قناص بيروت

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

قناص بيروت

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

سُئلت إن كنت قد عرفت نتيجة «البوكر» قبل إعلانها. لا أذكر من سأل.
كنت بين مجموعة من الكتّاب والمثقّفين الأصدقاء والمعارف، نتناول إفطارنا في مطعم فندق «فيرمونت باب البحر»، في أبوظبي، حين طرح السؤال، وانتظر الجميع جوابي؛ لأنّ وسائل إعلام كثيرة «تفصْحنت» وأكّدت أنّ النّتيجة معروفة سلفاً. كنت أرتاح لتأكيدها وأشكّ فيه. أتمنّى أن يتحقق ما تقوله ولا أثق فيه. بينما صاحب السؤال، الذي لم أعد أذكره، ومن معه ينتظرون. لم يسأل شهلا العجيليّ، ولا محمود شقير، ولا طارق بكاري، ولا جورج يرق، ولا محمد ربيع؛ لأنّ السّؤال صار يتعلّق بي وحدي، وصار علي أن أجيب عنه. أن أصادق على النّميمة التي يتداولونها، ليتأكدوا أنّها حقيقة. يرتاحون ويطمئنّون إلى «نميمتهم» حول تسريب النّتيجة.
أجبتُ بكلمة واحدة تربك نميمتهم:
«لعم».
كنت أتقلّب بين إحساسي الّذي يرجّح فوز «مصائر»، وتقديري لروايات زملائي الآخرين التي تستحقّ كلّ منها الفوز أيضاً. لم أكن قد قرأت أعمال زملائي الخمسة المتنافسين كلّها. قرأت «حارس الموتى» لجورج يرق، وراقتني كثيراً، وإن احتفظت بملاحظة تتعلّق بعدم قناعتي بالدّافع الّذي أدى إلى تغيير حياة بطله. لم أقل له ذلك. لا أتذكر أنني فعلت. ربّما لأنّني لم أكن متيقّناً من ملاحظتي. ربّما لأنّ لا عملَ أدبيّاً من دون ملاحظات. ربّما لِحِسّ داخلي يشكّكني فيما توصّلت إليه من ملاحظات، ويعرّي رغبة سرية لدي في وضع رواية جميلة وقويّة وجديدة كروايته، خارج الاحتمالات.
لم أحدث جورج عن المشاهد التي رسمها ببراعة داخل برّاد الجثث. لم أحدثه عن سرده الشيق. عن غرابة موضوعه. عن «خبرته» في التعامل مع الجثث في البرادات. بل حدّثته عن شيء آخر أدهشني في تلك الرّواية: عن الصّورة الأخرى لبيروت الشّرقيّة التي قاتلناها نحن وحلفاؤنا من الوطنيين والدّيمقراطيين اللّبنانيين. قصفتنا من شرقها فأدمتنا، وقصفناها من غربها فأوجعناها وأسلنا دمها. كانت هي البادئة، حين اختارت حادثة بشعة افتتحت بها الحرب من حي عين الرمانة. هي بيروتهم هم. بيروت القادة السياسيين المسيحيين الانعزاليين. بيروت القتل العشوائيّ، والذّبح على الهويّة، والتحريض على الفلسطينيين «الغرباء». وهي بيروتنا نحن أيضاً. نصفها الغربي. بيروت المسلمين الوطنيين والتقدميين، والفلسطينيين وقادتهم ومقاتليهم وميليشياتهم التي يتغنّى أفرادها بأسمائهم: أبو الغضب، وأبو الموت، وأبو الجماجم، وصقر الجولان. ويسعد بهم «الأبوات» الكبار والصّغار، وينتشون حين يذكرونهم، أو يرسلون لهم الأوامر.
كانت المشاهد التي رسمها جورج لبيروتهم، ترسم بيروتنا نحن وتقدّم ملامحنا. لم يتغيّر فيها سوى الشّعارات التي أنزلتها الأحزاب في البيروتيْن آيات سياسيّة لا تجوز مناقشتها.
كنت أعرف تفاصيل ملامحنا نحن. كنت مثل غيري، أرى في مقاتلي الكتائب، وحراس الأرز، وأحرار شمعون وغيرهم، صورة نموذجيّة للنّازيين وللفاشيين القتلة. وفي مقاتلينا ثوّاراً محرّرين يملكون الحقيقة كلّها، ويجعلون الجوهر الإنساني حاجزاً يسندون عليه بنادقهم، ويطلقون منه الرّصاص على أعداء الحياة. وكانت رواية «الآخر»، هم، عند جورج يرق، صورة غير التي ألفناها طيلة الحرب. كانت تكشف لنا كيف يروننا هم، وعن بعض ما لهم من ملامحنا. هم الّذين يرون فينا محتلين للبنان متحكّمين بأهله، وغرباء ينبغي كنسهم وسحقهم وإخراجهم من البلاد، ولو أدى ذلك إلى التعاون مباشرة مع إسرائيل. وقد تعاونوا حين واتتهم الفرصة.
أدهشتني الصّورة التي رسمها جورج يرق للقنّاص «المسيحيّ» في شرق بيروت، وهو ينتظر طرائده في غرب بيروت كلّ صباح. صورة تشبه ما رسمه اللّبناني عادل عليّ، زميلي في جريدة «الشرق الأوسط»، الّذي غادرها في أوائل الألفيّة. صورتان مقرّبتان بتفاصيل بانوراميّة لقنّاصين في شرق بيروت وفي غربها، يصطادان أرواحاً بريئة. تُرى، ماذا لو التقى قنّاصان بعد انتهاء الحرب التي دربتهما على الجريمة؟!
يعترف قنّاص عادل علي:
- «قتلت واحداً منذ لحظات، بحكم العادة أو المهنة (...) قتلته بطلقة واحدة في لحظة واحدة، ظننت خلالها أنّني مشرف على الاختناق أو الموت. كانت إصابتي جيّدة تستحقّ التهنئة؛ لكنّه مات، من هو؟ ربّاه لماذا يشغلني هذا السّؤال؟ ما هذه السّخافة؟ قتلت قبله العشرات، من هم؟ يا إلهي، ما لهذا السّؤال بداخلي يثور عليّ؟ وهذا المسؤول يؤنّبني لأنّني أطلقت النّار من دون أمر، ومهنتي لا تحتاج إلى أوامر. هكذا تعلّمتها، وهكذا مارستها. صوّب جيّداً، واقتل بلا رحمة تحصل على تنويه. أطلقت النّار بلا أمر. نعم؛ لكنني قتلت واحداً أيضاً بلا أمر. من هو؟ هذا السّؤال اللعين يثور مجدّداً. يكفي أنّه في الشّطر الآخر وانتهى الأمر. لا، لم ينته. كلّ منا فيه شطر آخر. في قلبك، في عقلك، في جسدك، هناك دائماً شطر آخر، حتّى في ضميرك هناك شطر آخر. فهل تقتل الآخر فيك لمجّرد أنّه آخر؟ وهل يقتلك الآخر فيك لمجرد أنّك أنت؟».
ويروي جورج يرق حكاية «قنّاصه»:
«بو فهد، القنّاص الّذي أتناوب وإيّاه على القنص، أخبرني بأنّ سعادته القصوى عندما يقنص أحدهم ويرى المارّة وهم يتجمهرون حوله. قال إن نوبة من الضّحك تدهمه في تلك اللّحظات، فيستأنف القنص على المحتشدين حتّى يتفرّقوا. ثمّ يكمل القنص على الرجل الجريح إلى أن يتأكّد له موته. ومنتهى التشويق حين يروح يصطاد كلّ من يدنو إلى الضّحيّة. لطالما تباهى بأنّه أردى مسعفاً على الجثّة نفسها التي حاول جرّها إلى مكان آمن. كان يروي المشهد كأنّه يروي نكتة يقطعها ضحكه المفتعل، ويتوّج ابتهاجه بكأس عرق وتوابعها، حالما يسمع من الرّاديو، أو من أحد الرفاق، أنّ مواطناً سقط برصاص القنص في المحلّة الواقعة على مرمى ناره. كان الخبر الإذاعي بمنزلة شاهد إثبات».
قنّاصان يشوّشان على «نشرة الأرصاد الأمنيّة»، التي كان يعدّها المذيع شريف الأخوي واشتهرت به وشَهَرَتْه، حين حوّلته ركناً من أركان الحرب الأهليّة، شريكاً لهما في لعبة موت أرادها لعبة حياة. كانا في البيروتين يقتلان قنصاً، وكان هو يبثّ نشرته الأمنيّة، من مواقع الحدث ومراكز الموت المحتمل. لا يلاحق شمساً لنشرة جوّيّة، ولا يقبض على غيوم أو تجمّع مطر لأرض فلاح، ولا ريحاً لشراع سفينة صيد. كان يتابع مسارات تقلُّب أمزجة المتقاتلين. يلاحق حركة القنّاصين والخاطفين، وخريطة انتشار الرّصاص في معابر المتحف، والبربير، وعين الرّمّانة، وشارع بشارة الخوري، ومناطق التماسّ الأخرى، حيث يسكن موت لا يستريح إلا لمسافة زمنية تكفي لتمرير النّشرة، وطمأنة اللّبنانيين في شطري بيروت: الشّرقي والغربيّ، بأنّ طرقاتهم «سالكة وآمنة». عشرون ساعة في اليوم، جعلت «سالكة وآمنة» أجمل نميمة على ألسنة جميع البيروتيين. كلمة سرّ مفضوح لخروجهم من مخابئهم وبيوتهم وطوابق عماراتهم السّفلى، لقضاء حاجاتهم، وشراء بعض الموادّ التموينية الضروريّة، أو لدفن ميّت إن وجدوا مسافة ما بين قذيفتين أو رصاصتين، أو عزاءين. وكثيراً ما أخطأت أرصاد شريف الأخوي، كما تخطئ الأرصاد الجوّيّة في نشرات التلفزة البريطانيّة. تتنبّأ بيوم لندني دافئ، فأخرج إلى العمل بلا مظلّة في حقيبتي، وقبل أن أصل تستقبلني أمطار ساخرة، تؤكّد أنّني لم أزل ألْدغ من جحر النّشرات الجوّيّة مرّات.
قنّاصك يا جورج وقنّاص عادل، فَهِما اللّعبة وحوّلا النّشرة لمصلحتهما، وأسقطا مطراً من رصاص وزّعاه قطرة قطرة، رصاصة رصاصة، قتيلاً قتيلاً. ونشرة الأخوي تواصل التأكيد، على أن طريق العبور بين شطري بيروت «سالكة وآمنة».
عقّب جورج:
- «يا خيي الأناص (القنّاص) أناص... هون واللا هون... بس كلّ واحد منّن (منهم) بقتل لحساب الطّنزيم (التنظيم) بتاعوله».

* فصل من كتاب «سوبر نميمة»، الذي يصدر خلال الشهر الحالي، عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في بيروت، و«مكتبة كل شيء» في حيفا، وفي طبعة مصرية عن «دار العين» في القاهرة.


مقالات ذات صلة

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

ثقافة وفنون جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة....

ميرزا الخويلدي (الشارقة)
ثقافة وفنون مائة عام على صدور كتاب الريحاني «ملوك العرب» (دارة الملك عبد العزيز)

الرياض تحتفي بالريحاني وبكتابه «ملوك العرب» في مئويته الأولى

استعرض المشاركون في الندوة إسهامات الريحاني بوصفه كاتباً متعدد المجالات وأكدوا أهمية توثيق تاريخ المنطقة ومجتمعاتها.

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون أمين الريحاني

«ملوك العرب» في مئويّته: مُعاصرنا أمين الريحاني

قيمة كتاب «ملوك العرب» كامنة في معاصرتها لحياتنا ولبعض أسئلتنا الحارقة رغم صدوره قبل قرن. ولربّما كانت قيمة الريحاني الأولى أنه لا يزال قادراً على أن يعاصرنا.

حازم صاغيّة
كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».