هل لا تزال المعركة مع «داعش» طويلة وممتدة بخلاف ما هو ظاهر للعيان من أنها انتهت وحسمت عسكرياً على الأرض بعد انكساراتها في العراق وسورياً؟ ربما بات هذا السؤال يشغل أذهان الأميركيين بنوع خاص أكثر من غيرهم؛ ولهذا أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة «ميريلاند» الأميركية، بالتعاون مع معهد «بروكنجز» للأبحاث، أن 70 في المائة من الأميركيين يرون أن تنظيم داعش يمثل أكبر تحدٍ يواجه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
غير أن السؤال محور هذا الحديث: هل لا يزال «داعش» يهدد الولايات المتحدة الأميركية في الداخل، وعليه يمكن القطع بأن استراتيجية ترمب قد أفلحت بدرجة ما في مواجهة الدواعش خارج الحدود الأميركية وأخفقت في الداخل؟
تقتضي الموضوعية الإشارة إلى أن ترمب، ومن قبل أن يدخل البيت الأبيض، كانت نواياه واضحة لجهة محاربة «داعش» والقضاء على فلوله، ولاحقاً حينما أضحى صانع القرار بوصفه رئيس البلاد اعتمد سياسة زيادة الانخراط العسكري في سوريا من خلال تقديم التدريب والمشورة، والدعم الجوي، حتى وإن لم يلتزم بالانخراط المباشر في المعارك وتجفيف منابع تمويل الإرهاب، وتعطيل عمليات تجنيد المقاتلين الجدد في صفوف التنظيم. عطفاً على ذلك؛ فقد اتبع ترمب سياسة اللامركزية على الأرض، وذلك حينما أعطى العسكريين صلاحيات أكبر لاتخاذ قرارات ميدانية في تسريع العمليات. تمثلت نجاحات ترمب في تحرير 40 ألف كيلومتر مربع من المواقع التي احتلها التنظيم، وكذا إفلات 5.3 مليون شخص من قبضة «داعش» خلال أحد عشر شهراً.
وعلى الجانب العراقي، كان لدول التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الدور البالغ في تحرير الموصل، فقد ضغطت إدارة ترمب بشكل فاعل على الدول الداعمة للإرهاب من أجل تجفيف المنابع؛ ما عزز فرص هزيمة «داعش»، ولاحقاً تم تحرير مدن أخرى عراقية مثل تلعفر والحويجة والقائم وراوه. في هذا الإطار، ينبغي الإشارة إلى أن التواجد الأميركي المسلح في سوريا لن ينتهي قريباً، وهذا ما أشار إليه وزير الخارجية ريكس تيلرسون، والهدف عدم إتاحة الفرصة لإيران وقوات النظام السوري لاحتلال المناطق التي تم تحريرها.
تهديدات «داعش» لأميركا
لم ينقطع سيل التهديدات الداعشية للولايات المتحدة، فضلاً عن العمليات المختلفة التي جرت من مؤدلجين تابعين له في ولايات مختلفة، منها نيويورك وكاليفورنيا، وهو أمر توقعه رجالات الاستخبارات الأميركية منذ وقت مبكر، وفي مقدمهم جيمس كلابر، الذي شغل منصب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية في عهد باراك أوباما، فقد أشار في مقابلة له مع قناة «سي إن إن» الإخبارية الأميركية، إلى أن تنظيم داعش الإرهابي قادر على شن هجمات في الولايات المتحدة مماثلة لتلك التي وقعت في باريس وبروكسل، وهو ما جرت به الأقدار بالفعل. على أن قرار الرئيس الأميركي الأخير والمثير بشأن اعتبار القدس عاصمة لدولة إسرائيل، عطفاً على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، قد دفع «داعش» لتجديد تهديداته الإرهابية للولايات المتحدة بشأن هجمات جديدة على أراضيها، وذلك عبر قناة تابعة له في تطبيق «تلغرام»؛ فقد عرض صوراً لميدان تايمز سكوير الشهير في قلب مدينة نيويورك، ومن تحته عنوان «انتظرونا» و«داعش في مانهاتن»، وفي صور أخرى يهدد «داعش» بتنفيذ هجمات إرهابية في واشنطن وولاية كاليفورنيا، تحت عناوين «بيتكم الأسود سننسفه: (وعد الله، ولا يخلف الله وعده)» وكان ذلك في منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وبعد نحو شهر تقريباً أو أزيد بضعة أيام بدا وكأن المشهد في الولايات المتحدة يتخذ تطوراً آخر ما بين الحرب الدعائية، وبين المخاوف الفعلية... ما الذي جرى؟
«داعش» للأميركيين: نحن هنا بينكم
هل يشنّ «داعش» في الأيام الأخيرة حرباً دعائية ضد الولايات المتحدة الأميركية، أم أنه يخطط بالفعل لشن هجمات إرهابية كفيلة بأن توقع كثيراً من الضحايا، الأمر الذي يقض مضاجع الأميركيين فعلاً وقولاً؟
قبل نحو أسبوع ظهرت عبر وسائل الإعلام صور روّجها تنظيم داعش لبعض من أتباعه مرتدين أوشحة، وفي بقعة جغرافية تتطابق بالمطلق مع الفضاءات الفسيحة لمدينة نيويورك ومن تحتها رسالة «نحن في وطنكم»، في حين المعلق على الصورة التي بثت على الحواضن الإعلامية لـ«داعش» يقول: «لقد حان الوقت لحصد الرؤوس».
والشاهد أنه حال تحليل المشاهد والصور المتقدمة يمكن القول إن الخطر الحقيقي الآن بات من الخلايا الهامشية على جانبي «داعش»، وليس من كوادر التنظيم نفسه، وهذا أمر شديد الفاعلية السلبية، وأضراره أكثر فداحة من هجمات «داعش» المباشرة... كيف هذا؟
حين خسر «داعش» مدينة «الرقة» فقد خسر معها بوصفها عاصمة دولة الخلافة المزعومة، الأدوات الإعلامية الاحترافية كافة، كالاستوديوهات وقسّم وسائط الإعلام، ومراكز الإنتاج التي كانت تخرج على العالم بمجلة «دابق» وبأشرطة فيديو محترفة تمجد فضائل الحياة تحت الحكم الإسلامي المسلح، كان ذلك واضحاً جداً.
غير أن صور نيويورك الأخيرة تأخذنا في طريق أخرى، بمعنى أن الذين قاموا عليها يبدو أنهم من الهواة، لا من المحترفين، وهؤلاء عادة ما يكونون من المدونين والمتطوعين، وليسوا من التابعين النظاميين لـ«داعش»؛ ما يجعل السؤال المزعج يتردد من جديد... هل نجح «داعش» عبر التواصل الإلكتروني، وهل ينجح وسينجح كل يوم في اكتساب عناصر جديدة تمضي في طريق الموت والأشواك التي يزرعها صباح مساء كل يوم؟
هنا تتبدى الملامح الكارثية للتنظيم والتداعيات المقلقة للأميركيين ولغيرهم بعد أن قدر لـ«داعش» استخدام أبواق ومنصات إعلامية مستقلة، قادرة على توزيع النداءات محددة الأهداف، بعشرات اللغات المحلية.
القضية الكبرى والقاتلة هنا هي أن العناصر العنقودية للجماعات الإرهابية كافة يمكن متابعتها ومراقبتها على مدار ساعات النهار والليل، غير أن النداءات عبر الأثير تأتي اليوم للدواعش بأفراد جدد لديهم استعداد فطري للتطرف، عبر الاختراق الذهني المغلوط، وهؤلاء لا يعرف أحدهم مكانهم أو زمانهم، أي زمان تخطيطهم لارتكاب أعمالهم الإرهابية؛ ولهذا فإن شرورهم هي الأكثر استفحالاً من عناصر «داعش» المعروفين.
الجنرال تاونسند والخلافة الأميركية
في تصريح حديث له قال الجنرال ستيفن تاونسند، القائد السابق للتحالف ضد «داعش»: إن تدمير «خلافة (داعش)» لا يعني تدمير التنظيم، متوقعاً تواجد ما يسمى «الخلافة الإلكترونية»، مضيفاً إن: «أتباعه سيحاولون إيجاد فروع لهم في أماكن أخرى حول العالم».
على أن الحديث عن «الخلافة الإلكترونية» هو حديث مزدوج؛ فهو من جهة يسعى إلى تجنب المزيد من العناصر الإرهابية؛ وذلك بالانتقاء من تجمعات بشرية غير معروفة لعناصر الأمن والاستخبارات الأميركية أو الأوروبية على حد سواء.
في هذا السياق، تضحى مسألة المواجهة الأمنية أو العسكرية غير ذات جدوى، وتحتاج المقاومة إلى حرب إلكترونية لمتابعة فريق شديد المهارة من رجالات «داعش» المهرة في التقاط عناصر لديها أبجديات الأصولية المتطرفة، وهؤلاء معرفتهم يسيرة عبر كتاباتهم أو تعليقاتهم على «فيسبوك»، و«تويتر»، وصورهم وما يدونون عبر «إنستغرام»، وبقية أدوات التواصل غير الخلاقة.
أما الطريق الثانية والأكثر خطورة في سياق الحديث عن «الخلافة الإلكترونية»، فيتمثل في المحاولات المستمرة والمستقرة من خبراء التنظيم الإلكترونيين لاختراق شبكات البريد الإلكتروني للمسؤولين الأميركيين، وللعناصر الأمنية والاستخباراتية بنوع خاص.
وهنا نذكّر بأن الدواعش قد اخترقوا بالفعل من قبل صفحات جنود ودبلوماسيين أميركيين، ونشروا أسماءهم وأرقام هواتفهم، وفي بعض الحالات عناوين منازلهم وأرقام بطاقات ائتمانهم، ويومها كتب الدواعش عبر صفحاتهم على شبكة الإنترنت «اعلموا أننا ندخل إلى بريدكم الإلكتروني وأنظمة حواسيبكم، نستخرج البيانات السرية ونرسل معلوماتكم الشخصية لجنود الخلافة، الذين سرعان ما - بإذن الله - سيضربون أعناقكم على أراضيكم». المنطوق السابق يدفعنا دفعاً إلى التساؤل: هل من معين بشري بعينه قريب من الحدود الجغرافية للولايات المتحدة الأميركية، يمكن أن يشكّل خطورة بعينها على الداخل الأميركي، بجانب التجنيد عبر الفضاء الإلكتروني؟
الخطر القادم من الكاريبي
قليلون جداً هم الذين قدّر لهم معرفة طرف من خيط عن نقطة في بحر الكاريبي يطلق عليها «جمهورية ترينيداد وتوباغو»، والواقعة في بحر الكاريبي بالقرب من فنزويلا في أميركا الجنوبية، ويبلغ تعداد سكانها نحو 1.3 مليون شخص. من هذا المكان التحق نحو 125 شخصاً بـ«داعش» خلال الأعوام الماضية؛ الأمر الذي جعلها حاضنة متوقعة للمزيد من الإرهابيين القريبين من حيث المسافة من قلب أميركا، ولا سيما أن الرحلة من هناك إلى الولايات المتحدة لا تزيد على ثلاث ساعات.
في حين الخطورة الأكبر هي أن العناصر الموالية لـ«داعش» في تلك المنطقة بعيدة كل البعد عن أعين المراقبة الأمنية، حتى بعد أن أدرجت السلطات الأميركية «الجمهورية المغمورة» في قائمة بؤر التطرف المحتملة.
ولعل ما زاد من خطورة تلك العناصر هو الأدوات الجديدة التي يعمد التنظيم إلى تفعيلها في الداخل الأميركي، ولا تحتاج إلا إلى مواطنين محليين أو زائرين مؤقتين، متواجدين على الأراضي الأميركية.
في تقرير لوكالة أنباء «يورو نيوز» نقرأ عن أحدث سلاح للدواعش في الداخل الأميركي، سلاح ربما يتسق مع تبرير «إرهاب الابتكار»؛ فقد دعا التنظيم الإرهابي إلى تسميم الطعام في المحال التجارية في الولايات المتحدة بمادة «السيانيد»، وقد نقلت هذه الرسالة مجموعة «إنتل سايت»، مشيرة إلى أحدث التخطيطات الإجرامية التي يحيكها «داعش» بدقة، والمعروف أن السيانيد من أسرع السموم قتلاً وأشدها فتكاً، وحال الربط بين فك شفرة «الذئاب المنفردة» من جهة، وطرح تسميم الأغذية والمأكولات، وضخ سم السيانيد في الأغذية الموجودة في الأسواق تضحى أميركا وغيرها من مدن العالم الكبرى، إزاء كارثة غير مسبوقة.
هل لهذا السبب تؤكد المباحث الاتحادية الأميركية (إف بي آي) على أن «داعش» لا يزال التهديد الأكبر للولايات المتحدة؟ المؤكد أن ذلك كذلك، والعهدة هنا على كريستوفر راي مدير مكتب «إف بي أي» الذي أعلن في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، أن تنظيم داعش إلى جانب متطرفين محليين، باتوا يمثلون أكبر تهديد إرهابي على أميركا، وقد جاء ذلك خلال جلسة استماع نظمتها اللجنة المعنية بالأمن القومي لدى مجلس الشيوخ الأميركي، حيث أشار إلى أن مكتب التحقيقات يواصل الكشف عن أميركيين محليين يسعون للسفر للانضمام إلى «داعش» والقتال تحت رايته، عطفاً على تخطيطهم لارتكاب أعمال عنف داخل البلاد.
«إنتل سايت» وصحوة «داعش»: في الأسبوع الثاني من شهر يناير (كانون الثاني) الحالي، وعبر تغريدة له، كتب السير جنت ميجور «جون تروكسل» الذي يمثل ضباط الصف في هيئة الأركان الأميركية يقول: «إن على مقاتلي (داعش) أن يدركوا أن لديهم خيارين عندما يجدون أنفسهم في مواجهتنا: إما الموت أو الاستسلام». وتابع: «لكن إذا اختاروا ألا يستسلموا، فسنقتلهم بعنف كبير، إما بمساعدة قوات الأمن، أو بإلقاء القنابل عليهم، أو إطلاق النار على جماجمهم، أو ضربهم حتى الموت بأدوات حفر الخنادق»..
على أن تطورات المشهد الداعشي لا تتقيد بأنهم قد تأثروا على نحو أو آخر بتصريحات الضابط الأميركي الكبير والدليل حالة الصحوة التي تنتاب وكالة «أعماق» صوت «داعش»، للمرة الأولى منذ سقوط الرقة، منتصف سبتمبر الماضي؛ فقد أصدرت من جديد بياناتها باللغة الإنجليزية، وبحسب مجموعة المخابرات «سايت»، التي تراقب المحتوى الأصولي حول العالم، فإن الأسابيع الأولى من 2018 قد شهدت صعوداً حاداً في حسابات التواصل الاجتماعي المؤيدة لـ«داعش» مقارنة بالأشهر السابقة.
وفى تصريح لها تقول ريتا كاتنز، المديرة التنفيذية لـ«سايت»: «تظهر الدولة الإسلامية الآن العلامات الأولى لإعادة تجميع وسائل الإعلام»، وتضيف «عانى التنظيم من انتكاسات كبرى، بسبب هجمات التحالف والنظام، لكنه يتخذ الآن خطوات كبيرة لإعادة تجميع عملياته الدعائية التي تعتبر أحد أسلحته الخطيرة».
هل تهديدات نيويورك الأخيرة واقع إرهابي محتمل، أم جزء من تلك الخطة الدعائية لإرباك الأميركيين وإدخال الرعب إلى قلوبهم؟
وتبدو الاحتمالات كافة مفتوحة، في حين المؤكد والمقطوع به تحول «داعش» من تنظيم لوجيستي إرهابي، إلى نظرية تكفيرية مؤدلجة، تنشر عبر الفضاءات المسمومة ذهنية حول العالم، وطالما سادت تلك الآيديولوجية التكفيرية، فإن الدواعش سيظهرون بأسماء وأشكال مختلفة، وقد تمتد المواجهة والمجابهة لعقدين أو ثلاثة عقود تالية، ومنا هنا ربما يتوجب على البروباغندا الأميركية بقيادة الرئيس ترمب أن تقلل من لهجة انتظارها؛ فالحرب مستمرة والصراع قائم مع «داعش» ومن لف لفها.