الحنطور ... نزهة برائحة الماضي على نيل القاهرة

الأسطى أحمد يقدم حزمة برسيم لحصانه («الشرق الأوسط»)
الأسطى أحمد يقدم حزمة برسيم لحصانه («الشرق الأوسط»)
TT

الحنطور ... نزهة برائحة الماضي على نيل القاهرة

الأسطى أحمد يقدم حزمة برسيم لحصانه («الشرق الأوسط»)
الأسطى أحمد يقدم حزمة برسيم لحصانه («الشرق الأوسط»)

على طول طريق الكورنيش بين مبنى التلفزيون بماسبيرو وكوبري قصر النيل، تصطف مجموعة من عربات الحنطور، تنتظر الزبائن من المصريين والعرب والأجانب.
وحين يطول الانتظار، يحمل الأسطى أحمد جوالاً من الخيش وضعه خلف العربة، يخرج منه حزمه من أعواد البرسيم، يقدمها لحصانه، ثم يربت بحنان على ظهره وكأنه يكافئه على محنة الانتظار... سألته هل تقف منذ وقت تنتظر زبائنك، قال في الشتاء تقل رغبة الناس في الخروج من منازلهم، الجو هذه الأيام برد جداً، وقليلون هم من لديهم طاقة ركوب عربة مفتوحة، ومع ذلك هناك من يبحثون عن المتعة في كل الأجواء، لا يوقفهم مطر ولا صقيع.
وذكر أحمد أن الحنطور كان له مكانه كبيرة في مصر، واهتمت السينما المصرية به، وبأسطواته، وجعلت منهم أبطالا لأفلامها، ومن أشهرها فيلم «مولد يا دنيا» الذي قام ببطولته محمود ياسين، وعفاف راضي، وعبد المنعم مدبولي، وله أغنية شهيرة فيه، عن الحنطور، وتقلبات الزمن عليه، وما يتعرض له من كساد، وهناك أيضا فيلم «دايما معاك» الذي قام ببطولته الفنان محمد فوزي مع فاتن حمامة، وعبد الوارث عسر الذي كان يقوم بدور سائق حنطور خلال أحداثه، لكن الأيام جارت عليه بعد ظهور وسائل النقل الحديثة، سألته هناك صورة غنائية اسمها نزهة، صورها التلفزيون، بعد ما قدمتها الإذاعة خلال فترة الأربعينات، شاركت في تقديمها المطربة شافية أحمد، وكارم محمود، هل تسمع عنها؟، قال باستنكار شديد، إنها أغنيتنا الرسمية: «الجوز الخيل، والعربية، أنغامهم كلها حنية»، ثم راح يغني وأنا أردد معه: «سوق يا اسطى لحد الصبحية»... ثم أردف بابتسامة صافية: «هذه الأغنية تعبر عنا، وتقدر دورنا، ووجودنا وتقدمنا بحب للناس».
راح أحمد يدفع أعواد البرسيم في فم الحصان، يطويها مرتين، ويلقمها له، ويظل ممسكا بها حتى يتمكن منها تماما، ثم يلوكها دون أن تسقط منه، قلت له بما أن عملك ليس منتظماً، فلماذا لا تعمل في الشتاء شيئا آخر، وحين يجئ الصيف تعود إلى عربتك وحصانك، أجاب، وهو يمسح رقبته، هذا صاحبي، ولا أطيق أن أتركه لأحد، يهمل في غذائه ويموت، كما أنني أحب مهنتي، ولا أعرف سواها، ورثتها عن أبي، كما ورثت العربة، وحين يموت الحصان لا قدر الله، نذهب إلى محافظة الشرقية لشراء آخر.
ورغم انحسار دور الحنطور في حياة المصريين، بعد أن كان وسيلة المواصلات المهمة في مصر قبل الثورة، فإنه ما زال هناك من يهتم بتصنيعه، ويحرص على عدم انفلات المهنة من بين يديه خاصة في مدينة طنطا بمحافظة الغربية، فبعد أن أدخلها الإيطاليون إلى مصر، برع المصريون في تصنيعها، وتعلم فنونها، كانت تستورد جميع قطعها من الخارج، ويتم تركيبها هنا فقط، وقد قدموا أشكالا جديدة منه، لم تكن معروفة في إيطاليا نفسها، وقاموا بتصنيع بعضها لمعظم باشوات مصر وقتها.
في أثناء حديثي مع الأسطى أحمد، جاء رجل وزوجته، وطفلاه، طلب منه أن يصطحبهم في نزهة، سأله عن أجره، فأخبره أن هناك فسحة طويلة من كوبري قصر النيل، ويتجه بعدها إلى الكورنيش المحاذي لبرج الجزيرة، ثم يتجه إلى حي الزمالك، ويصعد بعدها كوبري 6 أكتوبر (تشرين الأول)، حتى ميدان التحرير، ومنه إلى مكانه حيث يقف، وهناك نزهة قصيرة، تقطع كوبري قصر النيل نفسه، ثم يعود منه إلى موقفه، الأول بـ150 جنيها، والأخرى بـ80 جنيها، وتابع أحمد أنه يطلب هذه الأجرة وهي بسيطة، لأنه لا يريد أن يقف، دون عمل.
حاول الرجل أن يتفاوض معها بشأنها، لكن أحمد رفض، وقال له: «لو جئت في الصيف فسوف تعرف أنها لا تساوي حتى نصف ما نطلبه من زبائننا».
عندها انصرف الرجل بأسرته، وأكمل أحمد أن حصانه يظل من الساعة الخامسة قبل المغرب في الشارع، ولا يرجع إلا الساعة السادسة صباحاً، ليبيت في «عربخانة» وهو مكان مخصص للحناطير، نقوم بتأجيره بالشهر، وقد قلت كثيراً، مثل هذه الأماكن، بعدما انتشرت عمليات هدم المنازل، وبناء أبراج سكنية مكانها. عربة الحنطور غالية، ونحن نحرص على وضعها في مكان آمن، حتى لا تتعرض للسرقة، هل تعلم أن سعرها يصل إلى 20 ألف جنيه، ما يزيد على ألف دولار، وهناك أنواع منه تصل قيمته إلى 18 ألف دولار، وهي عربة من الطراز الأوروبي، مذهبة بكاملها، أما حنطور الزفاف فيصل سعره إلى 1500 دولار.


مقالات ذات صلة

فندق «شيراتون القاهرة» يعلن عن افتتاح البرج الشمالي

عالم الاعمال فندق «شيراتون القاهرة» يعلن عن افتتاح البرج الشمالي

فندق «شيراتون القاهرة» يعلن عن افتتاح البرج الشمالي

أعلن فندق «شيراتون القاهرة»، وهو جزء من علامة «ماريوت» الدولية عن إعادة افتتاح البرج الشمالي للفندق.

الاقتصاد أشخاص يجلسون في مقهى بسيدي بو سعيد وهي مقصد سياحي شهير بالقرب من تونس العاصمة (رويترز)

عائدات السياحة التونسية تتجاوز 2.2 مليار دولار وسط توقعات قياسية

تجاوزت عائدات السياحة التونسية حتى شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي 2.2 مليار دولار، وسط توقعات بتسجيل أرقام قياسية في عدد السياح الوافدين إلى البلاد.

«الشرق الأوسط» (تونس)
الاقتصاد أحمد الخطيب متحدثاً للحضور في المنتدى الاستثماري السعودي - الفرنسي بالرياض (الشرق الأوسط)

الخطيب: تطوير الشراكات السعودية - الفرنسية في المنظومة السياحية

قال وزير السياحة السعودي، أحمد الخطيب، الثلاثاء، إن السعودية تعمل على تطوير شراكات مع فرنسا لتبادل الخبرات والبيانات.

زينب علي (الرياض)
يوميات الشرق يأتي المشروع في إطار جهود تعزيز الفنون والثقافة من خلال مراكز متخصصة في مختلف المجالات (واس)

«ميدان الثقافة» بوابة تربط بين الماضي والحاضر في جدة التاريخية

يشكل «ميدان الثقافة» الذي أطلقه برنامج جدة التاريخية التابع لوزارة الثقافة السعودية بوابة تربط بين الماضي والحاضر كمعلم حضاري كبير تحتضنه المدينة الساحلية جدة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
يوميات الشرق فنادق وكراسي الاستلقاء للتشمس بالقرب من شاطئ في بينيدورم بإسبانيا (شاتيرستوك)

إسبانيا تجبر السياح على كشف المعلومات الشخصية بموجب قانون جديد

تحذر بعض التقارير من مطالب «الأخ الأكبر»، بما في ذلك كشف الضيوف عن الأرصدة المصرفية، ولكن هذه المطالب تبدو غير مبررة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».