ريم الهاشمي.. نجمة «إكسبو 2020»

الوزيرة الإماراتية خريجة هارفارد.. طموح لا يعرف الحدود

ريم الهاشمي.. نجمة «إكسبو 2020»
TT

ريم الهاشمي.. نجمة «إكسبو 2020»

ريم الهاشمي.. نجمة «إكسبو 2020»

تعتقد الإماراتية ريم إبراهيم الهاشمي، أن معرض «إكسبو 2020» الذي فازت باستضافته مدينتها دبي، في معركة عالمية حامية الوطيس، فرصة للترويج لقيم التسامح واحترام الحضارات والثقافات الأخرى، حيث إن دبي هي مدينة تعددية بامتياز، إذ تتعايش فيها «200 جنسية»، ويفترض بحسب الهاشمي، أن «تستقطب نحو 25 مليون زائر بينهم 70% من الأشخاص الذين سيأتون من الخارج».
ريم الهاشمي التي كانت تشغل منصب المدير التنفيذي للجنة الخاصة بملف الترشيح للمعرض العالمي الكبير، وتعد إحدى نجماته اللامعة، كانت أصغر وزيرة عربية، حيث تسلمت أول حقيبة وزارية عندما أصدر الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، مرسوما يقضي بتعيينها بالسلك الدبلوماسي والقنصلي بدرجة وزير مفوض من الدرجة الأولى، وذلك في عام 2007، عندما كان عمرها آنذاك 29 عاما، كما وافق مجلس الوزراء بعد فترة قصيرة على تعيينها مساعدة لوزير الخارجية للشؤون الاقتصادية بلقب سفيرة، وهي أول امرأة تنال هذا اللقب في تاريخ الإمارات.
ولدت ريم الهاشمي في مدينة دبي وذلك في عام 1978، وأكملت دراستها الجامعية بجامعتي تافس وهارفارد في بوسطن بولاية ماساتشوستس الأميركية، حيث تخرجت بشهادة بكالوريوس في العلاقات الدولية وشهادة أخرى في اللغة الفرنسية.
عملت موظفة في المكتب التنفيذي للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في دبي، ثم شغلت منصب نائبة سفير الإمارات في واشنطن.
تتولى الهاشمي منصب رئيسة مجلس إدارة مؤسسة دبي العطاء، وهي مؤسسة خيرية مقرها دولة الإمارات العربية المتحدة، كان قد جرى إطلاقها في سبتمبر (أيلول) 2007 كمبادرة من الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بهدف تأمين فرص لأطفال الدول النامية للحصول على التعليم الأساسي.
كما تتولى منصب رئيسة مجلس الإمارات للتنافسية الذي يعمل بالتعاون مع مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص، لوضع السياسات وتنفيذ الإجراءات التي تعزز وتدعم الخطط التنافسية لدولة الإمارات العربية المتحدة وتحقيق الازدهار والنمو المستديم، وشغلت أخيرا العضو المنتدب في اللجنة العليا لاستضافة معرض «إكسبو الدولي 2020».
شاركت بشكل فعال في الكثير من القضايا التي كان لها تأثير واسع النطاق على العلاقات الثنائية بين الإمارات والولايات المتحدة، بما في ذلك قضايا الأمن والتجارة، إلى جانب القضايا الاجتماعية والاقتصادية.
شغلت منصب رئيسة المركز الوطني للإحصاء، الجهاز الحكومي الخاص بتوفير بيانات ومعلومات إحصائية حديثة ذات جودة عالية، تساهم في صنع القرارات ورسم السياسات وتقييم الأداء.
وتحاول أن تسير على خطوات وطنها الإمارات، حيث قالت في العيد الأربعين في للدولة 2011، إن الإمارات كانت دولة صغيرة محدودة الموارد، ولكنها ملكت أحلاما وطموحات لا تحدها حدود، حينها كانت دبي تلك القرية الوادعة المعتمدة على صيد الأسماك تضج بالنشاط بطريقتها الخاصة، حيث مثلت ملتقى للتجار ولطرق التجارة من دول بعيدة في قارة أفريقيا والهند.
قالت عنها الدكتورة فاطمة المزروعي الكاتبة الإماراتية في أحد مقالاتها: «لقد وقفت الوزيرة ريم الهاشمي فوقفت معها على المنصة المرأة العربية من المحيط إلى الخليج، ونجاحها في ذلك هو نجاح يضاف لرصيد المرأة العربية وليس المرأة الإماراتية فحسب، لقد كانت الوزيرة ذكية في طرحها وفي مناقشاتها، وفي تأكيدها الدائم على الاحترام والمساواة وحقوق العمال هي ريم فخر للمرأة الإماراتية، وللطموح الذي لا يعرف حدا، وهو يمضي للعلا».
وأضافت: «تمسك بيديها أسرار النجاح ليصير منهج حياة ومتعة دائمة، ومن هذه الأسرار الكثيرة وأهمها الثقة بالذات وبالقدرات، لقد تجلى ذلك في صوتها وهي في العرض الأخير لـ(إكسبو)، فكان صداه يشي بثقة راسخة في الذات والقدرات، فما بالكم بالصوت نفسه، ومن الأسرار أيضا التعليم وإتقان اللغات فهي خريجة جامعة هارفارد، وهذا ليس كافيا، إلا إذا صاحبته العزيمة القوية والصبر والإخلاص في العمل، إضافة إلى أمر مهم هو أنها قد حددت هدفها منذ أن كانت طالبة على مقاعد الثانوية العامة، فهي تعلم ماذا تريد وكيف تحقق أحلامها».
عملت الهاشمي مع الجميع من وزراء وسفراء ومسؤولين خلال توليها ملف «إكسبو 2020»، الذين أسهموا معها في إيصال الصورة الحقيقة لقدرة الدولة على استضافة المعرض، وذلك لما تمتاز به من بنية تحتية واقتصاد قوي ومن انفتاح على الآخر.
وصفها الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية وزير الدولة لشؤون المجلس الوطني الاتحادي في الإمارات، بالنجمة اللامعة، حيث تحدث عنها في جملة حديثه عن إنجاز «إكسبو 2020» بقوله: «نجاحنا في (إكسبو) جاء نتيجة لتضافر الجهود وجماعية العمل وسلامة التخطيط ويمثل نجاحنا عربيا وخليجيا تحمل رايته الإمارات، ولعبت القيادة من خلال رؤيتها دور محوريا في النجاح وقاد التنفيذ الشيخ عبد الله بن زايد والشيخ أحمد بن زايد ونجمتنا اللامعة ريم الهاشمي».
كانت خير سفيرة للتأثير على المصوتين، حيث قدمت ريم الهاشمي العضو المنتدب للجنة الوطنية العليا لـ«إكسبو 2020» في ربع الساعة الأخير من موعد التصويت للدولة التي تستضيف المعرض الدولي الكبير عرض بلادها، والذي دام 20 دقيقة أشارت فيه إلى آخر الاستعدادات التي جرت في الإمارات ومدينة دبي تحديدا المرشحة لاستضافة هذا الحدث.
وقالت جملتها المشهورة في الخطاب الأخير قبل التصويت: «سيداتي وسادتي، اعلموا أنكم حين تصوتون اليوم، فإن أصواتكم ستغير التاريخ»، وعدت هذه الجملة لافتة في خطاب وزيرة الدولة الإماراتية وممثلتها إلى عرض ملف «إكسبو 2020» في باريس، كما كانت من أكثر اللحظات تأثيرا في خطاب السيدة الإماراتية التي قدمت نفسها كنموذج للمرأة الإماراتية بشكل خاص، والعربية بشكل عام.
وأكدت الهاشمي أن الإمارات قيادة وحكومة وشعبا ومجتمعا باتت مهيأة لاستضافة هذا الحدث وتقديم أفضل ما لديها من خدمات ووسائل للراحة والأمن والأمان للمشاركين في المعرض وزواره، والذي يتوقع أن يزوره نحو 25 مليون زائر من كل أنحاء العالم بما فيها الإمارات على مدى 6 أشهر التي يقام فيها المعرض.
وتعتقد الوزيرة الهاشمي أن العناصر والمقومات التي تمتلكها دولة الإمارات ستساعدها على إنجاح الحدث على أراضيها، مشيرة في السياق إلى التناغم الإنساني والثقافي والحضاري الذي يميز مجتمع الإمارات المكون من 200 جنسية يمثلون السواد الأعظم من دول العالم يعيشون في ظل مجتمع عربي مسلم متسامح وفي ظل كرم الضيافة العربية والاحترام وحفظ حقوق الإنسان.
كما أشارت إلى البنية التحتية المتكاملة والمتميزة من مطارات وشبكات طرق وجسور وموانئ عالمية إلى جانب المواصلات والاتصالات التي تربط دولة الإمارات مع جميع دول العالم دون معوقات أو تعقيدات، هذا إلى جانب موقع المعرض المقترح الذي يقع في منطقة جبل علي في دبي على مساحة أكثر من 20 هكتارا من الأرض والمجاور إلى ميناء جبل علي العملاق ومطار آل مكتوم الدولي الحديث ويحيط به شبكة من الطرق والجسور والأنفاق المتطورة التي تسهل عملية الوصول إلى المعرض من قلب المدينة أو من كل أنحاء الإمارات بكل سلاسة وسهولة.
كانت الهاشمي متفائلة بفوز بلادها منذ وقت مبكر، وأجابت عن توقعاتها عندما سئلت: «إنني متفائلة جدا ونتوقع التصويت لصالح الإمارات». وزادت: «الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، زرع فينا الأمل باستضافة معرض (إكسبو الدولي 2020)، استنادا إلى الإمكانات والقدرات التي تتمتع بها دولة الإمارات وتؤهلها بجدارة للمنافسة على إقامة المعرض الأكبر من نوعه عالميا في دبي».
وكانت دبي توجت مجهوداتها في شرف استضافة معرض «إكسبو 2020» بحصد 116 صوتا من الأصوات المشاركة في الجولة النهائية لاختيار المدينة التي ستنظم الحدث العالمي، حيث صوتت 164 دولة لانتخاب المدينة الفائزة بنسبة 71% مقابل 29 لمدينة إيكاترينبرغ الروسية. واستطاعت دبي أن تكون الأبرز في عملية الترويج لقدرتها على استضافة معرض «إكسبو 2020»، وسخرت جميع إمكانياتها لاستعراض مقومات التنظيم، في الوقت الذي شكلت فيه تلك المقومات قيمة إضافية حقيقية للمعرض العالمي، منح دبي ميزة أكبر من منافسيها في السباق على الترشيح لاستضافة المعرض العالمي.
وستسهم استضافة معرض «إكسبو» بزيادة الناتج المحلي الإجمالي لدبي بما يقرب 141 مليار درهم (38.3 مليار دولار)، إلى جانب توفير 277 ألف فرصة عمل خلال السبع سنوات المقبلة.
وشاركت الهاشمي في عدد من الاجتماعات الدولية، حيث شاركت في الاجتماع الثاني لمجموعة عمل أصدقاء سوريا المعنية ببناء وتأهيل الاقتصاد السوري الذي أقيم ببرلين الألمانية، وترأست الهاشمي وفد بلادها، بهدف مناقشة آخر تطورات عمل المجموعة الاقتصادية التي تهدف إلى دعم وبناء وتأهيل الاقتصاد السوري، واستعرضت في الاجتماع دور الإمارات الداعم للشعب السوري في المجالات الاقتصادية والإنسانية.
كما عقدت الهاشمي في الاجتماع الوزاري للمكتب التنسيقي لحركة دول عدم الانحياز، والذي عقد في العاصمة الكوبية هافانا، سلسلة من اللقاءات الثنائية مع عدد من وزراء الدول المشاركين في الاجتماع.
وبحثت أوجه العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية الثنائية المشتركة بين الإمارات وتلك الدول وسبل تطويرها بما في ذلك تبادل الزيارات والخبرات وتعزيز التعاون في شتى المجالات.
وتحدثت الهاشمي عن رؤيتها للمرأة الإماراتية، وقالت: «أثبتت المرأة الإماراتية نجاحها في القطاعات الحكومية والمالية والصناعية، إضافة إلى وجود سيدات أعمال يمتلكن شركاتهن الخاصة»، مشيرة إلى أن المرأة تمثل حجر الزاوية التي ترتكز عليها عملية النهضة الوطنية في الإمارات، فهي تشارك في جميع مجالات الحياة.
وزادت: «جرى دمج المرأة الإماراتية كليا في الحياة العامة، مع بعض القيود القليلة التي تواجهها المرأة في كل مكان، حتى في الدول المتقدمة، مثل الموازنة بين الأسرة والعمل والمنافسة في مكان العمل على أساس المهارة والقدرة».
وتابعت الهاشمي: «أسهم حرص المرأة الإماراتية على اغتنام فرص التعليم في منحها فرصة المشاركة في نهضة المجتمع إلى جانب الرجل، حيث تعمل في الخدمة المدنية والتعليم والمحاماة والهندسة والطب والإعلام والرياضة والأعمال، كما تولت المرأة منصب السفيرة والقاضية وشغلت مقاعد برلمانية ووظائف في الشرطة والجيش، وتشغل المرأة أربعة مقاعد برلمانية في المجلس الوطني الاتحادي، كما تقوم الإمارات بتدريب المرأة على الإفتاء لتكون أول دولة تشهد ظهور المفتيات في العالم الإسلامي».
وأكدت الهاشمي أن دستور دولة الإمارات نص على أن المرأة تتمتع بكامل الحقوق التي يتمتع بها الرجل من حيث الحصول على الوظائف والخدمات الصحية والرعاية الأسرية، إلى جانب ضمان حقوق المرأة في الإرث.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.