ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية

فاز بفترة رئاسية ثانية في التشيك بانياً حملته على عداء المسلمين

ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية
TT

ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية

ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية

عندما ظهر شريط فيديو للرئيس التشيكي ميلوش زيمان قبل 3 سنوات، وهو يسير مترنّحاً في مناسبة رسمية، ظن كثيرون أن نهايته السياسية اقتربت. كانت حينها التقارير عن عاداته السيئة في الشرب والتدخين قد بلغت حدها. وفاقمت صحته المتدهورة الأمر، بعد تشخيص معاناته من السكري الذي بدأت آثاره الجسدية بالظهور عليه. وفي الفترة الأخيرة ما عاد باستطاعته المشي من دون عكاز. غير أن زيمان البالغ من العمر 73 سنة، نجح مع ذلك بالفوز بولاية رئاسية ثانية مدتها 5 سنوات، مستفيداً بشكل أساسي من أصوات حزب «الحرية والديمقراطية المباشرة» اليميني المتطرف بزعامة توميو أوكامورا (الياباني الأصل).
والواقع أن زيمان تحوّل في فترة قصيرة من شيوعي يساري إلى شعبوي قومي يميني يعتمد خطاباً معادياً للمسلمين، رغم أن عدد هؤلاء لا يتجاوز الـ3500 مسلم في التشيك التي يصل عدد سكانها إلى 10 ملايين ونصف المليون. والواضح أن السياسي العجوز بنى خطابه على استطلاعات للرأي تظهر رفض أكثرية مواطنيه استقبال أي لاجئ من سوريا، رغم القرار الأوروبي بتوزيع اللاجئين السوريين على كل الدول الأعضاء في الاتحاد، بحسب «كوتا» حددها.
ومن جهة أخرى، جاء فوز زيمان، أخيراً، بالرئاسة بعد فوز حزب «آنو» الذي يرأسه زعيم شعبوي آخر هو آندريه بابيش بالانتخابات النيابية (العامة)، لا يسلط الضوء فقط على صعود اليمين المتطرف في التشيك، بل يبدو أنه يأتي في إطار بات نمطياً لصعود اليمين المتطرف في كامل دول أوروبا الشرقية والوسطى... من بولندا إلى المجر والنمسا وحتى ألمانيا، وبشكل أساسي، بسبب أزمة اللاجئين التي بدأت عام 2015.
«إذا استضفتَ أحدهم في بلدك، فلا ترسله ليتناول الغذاء عند جيرانك». يروي ميلوش زيمان، الذي أُعِيد انتخابه رئيساً للتشيك أن هذه كانت الجملة الأولى التي استقبل بها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما زارت العاصمة التشيكية براغ عام 2016.
ويتابع زيمان روايته بشيء من المرح: «جملة مهذبة جداً... أليس كذلك؟»، قبل أن يعترف بأن ميركل لم تُجِبه بل اكتفَتْ بابتسامة باهتة.
بالطبع، كان زيمان يشير إلى قرار ميركل السماح حينذاك لما يزيد على المليون لاجئ سوري بدخول ألمانيا عام 2015، ومن ثم قرار الاتحاد الأوروبي توزيع اللاجئين، العالقين بشكل أساسي في اليونان، على دول الاتحاد الأوروبي.
ولكن التشيك، إلى جانب بعض الدول الأخرى التي يقودها ساسة يمينيون شعبويون، مثل بولندا والمجر، رفضت قرار الاتحاد الأوروبي، وأعلنت أنها لن تستقبل أي لاجئ.
فيما يخص التشيك، مع أن رئيس الجمهورية لا يتمتع بأي سلطة دستورية حقيقية، فإن صوته كان من أعلى الأصوات الرافضة لدخول «مسلمين». بل إن نبرته ضدّهم تصاعدت تدريجياً لتصل إلى الحد التحذير من أن التشيك قد تتعرّض لهجوم من قبل «مسلمين متطرفين»، داعياً المواطنين إلى التسلح للدفاع عن أنفسهم.
ويرى كثيرون أن تصريحاته هذه كانت السبب الرئيس لوضع أجهزة الكشف عن معادن على مداخل قصر براغ لتفتيش مئات السياح الذين يدخلونه يومياً.
وفي حملته الانتخابية جعل زيمان التحذير من «خطر المسلمين الداهم المقبل» محوراً رئيساً، ما جذب قاعدة كبيرة لا سيما في الأرياف ولدى كبار السنّ.

صديق بابيش
المراقبون يرون أن تأثير ميلوش زيمان في السياسة التشيكية قد يتزايد في الفترة الثانية من رئاسته، خصوصاً إذا نجح حليفه آندري بابيش بتشكيل حكومة. فبابيش، وهو صديق مقرّب من زيمان، لم يتمكن من تشكيل حكومة كلّف بها قبل أشهر عندما حل حزبه في المرتبة الأولى في الانتخابات النيابية ولكن من دون أن يحقق الأغلبية. ولقد حاول حينها تشكيل حكومة أقلية، إلا أنه فشل في الحصول على ثقة البرلمان منتصف الشهر الماضي.
مشكلة بابيش، الذي يشبه زيمان بمقاربته الشعبوية وخطابه المعادي للإسلام، أن كل الأحزاب باستثناء حزب أوكامورا المتطرّف، رفضت الدخول معه في ائتلاف حكومي لأنه يواجه تهماً بالفساد تسببت بإقالته من منصبه كوزير للمالية. أما أوكامورا فقد رفض دعمه بسبب نبذ بابيش نفسه له لأفكاره شديدة التطرف. وهكذا وجد بابيش نفسه معلقاً بين الفوز والخسارة.
من ناحية ثانية، لو خسر زيمان معركة رئاسة الجمهورية، فإنه كان سيخرج من المسرح السياسي كليّاً. ذلك أن منافسه الأول على الرئاسة جيري دراهو، القادم من علم الكيمياء، الذي يُعد نقيضاً لزيمان في كل شيء تقريباً، كان تعهد برفض السماح لبابيش بتشكيل حكومة بسبب تهم الفساد التي يواجهها. وبالتالي، لا شك، في أن بابيش يكاد يطير فرحاً بفوز صديقه الذي هو أيضاً صديق لأوكامورا - لدرجة أنه عندما خرج ليلقي خطاب النصر بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية، ظهر إلى جانب زعيم الحزب المتطرف.
ثم إن زيمان، منذ تكليفه بابيش في المرة الأولى، قال إنه سيمنحه كل الوقت الذي يحتاج إليه لتشكيل حكومته. والآن، يتوقع كثيرون أن يضغط على أوكامورا لدعم بابيش إما عبر البرلمان في حكومة أقلية، أو حتى الضغط على بابيش لإشراك حزب «الحرية والديمقراطية المباشرة» في حكومته. وبهذا يكون زيمان قد أوصل حزباً شديد التطرف إلى السلطة رغم دخوله البرلمان بـ22 مقعداً فقط، وبنسبة 10 في المائة من الأصوات.

الارتباط بروسيا
في سياق آخر، مشكلة زيمان ليست فقط في تطرفه ضد المسلمين واللاجئين، بل من مشكلاته أيضاً تعاطُفَه مع روسيا. فمنذ باشر الاتحاد الأوروبي فَرْض عقوبات على موسكو بسبب عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وقف زيمان بقوة ضد العقوبات، وكان من أشد المدافعين عن الكرملين. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنّ أحد أقرب مستشاريه هو مؤسس الفرع التشيكي لشركة النفط الروسية (لوكويل). كما أن حملته الانتخابية واجهت اتهامات بتلقي تمويل من موسكو. وفي تحقيق أجراه جاكوب جاندا نائب مدير منظمة «القيم الأوروبية»، قال جاندا إن «ثلث تمويل حملة زيمان، على الأقل، جاء من جهات مانحة لم يكشف هويتها، مستخدمةً غطاء منظمة غير ربحية مشكوك فيها للإخفاء مصادر المال».
أيضاً ثمة اتهامات كثيرة أخرى متعلقة بارتباط الرئيس التشيكي الجديد - القديم بروسيا وجّهت إليه، خصوصاً عندما بدأت تظهر أخبار مفبركة عن منافسه دراهو على وسائل إعلام مرتبطة بموسكو. وللعلم، بعض هذه المنصات يتمتع حتى بمصداقية مثل مركز براغ للدراسات الأمنية، الذي تحدث عن تعاون دراهو بجهاز البوليس السري أيام حكم الشيوعية. ولكن المركز نشر أيضاً أخباراً كاذبة حول استعداد دراهو لقبول الخطة الأوروبية بإعادة توزيع اللاجئين، رغم أن دراهو نفسه أعلن مراراً رفضه لها، واستعداده فقط لقبول جزء صغير من اللاجئين. وثمة أخبار أخرى مؤذية انتشرت عن دراهو مثل سرقته المزعومة براءات اختراع في علم الكيمياء منسوبة له وارتباطه بجماعات سرية. إلا أن أبشعها وأكثرها أذى وخطورة كانت محاولة تصويره على أنه يتحرّش بالأطفال.

الاتحاد الأوروبي و«ناتو»
عودة، إلى زيمان، لعل أكثر ما يُقلِق أوروبا في ارتباطه بروسيا هو دعوته للتصويت على عضوية التشيك في الاتحاد الأوروبي (التي انضمت للاتحاد عام 2003) وفي منظمة حلف شمالي الأطلسي (ناتو)، إذ سبق له أن دعا، خلال العام الماضي، متشجعاً بقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، إلى استفتاء شعبي مشابه. وقال الرئيس الذي - كما سبقت الإشارة - لا يتمتع بالسلطة للدعوة لاستفتاء كهذا، أمام مجموعة من الناخبين، بحسب راديو التشيك: «لا أوافق الذين يريدون الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكنني سأبذل جهدي لكي يتمتعوا بحق التصويت في استفتاء شعبي للتعبير عن نفسهم. والأمر كذلك بالنسبة للخروج من حلف (ناتو)». وحول هذا الأمر ردّت الحكومة التشيكية بسرعة لإغلاق الباب على أي دعوة شبيهة. وقال المتحدث باسم رئيس الحكومة بوهوسلاف سوبوتكا في حينه: «عضوية التشيك في هاتين المنظمتين ضمان للأمن والاستقرار».
أيضاً ينعكس ارتباط زيمان بروسيا أيضاً في كلامه عن السياسة الخارجية. ففضلاً عن أنه دافع عن احتلال موسكو شبه جزيرة القرم واعتبره «أمراً واقعاً لا يمكنه تغييره»، فهو أيضاً من رافضي الدعوات للإطاحة برئيس النظام السوري بشار الأسد، رغم أن هذا لا يتماشى مع مواقف الاتحاد الأوروبي.

صعود اليمين المتطرف
في مطلق الأحوال، أفكار زيمان كلها شبيهة إلى حد بعيد بأفكار معظم الحركات اليمينية المتطرفة الشعبوية في أوروبا. وحول هذا الشأن كتب الصحافي التشيكي البارز جاكوب بوتوكا بعد فوز زيمان يقول: «زيمان هو نسخة مبتذلة للشعبويين الذي صعدوا في المنطقة، مثل كاجينسكي في بولندا وأوربان في المجر وفيكو في سلوفاكيا. نحن في التشيك لدينا أيضاً إمبراطور إعلام خطير هو آندري بابيش». ويضيف: «أساليبهم الاستبدادية ونشرهم الكراهية تجاه اللاجئين، كلهم دلائل على فشل تحوّل الدول الشيوعية السابقة. علينا الآن أن نواجه الحقيقة المرّة: دول أوروبا الوسطى فشلت بعد الشيوعية ببناء شكل مقبول من الديمقراطية، ومعظمهم يواجه خطراً كبيراً هو خطر الانزلاق إلى الأنظمة الاستبدادية».
وحقاً، يعتبر الكاتب التشيكي أنه حتى في حالات زيمان وفيكو اللذين يأتيان من خلفية يسارية، فإن أساليبهم «أساليب اليمين المتطرف الذي يعتمد على إثارة الكراهية». ويرى أن هذا الوضع يجب أن يقلق كل أوروبا، بقوله: «دول وسط أوروبا في طريقها لأن تصبح مرة جديدة مكاناً فوضوياً لقوميات متنافسة وصراعات جيو - سياسية». ويضيف أنه إذا أرادت «أوروبا تفادي هذا المصير البائس لدول وسطها، سيكون عليها التفكير باستراتيجية شاملة للإصلاح وتعميق الديمقراطية في المنطقة».

علاقته بالصحافة
في الحقيقة، المخاوف التي يعبر عنها بوتوكا، أقرب ما تصدق على التشيك التي انتخبت رئيساً، وعيّنت رئيس وزراء منسجمين ومتشابهين بالأفكار. والأسوأ أن كلاً منهما يحمل أفكاراً سلبية عن الصحافة الحرة. فبابيش آت من إمبراطورية إعلام، لكنه يعتقد أن بإمكانه تطويع الصحافيين لحاجاته السياسية، أما زيمان فلا يكف عن إهانة الصحافيين وتهديدهم. ولقد نقل عن زيمان ذات قوله أن قوله إن الصحافيين «أغبى المخلوقات على الأرض». كما نُقل عنه أيضاً قوله للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه هناك «حاجة لتصفية» صحافيين. وهو كلام سحبه لاحقاً بعد جدل كبير، مع العلم أنه جاء وسط الاتهامات الموجهة لموسكو بتصفية صحافيين معارضين. ولكن التهديد المباشر الأكثر جدية للصحافيين على لسان زيمان جاء يوم الاقتراع في الانتخابات النيابية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عندما جلس في مؤتمر صحافي ورفع بندقية - دمية في وجه الصحافيين. ومع البندقية كانت دمية، فلقد كُتب عليها: «موجهة للصحافيين».
وقال وهو يرفعها بوجه الصحافيين إن أحدهم قدمها له خلال جولاته يغرب البلاد، مضيفاً وهو يبتسم: «انظروا إلى ما كتب عليها». وهنا أيضاً أثارت «مسرحيته هذه» إدانات كبيرة في أوروبا ومن منظمات حقوقية، لا سيما أنها جاءت بعد يوم من اغتيال الصحافية دافني كاروانا غاليتزيا في مالطة بتفجير سيارتها. وبهذا أيضاً تشبه التشيك كلاً من بولندا والمجر اللتين تمارسان ضغوطا متزايدة على الصحافيين. ففي بولندا حوّل الحزب اليميني الحاكم (حزب القانون والعدل) عملياً تلفزيون الدولة إلى قناة ناطقة باسم حكومة الحزب. وفي المجر، أدخل رئيس الحكومة فيكتور أوربان أخيراً قوانين تشدد المراقبة على الصحافيين رغم الانتقادات الشديدة والتحذيرات المتكرّرة من الاتحاد الأوروبي.
وعلى ما يبدو فإن التشيك قد تكون سائرة في الاتجاه نفسه تحت القيادة المشتركة لزيمان وبابيش. أو على الأقل إذا بقي زيمان صامداً في منصبه للسنوات الخمس المقبلة. إذ بدأ الإعلامان التشيكي والأوروبي يتحدثان فور إعادة انتخابه عن صحته المتدهورة ويشككان بقدرته على البقاء في منصبه حتى نهاية فترته الرئاسية، أي لـ5 سنوات إضافية يكون قد بلغ في نهايتها 78 سنة.
ختاماً، سواء استمر الرئيس العجوز، اليساري سابقاً واليميني الشعبوي حالياً، في منصبه، فإنه - على الأقل - أوصل رئيس حكومة يشبهه (بابيش) وزعيماً يمينياً متطرفاً (أوكامورا) إلى السلطة... قد يغيران معاً صورة التشيك خلال فترة قصيرة.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».