ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية

فاز بفترة رئاسية ثانية في التشيك بانياً حملته على عداء المسلمين

ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية
TT

ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية

ميلوش زيمان... من اليسار إلى القومية الشعبوية

عندما ظهر شريط فيديو للرئيس التشيكي ميلوش زيمان قبل 3 سنوات، وهو يسير مترنّحاً في مناسبة رسمية، ظن كثيرون أن نهايته السياسية اقتربت. كانت حينها التقارير عن عاداته السيئة في الشرب والتدخين قد بلغت حدها. وفاقمت صحته المتدهورة الأمر، بعد تشخيص معاناته من السكري الذي بدأت آثاره الجسدية بالظهور عليه. وفي الفترة الأخيرة ما عاد باستطاعته المشي من دون عكاز. غير أن زيمان البالغ من العمر 73 سنة، نجح مع ذلك بالفوز بولاية رئاسية ثانية مدتها 5 سنوات، مستفيداً بشكل أساسي من أصوات حزب «الحرية والديمقراطية المباشرة» اليميني المتطرف بزعامة توميو أوكامورا (الياباني الأصل).
والواقع أن زيمان تحوّل في فترة قصيرة من شيوعي يساري إلى شعبوي قومي يميني يعتمد خطاباً معادياً للمسلمين، رغم أن عدد هؤلاء لا يتجاوز الـ3500 مسلم في التشيك التي يصل عدد سكانها إلى 10 ملايين ونصف المليون. والواضح أن السياسي العجوز بنى خطابه على استطلاعات للرأي تظهر رفض أكثرية مواطنيه استقبال أي لاجئ من سوريا، رغم القرار الأوروبي بتوزيع اللاجئين السوريين على كل الدول الأعضاء في الاتحاد، بحسب «كوتا» حددها.
ومن جهة أخرى، جاء فوز زيمان، أخيراً، بالرئاسة بعد فوز حزب «آنو» الذي يرأسه زعيم شعبوي آخر هو آندريه بابيش بالانتخابات النيابية (العامة)، لا يسلط الضوء فقط على صعود اليمين المتطرف في التشيك، بل يبدو أنه يأتي في إطار بات نمطياً لصعود اليمين المتطرف في كامل دول أوروبا الشرقية والوسطى... من بولندا إلى المجر والنمسا وحتى ألمانيا، وبشكل أساسي، بسبب أزمة اللاجئين التي بدأت عام 2015.
«إذا استضفتَ أحدهم في بلدك، فلا ترسله ليتناول الغذاء عند جيرانك». يروي ميلوش زيمان، الذي أُعِيد انتخابه رئيساً للتشيك أن هذه كانت الجملة الأولى التي استقبل بها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما زارت العاصمة التشيكية براغ عام 2016.
ويتابع زيمان روايته بشيء من المرح: «جملة مهذبة جداً... أليس كذلك؟»، قبل أن يعترف بأن ميركل لم تُجِبه بل اكتفَتْ بابتسامة باهتة.
بالطبع، كان زيمان يشير إلى قرار ميركل السماح حينذاك لما يزيد على المليون لاجئ سوري بدخول ألمانيا عام 2015، ومن ثم قرار الاتحاد الأوروبي توزيع اللاجئين، العالقين بشكل أساسي في اليونان، على دول الاتحاد الأوروبي.
ولكن التشيك، إلى جانب بعض الدول الأخرى التي يقودها ساسة يمينيون شعبويون، مثل بولندا والمجر، رفضت قرار الاتحاد الأوروبي، وأعلنت أنها لن تستقبل أي لاجئ.
فيما يخص التشيك، مع أن رئيس الجمهورية لا يتمتع بأي سلطة دستورية حقيقية، فإن صوته كان من أعلى الأصوات الرافضة لدخول «مسلمين». بل إن نبرته ضدّهم تصاعدت تدريجياً لتصل إلى الحد التحذير من أن التشيك قد تتعرّض لهجوم من قبل «مسلمين متطرفين»، داعياً المواطنين إلى التسلح للدفاع عن أنفسهم.
ويرى كثيرون أن تصريحاته هذه كانت السبب الرئيس لوضع أجهزة الكشف عن معادن على مداخل قصر براغ لتفتيش مئات السياح الذين يدخلونه يومياً.
وفي حملته الانتخابية جعل زيمان التحذير من «خطر المسلمين الداهم المقبل» محوراً رئيساً، ما جذب قاعدة كبيرة لا سيما في الأرياف ولدى كبار السنّ.

صديق بابيش
المراقبون يرون أن تأثير ميلوش زيمان في السياسة التشيكية قد يتزايد في الفترة الثانية من رئاسته، خصوصاً إذا نجح حليفه آندري بابيش بتشكيل حكومة. فبابيش، وهو صديق مقرّب من زيمان، لم يتمكن من تشكيل حكومة كلّف بها قبل أشهر عندما حل حزبه في المرتبة الأولى في الانتخابات النيابية ولكن من دون أن يحقق الأغلبية. ولقد حاول حينها تشكيل حكومة أقلية، إلا أنه فشل في الحصول على ثقة البرلمان منتصف الشهر الماضي.
مشكلة بابيش، الذي يشبه زيمان بمقاربته الشعبوية وخطابه المعادي للإسلام، أن كل الأحزاب باستثناء حزب أوكامورا المتطرّف، رفضت الدخول معه في ائتلاف حكومي لأنه يواجه تهماً بالفساد تسببت بإقالته من منصبه كوزير للمالية. أما أوكامورا فقد رفض دعمه بسبب نبذ بابيش نفسه له لأفكاره شديدة التطرف. وهكذا وجد بابيش نفسه معلقاً بين الفوز والخسارة.
من ناحية ثانية، لو خسر زيمان معركة رئاسة الجمهورية، فإنه كان سيخرج من المسرح السياسي كليّاً. ذلك أن منافسه الأول على الرئاسة جيري دراهو، القادم من علم الكيمياء، الذي يُعد نقيضاً لزيمان في كل شيء تقريباً، كان تعهد برفض السماح لبابيش بتشكيل حكومة بسبب تهم الفساد التي يواجهها. وبالتالي، لا شك، في أن بابيش يكاد يطير فرحاً بفوز صديقه الذي هو أيضاً صديق لأوكامورا - لدرجة أنه عندما خرج ليلقي خطاب النصر بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية، ظهر إلى جانب زعيم الحزب المتطرف.
ثم إن زيمان، منذ تكليفه بابيش في المرة الأولى، قال إنه سيمنحه كل الوقت الذي يحتاج إليه لتشكيل حكومته. والآن، يتوقع كثيرون أن يضغط على أوكامورا لدعم بابيش إما عبر البرلمان في حكومة أقلية، أو حتى الضغط على بابيش لإشراك حزب «الحرية والديمقراطية المباشرة» في حكومته. وبهذا يكون زيمان قد أوصل حزباً شديد التطرف إلى السلطة رغم دخوله البرلمان بـ22 مقعداً فقط، وبنسبة 10 في المائة من الأصوات.

الارتباط بروسيا
في سياق آخر، مشكلة زيمان ليست فقط في تطرفه ضد المسلمين واللاجئين، بل من مشكلاته أيضاً تعاطُفَه مع روسيا. فمنذ باشر الاتحاد الأوروبي فَرْض عقوبات على موسكو بسبب عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وقف زيمان بقوة ضد العقوبات، وكان من أشد المدافعين عن الكرملين. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنّ أحد أقرب مستشاريه هو مؤسس الفرع التشيكي لشركة النفط الروسية (لوكويل). كما أن حملته الانتخابية واجهت اتهامات بتلقي تمويل من موسكو. وفي تحقيق أجراه جاكوب جاندا نائب مدير منظمة «القيم الأوروبية»، قال جاندا إن «ثلث تمويل حملة زيمان، على الأقل، جاء من جهات مانحة لم يكشف هويتها، مستخدمةً غطاء منظمة غير ربحية مشكوك فيها للإخفاء مصادر المال».
أيضاً ثمة اتهامات كثيرة أخرى متعلقة بارتباط الرئيس التشيكي الجديد - القديم بروسيا وجّهت إليه، خصوصاً عندما بدأت تظهر أخبار مفبركة عن منافسه دراهو على وسائل إعلام مرتبطة بموسكو. وللعلم، بعض هذه المنصات يتمتع حتى بمصداقية مثل مركز براغ للدراسات الأمنية، الذي تحدث عن تعاون دراهو بجهاز البوليس السري أيام حكم الشيوعية. ولكن المركز نشر أيضاً أخباراً كاذبة حول استعداد دراهو لقبول الخطة الأوروبية بإعادة توزيع اللاجئين، رغم أن دراهو نفسه أعلن مراراً رفضه لها، واستعداده فقط لقبول جزء صغير من اللاجئين. وثمة أخبار أخرى مؤذية انتشرت عن دراهو مثل سرقته المزعومة براءات اختراع في علم الكيمياء منسوبة له وارتباطه بجماعات سرية. إلا أن أبشعها وأكثرها أذى وخطورة كانت محاولة تصويره على أنه يتحرّش بالأطفال.

الاتحاد الأوروبي و«ناتو»
عودة، إلى زيمان، لعل أكثر ما يُقلِق أوروبا في ارتباطه بروسيا هو دعوته للتصويت على عضوية التشيك في الاتحاد الأوروبي (التي انضمت للاتحاد عام 2003) وفي منظمة حلف شمالي الأطلسي (ناتو)، إذ سبق له أن دعا، خلال العام الماضي، متشجعاً بقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، إلى استفتاء شعبي مشابه. وقال الرئيس الذي - كما سبقت الإشارة - لا يتمتع بالسلطة للدعوة لاستفتاء كهذا، أمام مجموعة من الناخبين، بحسب راديو التشيك: «لا أوافق الذين يريدون الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكنني سأبذل جهدي لكي يتمتعوا بحق التصويت في استفتاء شعبي للتعبير عن نفسهم. والأمر كذلك بالنسبة للخروج من حلف (ناتو)». وحول هذا الأمر ردّت الحكومة التشيكية بسرعة لإغلاق الباب على أي دعوة شبيهة. وقال المتحدث باسم رئيس الحكومة بوهوسلاف سوبوتكا في حينه: «عضوية التشيك في هاتين المنظمتين ضمان للأمن والاستقرار».
أيضاً ينعكس ارتباط زيمان بروسيا أيضاً في كلامه عن السياسة الخارجية. ففضلاً عن أنه دافع عن احتلال موسكو شبه جزيرة القرم واعتبره «أمراً واقعاً لا يمكنه تغييره»، فهو أيضاً من رافضي الدعوات للإطاحة برئيس النظام السوري بشار الأسد، رغم أن هذا لا يتماشى مع مواقف الاتحاد الأوروبي.

صعود اليمين المتطرف
في مطلق الأحوال، أفكار زيمان كلها شبيهة إلى حد بعيد بأفكار معظم الحركات اليمينية المتطرفة الشعبوية في أوروبا. وحول هذا الشأن كتب الصحافي التشيكي البارز جاكوب بوتوكا بعد فوز زيمان يقول: «زيمان هو نسخة مبتذلة للشعبويين الذي صعدوا في المنطقة، مثل كاجينسكي في بولندا وأوربان في المجر وفيكو في سلوفاكيا. نحن في التشيك لدينا أيضاً إمبراطور إعلام خطير هو آندري بابيش». ويضيف: «أساليبهم الاستبدادية ونشرهم الكراهية تجاه اللاجئين، كلهم دلائل على فشل تحوّل الدول الشيوعية السابقة. علينا الآن أن نواجه الحقيقة المرّة: دول أوروبا الوسطى فشلت بعد الشيوعية ببناء شكل مقبول من الديمقراطية، ومعظمهم يواجه خطراً كبيراً هو خطر الانزلاق إلى الأنظمة الاستبدادية».
وحقاً، يعتبر الكاتب التشيكي أنه حتى في حالات زيمان وفيكو اللذين يأتيان من خلفية يسارية، فإن أساليبهم «أساليب اليمين المتطرف الذي يعتمد على إثارة الكراهية». ويرى أن هذا الوضع يجب أن يقلق كل أوروبا، بقوله: «دول وسط أوروبا في طريقها لأن تصبح مرة جديدة مكاناً فوضوياً لقوميات متنافسة وصراعات جيو - سياسية». ويضيف أنه إذا أرادت «أوروبا تفادي هذا المصير البائس لدول وسطها، سيكون عليها التفكير باستراتيجية شاملة للإصلاح وتعميق الديمقراطية في المنطقة».

علاقته بالصحافة
في الحقيقة، المخاوف التي يعبر عنها بوتوكا، أقرب ما تصدق على التشيك التي انتخبت رئيساً، وعيّنت رئيس وزراء منسجمين ومتشابهين بالأفكار. والأسوأ أن كلاً منهما يحمل أفكاراً سلبية عن الصحافة الحرة. فبابيش آت من إمبراطورية إعلام، لكنه يعتقد أن بإمكانه تطويع الصحافيين لحاجاته السياسية، أما زيمان فلا يكف عن إهانة الصحافيين وتهديدهم. ولقد نقل عن زيمان ذات قوله أن قوله إن الصحافيين «أغبى المخلوقات على الأرض». كما نُقل عنه أيضاً قوله للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه هناك «حاجة لتصفية» صحافيين. وهو كلام سحبه لاحقاً بعد جدل كبير، مع العلم أنه جاء وسط الاتهامات الموجهة لموسكو بتصفية صحافيين معارضين. ولكن التهديد المباشر الأكثر جدية للصحافيين على لسان زيمان جاء يوم الاقتراع في الانتخابات النيابية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عندما جلس في مؤتمر صحافي ورفع بندقية - دمية في وجه الصحافيين. ومع البندقية كانت دمية، فلقد كُتب عليها: «موجهة للصحافيين».
وقال وهو يرفعها بوجه الصحافيين إن أحدهم قدمها له خلال جولاته يغرب البلاد، مضيفاً وهو يبتسم: «انظروا إلى ما كتب عليها». وهنا أيضاً أثارت «مسرحيته هذه» إدانات كبيرة في أوروبا ومن منظمات حقوقية، لا سيما أنها جاءت بعد يوم من اغتيال الصحافية دافني كاروانا غاليتزيا في مالطة بتفجير سيارتها. وبهذا أيضاً تشبه التشيك كلاً من بولندا والمجر اللتين تمارسان ضغوطا متزايدة على الصحافيين. ففي بولندا حوّل الحزب اليميني الحاكم (حزب القانون والعدل) عملياً تلفزيون الدولة إلى قناة ناطقة باسم حكومة الحزب. وفي المجر، أدخل رئيس الحكومة فيكتور أوربان أخيراً قوانين تشدد المراقبة على الصحافيين رغم الانتقادات الشديدة والتحذيرات المتكرّرة من الاتحاد الأوروبي.
وعلى ما يبدو فإن التشيك قد تكون سائرة في الاتجاه نفسه تحت القيادة المشتركة لزيمان وبابيش. أو على الأقل إذا بقي زيمان صامداً في منصبه للسنوات الخمس المقبلة. إذ بدأ الإعلامان التشيكي والأوروبي يتحدثان فور إعادة انتخابه عن صحته المتدهورة ويشككان بقدرته على البقاء في منصبه حتى نهاية فترته الرئاسية، أي لـ5 سنوات إضافية يكون قد بلغ في نهايتها 78 سنة.
ختاماً، سواء استمر الرئيس العجوز، اليساري سابقاً واليميني الشعبوي حالياً، في منصبه، فإنه - على الأقل - أوصل رئيس حكومة يشبهه (بابيش) وزعيماً يمينياً متطرفاً (أوكامورا) إلى السلطة... قد يغيران معاً صورة التشيك خلال فترة قصيرة.



بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.