«فرانكنشتاين» وعصرنا... من يعيد الجني إلى القارورة؟

200 عام على صدور رواية ماري شِلي

«فرانكنشتاين» وعصرنا... من يعيد الجني إلى القارورة؟
TT

«فرانكنشتاين» وعصرنا... من يعيد الجني إلى القارورة؟

«فرانكنشتاين» وعصرنا... من يعيد الجني إلى القارورة؟

اءت رواية فرانكنشتاين في لحظة تاريخية مهمة كان الغرب يمر بها، فهناك من جانب صعود الفكر العلمي الذي رسخه مفكرو عصر التنوير خلال القرن الثامن عشر والذي بفضله اكتسبت العلوم التطبيقية منهجية قائمة على التجربة والاختبار؛ أي سيادة العقل على العاطفة، ومن جانب آخر بروز الحركة الرومانتيكية منذ أوائل القرن التاسع عشر والتي كانت تنادي بالعودة إلى الطبيعة وبضرورة تحقيق الإنسان لرغباته وقدراته من دون معوقات خارجية؛ أي سيادة العاطفة على العقل. وكان للشعراء الإنجليز مثل برسي شِلي واللورد بايرون وجون كيتس دور مهم في ترسيخ ملامحها عبر أشعارهم وعبر خياراتهم الحياتية. ولم تكن ماري بعيدة عن هذا الجو، فزوجها الشاعر شِلي كان منغمرا بمشروع كتابة مسرحية تحمل عنوان مسرحية المؤلف الإغريقي أسخيلوس المفقودة: «بروميثيوس طليقا»، وفيها جسد روح التمرد لدى هذه الشخصية الأسطورية التي سرقت النار من المجمرة الإلهية ومنحتها للإنسان فعوقبت على يد كبير الآلهة الإغريقية زيوس بشده على صخرة وهجوم نسر عليه كل يوم ليلتهم كبده المتجدد عقابا على تمرده. وحسب تأويل شِلي في مسرحيته الشعرية هذه، فإن لبروميثيوس القوة الكافية لمجابهة زيوس، بدلا من إيجاد نوع من المصالحة معه والتنازل له كما أشارت بعض الكتابات القديمة عن مسرحية أسخيلوس الأصلية.
صدرت الطبعة الأولى من رواية «فرانكنشتاين» قبل 200 عام، وبالضبط في يناير (كانون الثاني) من عام 1818 من دون الإشارة إلى اسم المؤلفة التي لم يتجاوز عمرها العشرين، في وقت ما زال شكل الرواية الكلاسيكي الذي أرساه الرواد الكبار مثل بلزاك وستاندال وفلوبير وديكنز لم يتحدد بعد، فلا أحد منهم كان نشر أي رواية حتى ذلك الوقت.
ولذلك فإن الحبكة التي استندت إليها ماري شلي تعتمد على تقليد شهرزاد في سرد حكاياتها واحدة بعد الأخرى، فهناك الشاب القبطان روبرت والتون الذي يسعى إلى تحقيق اكتشاف طريق بحري ينقله من القطب الشمالي إلى منطقة دافئة، وخلال رحلته يتواصل مع أخته عبر المراسلة، ثم هناك فرانكنشتاين الذي ينقذه بحارة هذه السفينة فيبدأ بسرد حكايته مع مخلوقه المسخ لقبطان السفينة والتون، وخلال ذلك القص نسمع حكاية المسخ فيما عاناه من البشر على لسانه، ليعود صوت القبطان لاحقا في تواصله مع أخته.
في الرواية هناك إشارة لقصص السندباد البحري، وهذا ما يجعل فكرة خروج الجني من قارورة الصياد ثيمة أساسية في الرواية، بعد تمويهها بإطار العلم والتكنولوجيا اللذين بدآ يرسمان ملامح عصر البخار، جنبا إلى جنب مع بروز النظريات الأولية عن الكهرباء المكتشفة للتو، وعن قدراتها التي ما زالت غامضة في عقول العلماء والباحثين. غير أن عدم معرفة ماري شلي بالأسس العلمية التي يمكن معها تحقيق ترقيع أجزاء تعود لجثث عديدة، لخلق كائن جديد ثم بث الحياة في الكائن، جعلها تختصر كل هذه العملية بالفصل الرابع من الرواية، بشكل غامض، ومن دون تقديم أي آلية أو مبررات مقنعة، فبعد صفحات قليلة نرى هذا الكائن واقفا بجانب خالقه الطالب الجامعي فرانكنشتاين فيهرب الأخير منه.
ما يترتب على الحكاية هو قتل المسخ لأخي فرانكنشتاين الأصغر وعروسه انتقاما على خلقه إياه بعد أن لاقى نفورا ورفضا كاملين من الناس جعلاه يعاني من الوحدة، عدا عن الإساءات التي كانت تلحق به من قبلهم مقابل مساعدته لهم.
لن ينجح فرانكنشتاين في التخلص من المسخ الذي خلقه لأن قدرات الأخير الجسدية في الركض وقطع البراري والبحار من دون واسطة نقل تجعله أقرب لسوبرمان منفلت العقال في شروره، ولن يهلك هذا المسخ إلا بعد وفاة فرانكنشتاين تحت وطأة الندم واليأس.
لم تلق رواية فرانكنشتاين نجاحا كبيرا عند صدورها، فالرواية الواقعية الصاعدة جذبت أوسع القراء إليها، حيث شكلت المتعة الشعبية الأولى آنذاك، ولعل ذلك كان وراء عدم الإعلان عن اسم مؤلفتها حتى في الطبعة الثانية ولم يتم الكشف عن اسم ماري شلي إلا في الطبعة الثالثة عام 1838.
بشكل عام، لم تحظ ماري شلي بالشهرة والنجاح الكبيرين اللذين تمتعت به الكاتبات آنذاك على قلتهن مثل الأخوات برونتي وجورج إليوت على الرغم من إصدارها سبع روايات أخرى.
غير أن حظوظ النجاح انقلبت لروايتها البكر بعد مرور أكثر من قرن، وبعد ظهور السينما فكان إنتاج أول فيلم صامت مقتبس من فرانكنشتاين عام 1910.
ومنذ ذلك التاريخ والأفلام السينمائية المقتبسة عن رواية فرانكنشتاين تتوالى، إذ بلغت حتى عام 2005 عددا يربو على 75 فيلما، ناهيك عن عدد لا محدود من العروض المسرحية والموسيقية وكتب الروايات المصورة والألعاب.
غير أن تأثير الرواية تجاوز كثيرا حضورها الكبير في السينما والمجالات الفنية الأخرى، فهي كانت حجر الأساس الذي تأسس عليه صنف أدب الخيال العلمي منذ أوائل القرن العشرين.
وما منح الرواية، التي تغلغلت في مخيلة الفتاة ماري شِلي في البدء ككابوس، تلك القوة على التأثير بعد مرور أكثر من قرن هو التماثل المجازي بين علماء القرن العشرين والعالم المُتخيَّل فرانكنشتاين، فهم يشبهونه في ذلك الطموح باختراق المجهول ظنا منهم أنهم سيخدمون البشرية، وهم في جهودهم المضنية تمكنوا من اكتشاف الذرة أولا، ثم مضوا خطوة أبعد بالتمكن من إطلاق ما بداخلها من أشعة قاتلة بعد تفجير نواتها، فكانت هناك كوارث هورشيما وناكازاكي وتشيرنوبل التي راح ضحيتها عشرات الألوف من البشر. وفي مجال علم الوراثة ساعد الكشف عن الحمض النووي والجينات على بروز الهندسة الوراثية كحقل خصب يساعد على تحسين شروط العيش، لكنه في الوقت نفسه قابل للاستغلال وإطلاق مسوخ كثيرة تتجاوز بمسافة بعيدة مسخ فرانكنشتاين، إذ ما عادت هناك ضرورة لتكرار محاولات بطل رواية ماري شلي الساذجة في تجميع أجزاء الجسم البشري وتخييط بعضها ببعض بل بالإمكان تحقيق ذلك من خلال التلاعب بجينات بويضة مخصبة أو حتى بخلية عادية كما هو الحال في الاستنساخ الوراثي الذي بدأ باستنساخ نعجة أطلِق عليها اسم دولي عام 1996.
وعلى الرغم من كثرة وتنوع روايات وأفلام الخيال العلمي فإننا نجد أن معظمها يكرر العقدة الأساس والجوهرية في رواية فرانكنشتاين، وهذه تتمثل في تورط علماء الفضاء أو الوراثة أو الذرة بالمضي خطوات بعيدة في اكتشافاتهم النظرية، ثم انتقالهم إلى تطبيقها على أرض الواقع دون معرفة نتائجها على الأمد البعيد، وهذا تحت تأثير إغراء المال أو سطوة فضول مهووس أو هيمنة وهم ما بأن الاختراع سيصب في خدمة البشرية، ثم تأتي النتائج عكس ما كان يتوقعه هؤلاء العلماء.
لعلي أجد في ماري شِلي شهرزاد أخرى عاشت عصراً قريباً لنا: عصراً بلغ به الإنسان مفترق طرق: بين العلوم والتكنولوجية المقنِّنة لحرية الإنسان ونوازعه، وبين ما تمنحه من قدرات للإنسان في تغيير قدره وقدر ملايين البشر من حوله.
ولعلي أجد في رواية فرانكنشتاين حكاية أخرى من حكايات شهرزاد بصيغة أحدث: إنها حكاية صياد السمك الذي وقعت في شبكته قارورة مختومة وحين فتحها خرج منها جني عملاق أراد قتله. لكن صيادنا أقدر من فرانكنشتاين في النجاة عبر الحيلة حين شكك بحقيقة خروج الجني من القارورة فما كان من الأخير إلا أن عاد إلى القارورة، ليثبت صحة دعواه، فأسرع الصياد بإغلاق غطائها. فهل بالإمكان إعادة الديناصورات إلى حمضها النووي وإعادة الطاقة النووية إلى ذراتها؟



افتتاح «مركز الدرعية» الوجهة الأولى لفنون الوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
TT

افتتاح «مركز الدرعية» الوجهة الأولى لفنون الوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)

نحو إثراء المشهد العالمي لفنون الوسائط الجديدة عبر تقديم وجوه إبداعية من المنطقة، تجمع بين الفن، والتكنولوجيا، والابتكار، افتتح مركز الدرعية لفنون المستقبل أبوابه رسمياً، اليوم (الثلاثاء)، بوصفه أول مركز مخصص لفنون الوسائط الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، متخذاً من منطقة الدرعية التاريخية المسجّلة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي موقعاً له.

ويأتي المركز في مبادرة تجمع بين وزارة الثقافة، وهيئة المتاحف، وشركة الدرعية في السعودية، في الوقت الذي انطلق ببرنامج متنوع يشمل أنشطة ومعارض فريدة ومبادرات تفاعلية مع الجمهور، مع التركيز على تمكين الفنانين والباحثين ومتخصصي التكنولوجيا من داخل المنطقة وخارجها، في بيئة إبداعية مجهزة بأحدث المختبرات والاستوديوهات الرقمية ومساحات العرض المبتكرة.

وقالت منى خزندار المستشارة في وزارة الثقافة السعودية إن «مركز الدرعية لفنون المستقبل يجسّد التزامنا بتطوير الإنتاج الفني المبتكر واحتضان أشكال جديدة من التعبير الإبداعي، فمن خلاله نسعى إلى تمكين الفنانين والباحثين ودعمهم لإنتاج أعمال بارزة والخروج بأصواتهم الإبداعية إلى الساحة العالمية».

وأشارت إلى أن المركز سيُوظّف مساحاته للتعاون والإبداع لترسيخ مكانة المملكة في ريادة المشهد الثقافي والتأكيد على رؤيتها في احتضان أشكال التعبير الفني محلياً وعالمياً.

من جانبه، بين الدكتور هيثم نوار مدير مركز الدرعية لفنون المستقبل أن افتتاح المركز يمثّل منعطفاً في السردية القائمة حول فنون الوسائط الجديدة، لكونه يخرج بالمرئيات والتصوّرات الإقليمية إلى منابر الحوار العالمية.

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)

وقال: «إن المركز سيتجاوز حدود الإبداع المتعارف عليها نحو آفاق جديدة، وسيقدّم للعالم مساحة للابتكار والنقد الفني البنّاء عند تقاطع الفن والعلوم والتكنولوجيا».

وتتزامن انطلاقة مركز الدرعية لفنون المستقبل مع افتتاح معرضه الأول بعنوان «ينبغي للفنّ أن يكون اصطناعياً... آفاق الذكاء الاصطناعي في الفنون البصرية» خلال الفترة من 26 نوفمبر (تشرين ثاني) إلى 15 فبراير (شباط) المقبل، حيث يستكشف المعرض، الذي أشرف عليه القيّم الفني جيروم نوتر، تاريخ فن الحاسوب منذ نشأته في ستينات القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر، من خلال أعمال فنية متنوعة تحمل توقيع أكثر من 30 فناناً إقليمياً وعالمياً.

وسيحظى الزوار بفرصة استكشاف أعمال من صنع قامات في الفن أمثال فريدر نايك (ألمانيا) وفيرا مولنار (هنغاريا/فرنسا) وغيرهما من المُبدعين في ميادين الابتكار المعاصر مثل رفيق أناضول (تركيا) وريوجي إيكيدا (اليابان).

وسيكون للفنانين السعوديين لولوة الحمود ومهند شونو وناصر بصمتهم الفريدة في المعرض، حيث يعرّفون الزوّار على إسهامات المملكة المتنامية في فنون الوسائط الجديدة والرقمية.

وبالتزامن مع الافتتاح، يُطلق المركز «برنامج الفنانين الناشئين في مجال فنون الوسائط الجديدة»، بالتعاون مع الاستوديو الوطني للفن المعاصر - لوفرينوا في فرنسا. ويهدف البرنامج، الذي يمتد لعام كامل، إلى دعم الفنانين الناشئين بالمعدات المتطورة والتوجيه والتمويل اللازمين لإبداع أعمال متعددة التخصصات.

وأعلن المركز عن برنامج «مزرعة» للإقامة الفنية، المخصص لفناني الوسائط الرقمية، في الفترة من فبراير (شباط) حتى أبريل (نيسان) 2025، ويهدف إلى استكشاف العلاقة بين الطبيعة والتكنولوجيا والمجتمع من خلال موارد المركز.

ويجسد مركز الدرعية لفنون المستقبل «رؤية السعودية 2030»، التي تسعى إلى تعزيز الابتكار، والتعاون العالمي، وترسيخ مكانة المملكة بوصفها وجهة رائدة في الاقتصاد الإبداعي العالمي.