكسيك: «لا يهم من أين أتيتم... نحن سعداء كونكم جيراننا».
وفي الواقع، لم تعتمد الولايات المتحدة المقاربة الأمنية بشكل أساسي لمواجهة التطرف على أراضيها، خلافاً لاستراتيجية التدخل في الخارج عبر جهود «التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب»، العامل في العراق وسوريا، إذ تتبع الحكومة برنامج «مكافحة التطرف العنيف»، المقصود به «الجهود المحلية في الولايات المتحدة لمنع تجنيد التنظيمات الراديكالية للأفراد للقيام بالعنف».
وتعتمد البرامج على استراتيجية «الاندماج الاجتماعي»، إذ تعمل على الإحاطة بملفات المشتبه بتشددهم، عبر مقاربات اجتماعية، أهمها التربية واستخدام الضغوط العائلية والصداقات في البيئة التي يتحدرون منها، وكذلك المقاربة الاقتصادية لناحية توفير ظروف العمل، فضلاً عن المقاربة الإعلامية لمكافحة الدعاية والمعلومات الخاطئة التي تبثها التنظيمات الإرهابية في العالم والدول الأجنبية.
ولعل اجتماع المقاربات الثلاث، وتكافلها في جهود متحدة، نجح إلى حد بعيد في إبعاد الجانحين إلى التطرف عن جبهات القتال، وعن الانزلاق إلى أعمال إرهابية في الداخل. وتثبت الأرقام نجاح هذه الاستراتيجية، إذ لا يتجاوز عدد الأميركيين الذين ارتادوا جبهات القتال في سوريا والعراق والصومال إلى جانب تنظيمات متشددة، العشرات.
- تدريب ضد التطرف
لا يخفي الأميركيون أن عدداً من الأفراد، من المواطنين والمقيمين، انخرط في نشاطات التطرف العنيف، واستلهموها من تنظيم القاعدة وآيديولوجيته. وقد وجدوا من المهم جداً أن تتدرب هيئات إنفاذ القانون على فهم وملاحقة السلوك الإجرامي الذي تحفزه الآيديولوجيا، والعمل مع المجتمعات المحلية والهيئات الرسمية لمكافحة التطرف العنيف في الداخل. وعليه، أنشأت وزارة الداخلية، بالشراكة مع مركز مكافحة التطرف الوطني، «مجموعة عمل أمني» لحشد أفضل التجارب للتدريب على مكافحة التطرف العنيف. وجهزت المجموعة دليلاً يستفيد منه مسؤولو هيئات إنفاذ القانون، وعلى مستوى فيدرالي ومستوى الولايات، أولئك العاملون على مكافحة التطرف العنيف، لتعزيز ثقافة التوعية والتدريب على مكافحة التطرف.
والواقع أنه قبل عام 2016، لم يكن هناك تركيز مركزي على جهود مكافحة التشدد العنيف بأسلوب الإحاطة الاجتماعية. فالاستراتيجية كانت تعتمد على جهود غير مركزية. وبعدما باتت استراتيجية عامة، ضمن سياسات عامة في البلاد، جرى تنظيمها بهدف تعزيز التوعية، بالنظر إلى أهميتها على المستوى الاجتماعي. وتقوم الاستراتيجية على 3 ركائز لمقاربة هذا الملف في داخل الولايات المتحدة: أولها تمكين المجتمع، وتعريفهم بطريقة توجيهه بغرض «مكافحة التطرف العنيف»؛ وثانيها توجيه الرسائل التي تحيط بالأسباب والموجهين لهذا السلوك العنيف، والتركيز على النظام في الولايات المتحدة ومقاربة الحكومة لمكافحة التطرف، فضلاً عن الإحاطة بالمفهوم العام لهذه الاستراتيجية.
- شركاء محليون
ولا تتسم الاستراتيجية بمفهوم ثابت، كونها تعتمد على متغيرات مرتبطة بالمجتمع وطبيعته، والبلد الذي تنطلق منه. ويؤكد المنخرطون في هذه الاستراتيجية أنها منفصلة عن الجهود المرتبطة بـ«إنفاذ القانون». ففي الولايات المتحدة، ثمة أشخاص يظهرون اهتماماً بإعادة تأهيل الجانحين للتطرف، ومنع هؤلاء من الانخراط في أعمال مشبوهة، بما يتخطى اللجوء إلى الشرطة فوراً. ويؤسس النموذج القائم لشراكة اجتماعية تساهم إلى حد كبير في قيام حواجز ضمن البيئة الاجتماعية لمنع الانجراف إلى التطرف. ووضعت عدة خطوات ونشاطات تستطيع أن تساعد في تنفيذ تلك البرامج، مثل انخراط الفئات الاجتماعية بها، كل في مدينته وبيئته. وتتم العملية وفق آليات التوعية الاجتماعية، والتمارين لتحييد الجانحين عن الانخراط في النشاطات المشبوهة، إضافة إلى ندوات، يكون القائمون عليها من قادة الرأي، كرجال الدين والمدرسين والأكاديميين والعاملين في الحقل الاجتماعي. وتتم آليات التدريب على الاستجواب لمعرفة علامات التشدد، وماذا يشاهدون، والعملية التي يمكن اتباعها، بالنظر إلى أن المشتبه بهم هم حالات حقيقية موجودة في المجتمع.
- جهود إعادة الدمج
ويمثل التدخل الاجتماعي على خط التوعية، وإعادة التوجيه والتأهيل، الحلقة الأولى والأهم في برنامج مكافحة التطرف العنيف. وقد نجحت إلى حد كبير لجهة إعادة دمج الأفراد الجانحين للتشدد في المجتمع. ولم يسجل خلال السنوات الخمس الماضية أكثر من 100 فرد، استدعت حالاتهم تدخل الشرطة، وهم اليوم في السجون الفيدرالية، ليس بتهم الانزلاق لأعمال إرهابية، بل بتهم متعلقة بتوفير دعم مادي للإرهابيين، وتمويل أعمال مفترضة.
ويقول العاملون في هذا القطاع إن الهدف حماية المسلمين الأميركيين من التأثيرات الخارجية المشجعة للتطرف، بموازاة حماية الحقوق المدنية وحرية الرأي والاعتقاد المكفولة في القانون الأميركي، مؤكدين أن «هناك رغبة عامة اجتماعية بالالتحاق بتلك البرامج، وهي أولوية بالنسبة لنا»، ويشددون على أن «تحقيق الأمن الداخلي يبدأ من الداخل، من المجتمع». وعليه، بدأت عملية بناء الحلول الاجتماعية.
ويؤكد المطلعون على هذه الاستراتيجيات أن العائلات تضطلع بأدوار مهمة جداً في إحباط محاولات الأفراد للانخراط في التنظيمات الإرهابية، فضلاً عن أن مهمة مكافحة الإرهاب تعتمد على الانخراط والتواصل الذي أوصل الرسائل التي تؤكد أن الرقابة تركز على تصرفات الأفراد، ولا تستهدف الإسلام أو المسلمين الذي يشعرون بحرية تامة في ممارسة شعائرهم الدينية، بالنظر إلى أن حرية المعتقد يكفلها الدستور، فضلاً عن أن فرص تواصلهم مع المؤسسات الحكومية متاحة. فهيئات إنفاذ القانون تربطها علاقة مع المجتمع، كذلك المنظمات الحكومية التي تعمل على المجتمعات مع مراعاة خصوصياتها، ويجري التواصل في إطار «انخراط اجتماعي». والمقصود في العملية الأخيرة هو الجهود لانخراط المهاجرين واللاجئين في المجتمع. ويقول المعنيون إن الحكومات الأميركية المتعاقبة «أثبتت فعالية في توفير انخراط فعال للأفراد في المجتمع، وتأمين كل ما يحتاجونه بهدف إنجاح المهمة»، مشددين على أنها «عملية مستمرة». وينفي هؤلاء في الوقت نفسه أن تكون قد طرأت أي تغييرات على تلك الجهود بعد وصول الرئيس دونالد ترمب إلى الرئاسة.
- مبادرات اجتماعية
وثمة كثير من المبادرات التي يقودها متطوعون من الأكاديميين والعاملين في الحقل الاجتماعي لإعادة تأهيل ذوي الميول المتشددة. وفي واشنطن، هناك مبادرة تعمل في سياق التكافل الاجتماعي لتعزيز الاندماج، بينها مبادرة لإعادة تأهيل الحياة بعد السجن. ويقول العاملون في هذا الميدان إن 8 من أصل 10 حالات أعيد تأهيلها بنجاح. وفي ما يخص الذين ارتكبوا جرائم على خلفيات آيديولوجية، يؤكد المتطوعون أن الحكومة تكفل حرية التعبير، ولا تصنف هؤلاء على أنهم ارتكبوا جرائم بسبب قناعات آيديولوجية. ويجري التأهيل بالاعتماد على القوة الاجتماعية، وتمكين المجتمعات المحلية لمكافحة هذا النمط من التفكير الآيديولوجي.
وفي إطار الرغبة في بناء نموذج تعليمي يحمي من التشدد، نظم فريق من الطلاب حملات إلكترونية في موقع «فيسبوك» لأسابيع، يظهر المقاربة الأميركية لجهود مكافحة التطرف، ويؤكد أن الشباب يمكن أن يكون جزءاً من الحل.
وعلى المنوال نفسه، نجحت مبادرات أخرى في مينيابوليس في تحقيق الاندماج، على الرغم من أن تعقيدات تحيط بالمهمة في المدينة التي تضم آلاف المهاجرين، بينهم 250 ألف صومالي تقريباً، ويعاني معظمهم من البطالة والفقر، لكن الارتباط العائلي والاجتماعي للصوماليين سهل كثيراً فرص مكافحة التطرف وفق آليات الضغط الاجتماعي لإبعاد الشباب عن التطرف. ويُعمل أيضاً على تثقيف الأمهات اللواتي يمثلن الحاضنة الأساسية وحاجز الدفاع الأول ضد التشدد عبر التربية في المنزل.
- جهود لتعزيز الحوار
وإلى جانب التعاون الذي ظهر بين هيئات إنفاذ القانون والمجتمع، ظهرت مبادرات تعليمية وتثقيفية، بينها «آفيريدج محمد» Average Mohamed، التي تنطلق في منصات إلكترونية لتعزيز الحوار، وتكريس العلاقات الإنسانية، بمعزل عن العرق والدين. والمبادرة التي أسسها محمد أمين أحمد، المهاجر من الصومال منذ أكثر من 20 سنة، تهدف إلى حث الآباء والأمهات والأطفال ورجال الدين على تعزيز الوسطية والاعتدال، لمكافحة الدعاية والخطاب المتطرف الذي يحاول المتطرفون بثه، كما يكافح خطاب العنصرية والتعصب. ويقول مؤسس الموقع إن رسالته «عالمية»، وينشر الفيديوهات التعليمية التي يشاهدها كثيرون في أوروبا وأفريقيا، ويشير إلى أن العلاج بالفيديوهات «وسيلة ناجعة، وقد أثبتت أن الكثيرين متأثرون بقيم الاعتدال، ويؤيدون نبذ الكراهية، ويدينون التشدد»، مؤكداً أن كثيراً من الجيل الجديد «يتصرفون الآن على أنهم أميركيون، وتحللوا من عصبية الانتماء للصومال».
- مبادرات دعم اقتصادي
تمثل مبادرة Community Service Officer (ضابط خدمة المجتمع) واحدة من جهود أساسية تبذلها مينيابوليس لتحقيق أفضل عملية دمج للمهاجرين، بالنظر إلى أن الولاية تضم عشرات آلاف المهاجرين الصوماليين الذين وصلوا خلال 3 موجات من الهجرة منذ مطلع التسعينات. وهي مبادرة مدعومة رسمياً لتوظيف المدنيين في المؤسسات الرسمية، بينها مؤسسات إنفاذ القانون، وتهدف إلى تعزيز الكفاءة الأهلية للقيادة. وتوفر المبادرة مساعدة ليدخل المنتسبون إلى الشرطة أيضاً، وتقدم تسهيلات ودعم وتأهيل لتحقيق خطوات الدمج، وقد نجحت في مراحلها الأولى في إدخال عدد كبير من الأميركيين من أصول أفريقية وآسيوية إلى الشرطة، بينهم ضباط، والتحق نحو 25 ألفاً بالقوى العسكرية والمدنية التابعة للحكومة.
والبرنامج جزء من عدة برامج لتحقيق الاندماج، اقتصادية واجتماعية، إذ وفرت الحكومة الفيدرالية تمويلاً لبرامج متصلة بالشباب في المجتمع الصومالي، الذي لا يزال يحتاج إلى كثير لجهة الدعم بالتعليم واللغة، وينطلق من قناعة بأن «قوة الولايات المتحدة بالمؤسسات الدستورية والتعليمية».
وفيما يبدو اللاجئون متشابهين هنا لناحية ظروفهم المادية ومعاناتهم من الفقر والبطالة والصعوبات التي يواجهونها على صعيد اللغة، تساعد المجتمعات الأهلية الحكومة على الدعم لتحقيق الاندماج. ويؤكد المعنيون في تلك البرامج أن اتصال المهاجرين بالوظائف، كما ارتباطهم بالعائلة، يقلل من فرص محاولات تجنيدهم، وهو ما نجحت المدينة به وتجاوزت تداعيات العزلة والتجنيد في صفوف الجماعات الإرهابية.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».